أدرجت هذه المقابلة في العدد التاسع من مجلّة البشير الصادرة عن ممثّلية المصطفى (ص) في لبنان
تحدّث فيها سماحته عن علاقته بالإمام الخميني (قده)
لا شكّ في أنّ وجود الإمام هبةٌ من الله سبحانه وتعالى للمسلمين عامّةً، وللشيعة خاصّة؛ فهو مصداق الآية: {ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}، ومصداق ما ورد في الحديث النبوي من أنّ الله يأبى إلا أن يجدّد أمر هذا الدين على رأس كلّ قرنٍ.
ثمّ إنّ الله تعالى إذا أراد أمراً هيّأ له أسبابه, وهذا ما يلاحظه المتأمّل في الظروف المحيطة بنهضة الإمام(قده) ، فقد كانت مشابهةً لظروف بعثة النبي(ص) , حيث لا يخفى كم كانت الظروف صعبةً أيّام الشاه في إيران, وأيّام غيره من طواغيت المنطقة، وخصوصاً صدّام في العراق. لكن في المقابل: كما أحيا عيسى(ع) الموتى، أحيا الإمام(قده) هذه الأمّة, وكما أسقط موسى(ع) فرعون، أسقط الإمام(قده) فراعنة إيران، مع فارق كونه بلا عصا ولا يدٍ بيضاء.
قبل الإمام(قده) ، من الذي سيغيّر؟
من الحوادث الدامية التي سبقت نهضة الإمام(قده) ، والتي كانت مؤثّرة بشكل كبير على الساحة الإيرانية: حادثة إعدام رئيس "فدائيي الإسلام" السيد نواب الصفوي. أتذكّر تلك الحادثة جيداً، وأتذكّر كيف وقف الشهيد السيد نواب وهو على مصقلة الإعدام, وهو ينطق بشعار فدائيي الإسلام: "العزّة لله", وهو يجسّد أفضل أنواع الجهاد؛ وهو كلمة حقّ في وجه سلطان جائر.
أثارت هذه الحادثة النفوس، واشتعل الغضب لدى الشباب الثائر, وصار لدينا شعور بالحاجة لعامل جذريٍّ يغيّر الأوضاع, لكنّنا لا نعلم من؟ ومتى؟ وكيف؟
وجاء الإمام(قده)
استمرّت الأمور على هذه الحال، إلى أن ظهر الإمام(قده) كمرجعٍ ينادي بحقوق المستضعفين ويقارع الاستبداد, من خلال دعوته الشعب للتصدّي لممارسات النظام البائد.
كان من أبرز تلك الخطوات التي خطاها الإمام(قده) وأهمّها دعوته الشعب للانتفاضة ضدّ قانون "الكابيتاليسيون" القاضي بإعطاء امتيازات للأجانب - وخاصّة للأميركيين منهم- على الأراضي الإيرانية، من قبيل: عدم محاكمتهم أو مقاضاتهم في إيران، والحصانة الكاملة لهم، وغير ذلك... وكان ذلك بُعيد رحيل السيد البروجردي&، وبروز الإمام(قده) كمرجع من الطراز الأول والفريد من نوعه على الساحة العلمية والسياسية في قم المقدسة...
وبالفعل، فقد تصدّى الإمام(قده) والشعب لهذا القانون بقوةّ، حتى تمّ إسقاط.
من قم إلى النجف: مسيرة مناهضة
من جهتي، وبحكم مشاركتي في النشاطات المناهضة لنظام الشاه, وكغيري من الطلاب والشباب الذين اضطهدوا ولوحقوا من قبل النظام البائد, اضطررت إلى ترك قم, وكانت الوجهة النجف, حيث دخلنا العراق خلسة.
في العراق، وجدت الكثير من الشباب الإيراني الذين كانوا بنفس الوضع الذي أنا فيه.. وكان أستاذي في النجف السيد أسد الله المددي (شهيد المحراب)، الذي رعاني ودبّر أموري, شكر الله سعيه.
