أدرجت هذه المقابلة في العدد الثامن من مجلّة البشير الصادرة عن ممثّلية المصطفى (ص) في لبنان
تحدّث فيها سماحته عن علاقته بالإمام الخميني (قده)
إنّ الحديث عن الإمام الخميني(قده) حديث عن عبد الله المسدّد, كما كان يحلو للشهيد الشيخ راغب حرب (رحمه الله) أن يعبّر عنه, حديثٌ عن الفقيه النوعي والعارف النوعي, والمجدّد النوعي للإسلام .
النجف محطّة اللقاء الأوّل
بداية سماعي باسم الإمام الخميني (قده) ترجع إلى الستّينات, حيث ذهبت إلى النجف الأشرف في حوالي الثاني عشر من عمري. في هذه الفترة كان الإمام الخميني(قده) متواجداً في العراق بعد نفيه من إيران, وكان الجوّ العام الذي كوّنته خلال فترة إقامتي في النجف أنّ الإمام الخميني (قده) مرجع وقائدٌ جهادي, إلا أنّ الأجواء الحوزوية - سواء في قم أو النجف- ليست مؤيّدةً له, ولكن لم تكن إلى درجة أنّها شكلت قدحاً أو ذماً بحق الإمام الخميني (قده) .
من إيران، معاينة لطلائع الثورة
عندما نشأت ظاهرة تسفير طلاب العلم من العراق, كان موقف الإمام الخميني(قده) ضدّ تسفير الطلاب -وخصوصاً الإيرانيين- هو الموقف الوحيد الذي اتّسم بالقوّة، بينما كانت المرجعيات آنذاك ترى أنّ من مصلحة الحوزة عدم الوقوف بوجه الحكومة.
بعد العام 1969 بقيت فترةً في لبنان, ثمّ سافرت بعدها إلى قم, بأمر من المقدّس السيّد محمّد باقر الصدر(قده) , الذي كنت أقلّده , وأنتمي إليه سياسياً. في قم, بدأت أطّلع على نصوص الإمام, وتكوّنت عندي خبرة بنهج الإمام الثوري، وتكوّنت عندي خلاصة مفادها أنّ الإيرانيّين لم يكن هدفهم من الثورة إلا موضوعين هما: مواجهة إسرائيل ومواجهة الشاه, أو بعبارة أدقّ: لم يكونوا يفكّرون إلا بموضوعٍ واحدٍ, وهو مواجهة الشاه؛ لأنّه مع إسرائيل .
بقيت في إيران من العام 1970 إلى العام 1978 . في سنة 1978 بدأت الثورة في قم, وكانت الشرطة تهجم على طلاب العلم وعلى المدارس بشكلٍ متكرّر. في هذه الفترة جاءني بلاغٌ من الشرطة بأنّهم قرّروا إخراجي من إيران. حاولت أن أقنعهم بأن يعطوني فترة زمنية معيّنة لكي أجهّز أغراضي, ولكنّهم لم يقبلوا .
وفي لبنان واكبنا الثورة
عند وصولي إلى لبنان التحقت بالحوزة التي أسّسها السيد عباس الموسوي, وكان سماحة السيد عباس يتفانى في الإمام الخميني(قده) , فبدأنا بحملة نشاطات تبليغية مكثّفة في البقاع, شرحنا خلالها للناس أهداف الثورة, ومن هو الإمام الخميني(قده) .
بحكم معرفتي باللغة الفارسية, كنت أتابع أخبار إيران بدقّة. في هذه الفترة, ومع تصاعد وتيرة الأحداث في إيران قبل انتصار الثورة, طُلب منّي أن أترجم كتاب الجهاد الأكبر الذي كتبه الإمام الخميني(قده) . كانت تجري عدّة احتفالات تأييد للثورة, أتذكّر منها احتفالاً أقامه السيد أبو هشام الموسوي -الذي كان حينها نائب رئيس حركة أمل- في مقرّ الحركة في بعلبك, وألقيت هناك قصيدة عن الإمام الخميني(قده) جاء فيها:
ولـــكم بإيران البـــطولة قـــدوةٌ أكرم بقائد زحفها المغوارِ
من دكّ عرش الكفر وهو مُمَنّعٌ وأحــاله خبراً من الأخبارِ
درّست اللغة الفارسية حباً بالإمام(قده)
من الأمور التي أتذكّرها , أنّي كنت في الحوزة أدرّس حلقات الشهيد الصدر, وكان من جملة طلابي في الحلقة الثانية سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله (حفظه الله), ثمّ بالإضافة إلى الأصول كنت أدرّس الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم, ودروساً أخرى أيضاً. في هذه الفترة ومع تصاعد الثورة في إيران , وحبا بالإمام الخميني(قده) , بدأت بتدريس اللغة الفارسية للطلاب, واتّفقنا على أن يكون الدرس دقيقاً وجاداً, والهدف منه هو أن نصبح قادرين على التواصل مع الإخوة في إيران, ولكي نفهم نصوص الإمام(قده) , خصوصاً أنّ الدروس التي كان الإمام الخميني(قده) يكتبها باللغة الفارسية لا نظير لها.