مع حلول العام 1964 م، قدم الإمام(قده) إلى العراق بمؤامرةٍ مدبّرةٍ من الشاه وصدّام، حيث كان القرار بضرورة إقصاء الإمام من قم وزجّه في معترك "آيات الله" والأجواء الداخلية لحوزة النجف؛ بغية إخماد صوته عبر وضعه في خضمّ أجواء الحوزة في النجف, إلا أن ذلك ما لم يحصل، وذلك بفضل الله عز وجل, حيث كانت الأرضية مهيّأةً بوجود طلاب الإمام الثوريين الذين سبقوه إلى النجف.
قمنا باستقبال الإمام في بغداد، ورافقناه مدّة أسبوع إلى العتبات المقدّسة، حتى استقرّ في النجف, وكان أوّل مرجعٍ يتعاطى الشأن السياسي, حيث أطلق درس ولاية الفقيه (كبحث علمي مرتبطٍ بكتاب البيع...), فقد قام بالتأسيس النظري لهذا الموضوع من خلال إلقاء المحاضرات العلمية في هذا المجال, ليعود ويطبّق ما نظّر له من أسس علمية.
كان يحضر درسه العديد من الطلاب المخوّلين حضور هذا المستوى من الدروس، والتي ألقاها باللغة الفارسية, ونحن بالرغم من عدم أهليتنا العلمية لحضور هذا المستوى من الدروس, إلا أنّا تشرفنا بتكليفنا بمهمّة التسجيلات، وذلك من قبل أستاذنا الشيخ حسين الراسخي الكاشاني، والذي كان عضو استفتاء لدى الإمام(قده) .
أذكر حينها أنّها كانت المرّة الأولى التي نرى فيها آلة التسجيل، ولم يكن في النجف جرائد أو صحف أو تلفزيون أو غير ذلك، بل لم يكن في النجف يومها برّادٌ حتى!
بكلّ طاقاتي تابعت وروّجت للإمام(قده)
كنت دائماً في حركةٍ مستمرّة، وبكلّ طاقاتي تابعت وروّجت للإمام(قده) ، من خلال المنشورات والبيانات التي كانت تحرّض الناس ضد النظام.
كما روّجنا للإمام(قده) وثورته بشكلٍ كبيرٍ وأساسي في موسم الحج, حيث كانت مغامرة من قبلنا؛ نسبةً إلى الإجراءات المتّخذة من قبل السلطات السعودية التي كانت تمنع مثل هذه الأمور. وقد عانينا الكثير ممّا لا يتصوّر، إلى أن كُشفنا في إحدى المرات، ونحن نوزّع المئات من تسجيلات الإمام(قده) ، فاعتقل بعضنا, وتمّ ترحيل الآخرين...
هذا وكانت البيئة في النجف -بشكلٍ عام- ضدّ حركة الإمام(قده) ونهجه؛ فقد كانوا يعتبرون الإمام منحرفاً وصاحب شبهات، ومتّهماً في دينه وعقيدته، حتى قيل إنّه متأثّرٌ بالماركسية، وخصوصاً أنّه كان يدعو إلى مساعدة المستضعفين والمزارعين وغير ذلك. كما كان يشار إليه بالبنان؛ لأنّه يتعاطى في السياسة والعرفان.
وهكذا استمرّت الأمور والإمام(قده) وأتباعه كذلك مستمرّون في نضالهم وجهادهم وكفاحهم, إلى أن اضطررت - لأسباب صحية- إلى مغادرة النجف, وكانت الوجهة هذه المرّة: لبنان.
وفي لبنان: إكمال لمسيرة الثورة
كانت البيئة في لبنان مفتوحة, فالتقيت بالسيّد موسى الصدر, الذي اهتمّ بشأني, وصرت مدرّساً في المعهد الديني التابع له في منطقة صور, ثمّ انخرطت في البيئة اللبنانية وتفاصيلها، وبالخصوص قضية مقاومة العدو الصهيوني...
كنت أوّل من دعا إلى مرجعية الإمام(قده) في لبنان، في منطقة جزّين بدايةً، ثمّ في بيروت وكافّة لبنان لاحقاً, كما كنت أتردّد إلى النجف، ولأكثر من مرة؛ وذلك لمتابعة الدراسة، حيث كنت أرعى الطلاب اللبنانيين، وكان أبرزهم السيد عباس الموسوي. وكذلك كان تردّدي لأجل إيصال الأمانات والاستفتاءات للإمام(قده) ، وأخذ الإجابات, والتوقيعات.
أذكر أنّهم كشفوا أمرنا في إحدى المرات، حيث كنت برفقة الشيخ حسن حريري، الذي اعتقل بدوره لدى مغادرته مطار النجف, كما تعرّضت للمطاردة إلى أن عدت إلى لبنان عن طريق سوريا.
وهكذا استمررت بنشاطي الداعي لدعم حركة الإمام(قده) ، حيث كنت أستفيد من سيارة السيد موسى الصدر - دون علمه- لنشر منشورات الإمام(قده) في سوريا, وغير ذلك من التعاون والمساعدة للجانب الفلسطيني في لبنان من جهة، وحركة المقاومة اللبنانية التي كانت تعرف بحركة المحرومين من جهةٍ أخرى.
باريس وقم وطهران: محطّاتٌ تشهد
بعد أن أقصي الإمام(قده) إلى فرنسا, ذهبنا إلى باريس عام 1979 م؛ للقاء الإمام(قده) ، وحضرنا الجماعة خلفه، وأخذنا التعليمات والإرشادات, وكنت حاضراً عندما سأل محمّد حسنين هيكل الإمام(قده) عن جنوده، فقال(قده) : "الأجيال..."
تابعنا من فرنسا أحداث الثورة. ولمّا حان وقت عودة الإمام(قده) تنازلت عن مقعدي في طائرته لصالح الصحافة؛ بسبب الازدحام وكثرة المشاركين في تلك الرحلة العائدة إلى إيران. تبعنا الإمام(قده) في طائرة أخرى اضطرت للهبوط لأيّام في مطار إحدى الدول, فبادرنا إلى الاعتصام والاعتراض، ممّا اضطرّهم لترحيلنا إلى إيران.
بعد وصولي إلى إيران، بقيت مدّة شهرٍ في قم، ثمّ انتقلت إلى طهران، وتسلّمت مهمّةً عسكرية، وهي حراسة مكانٍ حسّاس, إلى أن استقرّت الأمور نوعا ما, فطلبت من الشهيد مطهّري تحصيل إجازة لي من الإمام(قده) ؛ للعودة إلى لبنان, وهذا ما حصل.
تنظيم الوفود
في لقاء شخصي مع سماحة الإمام(قده) طرحت على حضرته فكرة إرسال وفد رسمي باسم الثورة الإسلامية في إيران إلى الإخوة الداعمين في لبنان، والذين تميّزوا بتلبيتهم لإرشادات الإمام(قده) ودعواته للخروج في الشوارع ومناهضة الظلم والعدوان والطغيان, وما لذلك من دلالات حول دعم الإمام لحركة المقاومة ضدّ الصهاينة, فوافق بترحيبٍ وسرور.
وهذا ما حصل, ثمّ قام الإخوة في لبنان ومن مختلف الشرائح والعناوين (السنّة والشيعة، وفيما بعد الفلسطينيون) بردّ الزيارة إلى إيران, فالتقوا بالإمام(قده) , وتمّ التأكيد على الدعم والتعاون في سبيل نشر الإسلام، ورفع الظلم ومقارعة العدوان والطغيان.
فتوى العمليات الاستشهادية وإجازات
بعد استقرار الأمور - نوعاً ما- في إيران, وبروز التهديدات الصهيونية للبنان، دعت الحاجة إلى طلب إجازة من حضرة الإمام(قده) -وفي نفس السياق- بشرعية القيام بالعمليات الاستشهادية, والتي أخذت ضجّةً كبيرةً في الأوساط الإسلامية عامّةً، وعلى الساحة اللبنانية خاصّة. وصار أخذٌ وردٌّ كبيرين في الموضوع, حتى نقل كلامٌ عن الإمام بعدم مشروعية ذلك...
التقيت بالإمام(قده) لهذه الغاية، وبعدما عرضت له المشهد في لبنان وما قيل عن لسانه, قال: "من افترى عليّ ذلك, أكيد جائز, أكيد جائز, أكيد جائز, والذي يعتبر السيد عيسى صادقاً، وهو مؤمنٌ بالفكرة يكفيه هذه الإجازة الشفوية, وأمّا غير المؤمن بها فلن يفيده الإمضاء".
تشرّفت بتمثيل الإمام(قده) في لبنان، وثمّ حصلت على إجازات وكالة, لعلماء أفاضل، أمثال السيد حسن نصر الله والسيد إبراهيم أمين السيد, والشيخ محمد يزبك, وغيرهم ممّن اعتمدوا كشخصياتٍ علميةٍ في ممثّلية الإمام(قده) في لبنان.
الإمام(قده) كالطود الراسخ
كان الإمام(قده) كالطود الراسخ، على يقين من أمره، ولذلك عندما كان يركّز على مناهضة الشاه وتحريض الناس ضدّه، وعدم الاشتغال بأيّ خلافٍ أو همٍّ أصغر من ذلك، كان يقينه واطمئنانه ينعكس علينا، فندرك أهمّية قضيّة الإمام(قده) ؛ لأنّنا عندما نطيح بالشاه تصلح كلّ الأمور تلقائياً وبشكلٍ أسهل.
من جهةٍ أخرى، فإنّ خطّ الإمام(قده) خطٌ واضحٌ، وكذلك نهجه وأسلوبه واضحان كعين الشمس؛ فهو محقّق حلم الأنبياء، وهو إمامٌ بكلّ ما للكلمة من معنى، ويمكن التسليم لكلّ تحرّكاته وسكناته. كلّ يومٍ نزداد إيماناً ويقيناً بهذا النهج وهذا الشخص، وبعد موته أكثر من قبله، كما أنّ كلّ الأئمّة كانت تظهر حقيقتهم أكثر بعد استشهادهم.
بالرغم من صعوبات مرحلة التأسيس، فإنّ صعوبات اليوم أشدّ وأكثر. والقائد - دام ظلّه - على مستوى الحمل والمسؤولية، وكلّ ما لديه ببركة الإمام(قده) ، وهو سيكمل نهجه لمواجهة الفتن الداخلية العاصفة بهذه الأمّة, وهذا ما صار عليه وعشناه.
ثمّ إنّ كلّ شخصية تأتي لتستلم زمام الأمور بعد الإمام ستبقى على نهجه، حتى تسليم الراية للإمام الحجّة المهدي أرواحنا فداه؛ فالإمام(قده) بخطوته الربانية هذه أسس البنيان الشامخ الراسخ الذي يؤمّن الأرضية لتسليم الراية للإمام المنتظر (عج)، من خلال تأمين الدولة الإسلامية الشيعية الراعية لشؤون الشيعة والمستضعفين في الأرض.
اللهمّ عجل لوليك الفرج، واجعلنا من أنصاره وأعوانه ومقويّة سلطانه. اللهمّ وارحم إمامنا الراحل (قده) , وتغمّده برحمتك ورضوانك، وأسكنه فسيح جنانك، واحشره مع أوليائك وأحبّائك. السلام عليك يا روح الله يوم ولدت, ويوم تُوفّيت, ويوم تبعث حيّاً, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
تحدّث فيها سماحته عن علاقته بالإمام الخميني (قده)
لا شكّ في أنّ وجود الإمام هبةٌ من الله سبحانه وتعالى للمسلمين عامّةً، وللشيعة خاصّة؛ فهو مصداق الآية: {ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون}، ومصداق ما ورد في الحديث النبوي من أنّ الله يأبى إلا أن يجدّد أمر هذا الدين على رأس كلّ قرنٍ.
ثمّ إنّ الله تعالى إذا أراد أمراً هيّأ له أسبابه, وهذا ما يلاحظه المتأمّل في الظروف المحيطة بنهضة الإمام(قده) ، فقد كانت مشابهةً لظروف بعثة النبي(ص) , حيث لا يخفى كم كانت الظروف صعبةً أيّام الشاه في إيران, وأيّام غيره من طواغيت المنطقة، وخصوصاً صدّام في العراق. لكن في المقابل: كما أحيا عيسى(ع) الموتى، أحيا الإمام(قده) هذه الأمّة, وكما أسقط موسى(ع) فرعون، أسقط الإمام(قده) فراعنة إيران، مع فارق كونه بلا عصا ولا يدٍ بيضاء.
قبل الإمام(قده) ، من الذي سيغيّر؟
من الحوادث الدامية التي سبقت نهضة الإمام(قده) ، والتي كانت مؤثّرة بشكل كبير على الساحة الإيرانية: حادثة إعدام رئيس "فدائيي الإسلام" السيد نواب الصفوي. أتذكّر تلك الحادثة جيداً، وأتذكّر كيف وقف الشهيد السيد نواب وهو على مصقلة الإعدام, وهو ينطق بشعار فدائيي الإسلام: "العزّة لله", وهو يجسّد أفضل أنواع الجهاد؛ وهو كلمة حقّ في وجه سلطان جائر.
أثارت هذه الحادثة النفوس، واشتعل الغضب لدى الشباب الثائر, وصار لدينا شعور بالحاجة لعامل جذريٍّ يغيّر الأوضاع, لكنّنا لا نعلم من؟ ومتى؟ وكيف؟
وجاء الإمام(قده)
استمرّت الأمور على هذه الحال، إلى أن ظهر الإمام(قده) كمرجعٍ ينادي بحقوق المستضعفين ويقارع الاستبداد, من خلال دعوته الشعب للتصدّي لممارسات النظام البائد.
كان من أبرز تلك الخطوات التي خطاها الإمام(قده) وأهمّها دعوته الشعب للانتفاضة ضدّ قانون "الكابيتاليسيون" القاضي بإعطاء امتيازات للأجانب - وخاصّة للأميركيين منهم- على الأراضي الإيرانية، من قبيل: عدم محاكمتهم أو مقاضاتهم في إيران، والحصانة الكاملة لهم، وغير ذلك... وكان ذلك بُعيد رحيل السيد البروجردي&، وبروز الإمام(قده) كمرجع من الطراز الأول والفريد من نوعه على الساحة العلمية والسياسية في قم المقدسة...
وبالفعل، فقد تصدّى الإمام(قده) والشعب لهذا القانون بقوةّ، حتى تمّ إسقاط.
من قم إلى النجف: مسيرة مناهضة
من جهتي، وبحكم مشاركتي في النشاطات المناهضة لنظام الشاه, وكغيري من الطلاب والشباب الذين اضطهدوا ولوحقوا من قبل النظام البائد, اضطررت إلى ترك قم, وكانت الوجهة النجف, حيث دخلنا العراق خلسة.
في العراق، وجدت الكثير من الشباب الإيراني الذين كانوا بنفس الوضع الذي أنا فيه.. وكان أستاذي في النجف السيد أسد الله المددي (شهيد المحراب)، الذي رعاني ودبّر أموري, شكر الله سعيه.
مع حلول العام 1964 م، قدم الإمام(قده) إلى العراق بمؤامرةٍ مدبّرةٍ من الشاه وصدّام، حيث كان القرار بضرورة إقصاء الإمام من قم وزجّه في معترك "آيات الله" والأجواء الداخلية لحوزة النجف؛ بغية إخماد صوته عبر وضعه في خضمّ أجواء الحوزة في النجف, إلا أن ذلك ما لم يحصل، وذلك بفضل الله عز وجل, حيث كانت الأرضية مهيّأةً بوجود طلاب الإمام الثوريين الذين سبقوه إلى النجف.
قمنا باستقبال الإمام في بغداد، ورافقناه مدّة أسبوع إلى العتبات المقدّسة، حتى استقرّ في النجف, وكان أوّل مرجعٍ يتعاطى الشأن السياسي, حيث أطلق درس ولاية الفقيه (كبحث علمي مرتبطٍ بكتاب البيع...), فقد قام بالتأسيس النظري لهذا الموضوع من خلال إلقاء المحاضرات العلمية في هذا المجال, ليعود ويطبّق ما نظّر له من أسس علمية.
كان يحضر درسه العديد من الطلاب المخوّلين حضور هذا المستوى من الدروس، والتي ألقاها باللغة الفارسية, ونحن بالرغم من عدم أهليتنا العلمية لحضور هذا المستوى من الدروس, إلا أنّا تشرفنا بتكليفنا بمهمّة التسجيلات، وذلك من قبل أستاذنا الشيخ حسين الراسخي الكاشاني، والذي كان عضو استفتاء لدى الإمام(قده) .
أذكر حينها أنّها كانت المرّة الأولى التي نرى فيها آلة التسجيل، ولم يكن في النجف جرائد أو صحف أو تلفزيون أو غير ذلك، بل لم يكن في النجف يومها برّادٌ حتى!
بكلّ طاقاتي تابعت وروّجت للإمام(قده)
كنت دائماً في حركةٍ مستمرّة، وبكلّ طاقاتي تابعت وروّجت للإمام(قده) ، من خلال المنشورات والبيانات التي كانت تحرّض الناس ضد النظام.
كما روّجنا للإمام(قده) وثورته بشكلٍ كبيرٍ وأساسي في موسم الحج, حيث كانت مغامرة من قبلنا؛ نسبةً إلى الإجراءات المتّخذة من قبل السلطات السعودية التي كانت تمنع مثل هذه الأمور. وقد عانينا الكثير ممّا لا يتصوّر، إلى أن كُشفنا في إحدى المرات، ونحن نوزّع المئات من تسجيلات الإمام(قده) ، فاعتقل بعضنا, وتمّ ترحيل الآخرين...
هذا وكانت البيئة في النجف -بشكلٍ عام- ضدّ حركة الإمام(قده) ونهجه؛ فقد كانوا يعتبرون الإمام منحرفاً وصاحب شبهات، ومتّهماً في دينه وعقيدته، حتى قيل إنّه متأثّرٌ بالماركسية، وخصوصاً أنّه كان يدعو إلى مساعدة المستضعفين والمزارعين وغير ذلك. كما كان يشار إليه بالبنان؛ لأنّه يتعاطى في السياسة والعرفان.
وهكذا استمرّت الأمور والإمام(قده) وأتباعه كذلك مستمرّون في نضالهم وجهادهم وكفاحهم, إلى أن اضطررت - لأسباب صحية- إلى مغادرة النجف, وكانت الوجهة هذه المرّة: لبنان.
وفي لبنان: إكمال لمسيرة الثورة
كانت البيئة في لبنان مفتوحة, فالتقيت بالسيّد موسى الصدر, الذي اهتمّ بشأني, وصرت مدرّساً في المعهد الديني التابع له في منطقة صور, ثمّ انخرطت في البيئة اللبنانية وتفاصيلها، وبالخصوص قضية مقاومة العدو الصهيوني...
كنت أوّل من دعا إلى مرجعية الإمام(قده) في لبنان، في منطقة جزّين بدايةً، ثمّ في بيروت وكافّة لبنان لاحقاً, كما كنت أتردّد إلى النجف، ولأكثر من مرة؛ وذلك لمتابعة الدراسة، حيث كنت أرعى الطلاب اللبنانيين، وكان أبرزهم السيد عباس الموسوي. وكذلك كان تردّدي لأجل إيصال الأمانات والاستفتاءات للإمام(قده) ، وأخذ الإجابات, والتوقيعات.
أذكر أنّهم كشفوا أمرنا في إحدى المرات، حيث كنت برفقة الشيخ حسن حريري، الذي اعتقل بدوره لدى مغادرته مطار النجف, كما تعرّضت للمطاردة إلى أن عدت إلى لبنان عن طريق سوريا.
وهكذا استمررت بنشاطي الداعي لدعم حركة الإمام(قده) ، حيث كنت أستفيد من سيارة السيد موسى الصدر - دون علمه- لنشر منشورات الإمام(قده) في سوريا, وغير ذلك من التعاون والمساعدة للجانب الفلسطيني في لبنان من جهة، وحركة المقاومة اللبنانية التي كانت تعرف بحركة المحرومين من جهةٍ أخرى.
باريس وقم وطهران: محطّاتٌ تشهد
بعد أن أقصي الإمام(قده) إلى فرنسا, ذهبنا إلى باريس عام 1979 م؛ للقاء الإمام(قده) ، وحضرنا الجماعة خلفه، وأخذنا التعليمات والإرشادات, وكنت حاضراً عندما سأل محمّد حسنين هيكل الإمام(قده) عن جنوده، فقال(قده) : "الأجيال..."
تابعنا من فرنسا أحداث الثورة. ولمّا حان وقت عودة الإمام(قده) تنازلت عن مقعدي في طائرته لصالح الصحافة؛ بسبب الازدحام وكثرة المشاركين في تلك الرحلة العائدة إلى إيران. تبعنا الإمام(قده) في طائرة أخرى اضطرت للهبوط لأيّام في مطار إحدى الدول, فبادرنا إلى الاعتصام والاعتراض، ممّا اضطرّهم لترحيلنا إلى إيران.
بعد وصولي إلى إيران، بقيت مدّة شهرٍ في قم، ثمّ انتقلت إلى طهران، وتسلّمت مهمّةً عسكرية، وهي حراسة مكانٍ حسّاس, إلى أن استقرّت الأمور نوعا ما, فطلبت من الشهيد مطهّري تحصيل إجازة لي من الإمام(قده) ؛ للعودة إلى لبنان, وهذا ما حصل.
تنظيم الوفود
في لقاء شخصي مع سماحة الإمام(قده) طرحت على حضرته فكرة إرسال وفد رسمي باسم الثورة الإسلامية في إيران إلى الإخوة الداعمين في لبنان، والذين تميّزوا بتلبيتهم لإرشادات الإمام(قده) ودعواته للخروج في الشوارع ومناهضة الظلم والعدوان والطغيان, وما لذلك من دلالات حول دعم الإمام لحركة المقاومة ضدّ الصهاينة, فوافق بترحيبٍ وسرور.
وهذا ما حصل, ثمّ قام الإخوة في لبنان ومن مختلف الشرائح والعناوين (السنّة والشيعة، وفيما بعد الفلسطينيون) بردّ الزيارة إلى إيران, فالتقوا بالإمام(قده) , وتمّ التأكيد على الدعم والتعاون في سبيل نشر الإسلام، ورفع الظلم ومقارعة العدوان والطغيان.
فتوى العمليات الاستشهادية وإجازات
بعد استقرار الأمور - نوعاً ما- في إيران, وبروز التهديدات الصهيونية للبنان، دعت الحاجة إلى طلب إجازة من حضرة الإمام(قده) -وفي نفس السياق- بشرعية القيام بالعمليات الاستشهادية, والتي أخذت ضجّةً كبيرةً في الأوساط الإسلامية عامّةً، وعلى الساحة اللبنانية خاصّة. وصار أخذٌ وردٌّ كبيرين في الموضوع, حتى نقل كلامٌ عن الإمام بعدم مشروعية ذلك...
التقيت بالإمام(قده) لهذه الغاية، وبعدما عرضت له المشهد في لبنان وما قيل عن لسانه, قال: "من افترى عليّ ذلك, أكيد جائز, أكيد جائز, أكيد جائز, والذي يعتبر السيد عيسى صادقاً، وهو مؤمنٌ بالفكرة يكفيه هذه الإجازة الشفوية, وأمّا غير المؤمن بها فلن يفيده الإمضاء".
تشرّفت بتمثيل الإمام(قده) في لبنان، وثمّ حصلت على إجازات وكالة, لعلماء أفاضل، أمثال السيد حسن نصر الله والسيد إبراهيم أمين السيد, والشيخ محمد يزبك, وغيرهم ممّن اعتمدوا كشخصياتٍ علميةٍ في ممثّلية الإمام(قده) في لبنان.
الإمام(قده) كالطود الراسخ
كان الإمام(قده) كالطود الراسخ، على يقين من أمره، ولذلك عندما كان يركّز على مناهضة الشاه وتحريض الناس ضدّه، وعدم الاشتغال بأيّ خلافٍ أو همٍّ أصغر من ذلك، كان يقينه واطمئنانه ينعكس علينا، فندرك أهمّية قضيّة الإمام(قده) ؛ لأنّنا عندما نطيح بالشاه تصلح كلّ الأمور تلقائياً وبشكلٍ أسهل.
من جهةٍ أخرى، فإنّ خطّ الإمام(قده) خطٌ واضحٌ، وكذلك نهجه وأسلوبه واضحان كعين الشمس؛ فهو محقّق حلم الأنبياء، وهو إمامٌ بكلّ ما للكلمة من معنى، ويمكن التسليم لكلّ تحرّكاته وسكناته. كلّ يومٍ نزداد إيماناً ويقيناً بهذا النهج وهذا الشخص، وبعد موته أكثر من قبله، كما أنّ كلّ الأئمّة كانت تظهر حقيقتهم أكثر بعد استشهادهم.
بالرغم من صعوبات مرحلة التأسيس، فإنّ صعوبات اليوم أشدّ وأكثر. والقائد - دام ظلّه - على مستوى الحمل والمسؤولية، وكلّ ما لديه ببركة الإمام(قده) ، وهو سيكمل نهجه لمواجهة الفتن الداخلية العاصفة بهذه الأمّة, وهذا ما صار عليه وعشناه.
ثمّ إنّ كلّ شخصية تأتي لتستلم زمام الأمور بعد الإمام ستبقى على نهجه، حتى تسليم الراية للإمام الحجّة المهدي أرواحنا فداه؛ فالإمام(قده) بخطوته الربانية هذه أسس البنيان الشامخ الراسخ الذي يؤمّن الأرضية لتسليم الراية للإمام المنتظر (عج)، من خلال تأمين الدولة الإسلامية الشيعية الراعية لشؤون الشيعة والمستضعفين في الأرض.
اللهمّ عجل لوليك الفرج، واجعلنا من أنصاره وأعوانه ومقويّة سلطانه. اللهمّ وارحم إمامنا الراحل (قده) , وتغمّده برحمتك ورضوانك، وأسكنه فسيح جنانك، واحشره مع أوليائك وأحبّائك. السلام عليك يا روح الله يوم ولدت, ويوم تُوفّيت, ويوم تبعث حيّاً, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...