كان أكثر تركيزي هو على ترجمة خطب الإمام(قده) , باعتبار أن أهم شيء في ذلك الوقت هو خطب الإمام(قده) . بعد كتاب الجهاد الأكبر الذي ترجمته في لبنان , قمت بترجمة كتاب: "بلسم الروح", وهو عبارة عن رسائل عرفانية من الإمام الخميني(قده) إلى ابنه السيد أحمد, وإلى السيدة فاطمة الطبطبائي, زوجة السيد أحمد. وفي مرحلة لاحقة ترجمت وصية الإمام الخميني(قده) السياسية (الوصية الخالدة), وترجمت خطباً كثيرة وكتباً كان الإمام(قده) قد كتبها, لأنها تعتبر المنبع الأساسي والمهم للدراسات الحوزوية, وغير الحوزوية أيضاً, ومن جملة الكتيّبات أو الدراسات في هذا المجال مثلاً : "بعد رجل الدولة في شخصية الإمام الخميني(قده) " .
لبنان عشيّة انتصار الثورة
عند انتصار الثورة في إيران, خرجنا في بعلبك, وتجمّعنا أمام السرايا لتأييد الثورة في إيران، كما خرج لبنان كلّه - شيعة وسنة , فلسطينيون ولبنانيون- في مظاهرات تأييدٍ لانتصار الثورة الإسلامية. طبعاً هذا التأييد جاء نتيجة مسار طويل أثناء الثورة, وكان من ثمرات أداء الإمام(قده) والطريقة الجهادية التي اعتمدها. وقد عبّرتُ في بعض كتاباتي أنّ الإمام يقود الشعب الإيراني بأداء جهادي فريدٍ جداً, وقاطعية فريدة, والشعب الإيراني يستجيب, فإذا بشعوب العالم كلِّها, تلامذة في مدرسة الإمام الخميني(قده) .
ممّا أذكره من أمور تعبّر عن اهتمام المجتمع اللبناني بأحداث انتصار الثورة في إيران ما نقله لي الدكتور الشيخ جعفر آل إبراهيم قائلاً : "خرجت من بيتي متّجهاً إلى الشيّاح, فسمعت نشرة الأخبار من على شرفات المنازل!", حيث كان كلّ الناس يستمعون إلى نشرة الأخبار، ويتابعون ما يجري في إيران, ويستمعون إلى ما يقوله الإمام الخميني(قده) .
كما أتذكّر عند تداول خبر عودة الإمام(قده) إلى إيران, وأنّ باختيار ما زال حاكماً, وجهاز السافاك ما زال متماسكاً, أنّ الناس كانت خائفة, وتترقّب ما الذي سيحصل, لكنّ الإمام كان في غاية الطمأنينة, {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. وقد عبّرت إذاعة "مونتيكارلو" - تلك المحطّة العالمية في ذلك الوقت – بتعبير: "وغطّ في نوم عميق", قاصدةً نوم الإمام(قده) في الطائرة التي عاد بها إلى إيران، الأمر الذي أدهش العالم!
السفر إلى إيران والعمل تحت راية الثورة
بعد الانتصار مباشرة, بقيت فترة في بعلبك, ثم قرّرت أن أسافر إلى إيران, وكانت إيران حينها تشهد بداية مؤامرة إثارة القوميات ضدّ الثورة الإسلامية وخطّ الإمام(قده) , وكانت أوّل قومية تمّ تحريكها هي القومية العربية في خوزستان. استوقفني هذا الأمر فقرّرت أن أعمل في مجال التبليغ, ودعوت مجموعة من العلماء في لبنان لأن نذهب للتبليغ في منطقة خوزستان, وأن ندعم الثورة, باعتبار أنّنا نجيد اللغة العربية.
وبالفعل، فقد تواصلت مع مكتب التبليغ التابع للإمام الخميني(قده) , وعندها تشرّفت بزيارة الإمام(قده) , وكنت مجرّد تلميذ أمامه. قبّلت يده, وأعطيته ورقةً مكتوبٌ عليها أنّنا جئنا من لبنان للتبليغ في خوزستان. وافق الإمام على مبادرتنا، وأعطانا مباركته وإرشاداته، فانطلقنا.
كان في منطقة الأهواز محطّةٌ إعلامية باللغة العربية, ولكنها كانت مغلقة. قمنا بتجهيزها وإعادة فتحها, وصرنا نفتحها لمدّة ساعة ونصف يومياً, حيث كنت ألقي فيها محاضرة, وكنّا ننقل خطب الإمام(قده) وإرشاداته. وبالنسبة لخطبة الجمعة, فقد كنّا نترجمها فوراً ونبثّها بثاً مباشراً.
بقيت فترةً في الأهواز، وانتقلت بعدها إلى طهران, وكان لديّ عملٌ في وزارة الثقافة والإرشاد في مجلّةٍ كتبناها باللغة العربية أسميناها : "صوت الأمّة". وكان ممّا أدرجناه في هذه المجلّة صور الطلاب الذين احتلّوا السفارة الأمريكية؛ لأنّ الإمام الخميني(قده) مدحهم, ووصف تحرّكهم بأنّه ثورةٌ أعظم من الثورة الأولى.
انطلاقة حزب الله
بعد انتصار الثورة في إيران , بقيت في إيران من سنة 1979 حتى 1986 , وكنت أتنقّل ما بين الأهواز وطهران. بين هذه الأعوام تمّ تأسيس حزب الله, وكنت على علاقة مع الإخوان المسؤولين في إيران, وفي الكثير من الأمور كنت الرابط بين المقاومة في لبنان وبين إيران. ألفت النظر أنه قبل تأسيس حزب الله, جاء وفد من لبنان لزيارة الإمام الخميني(قده) , وكان من بينهم سماحة السيد عباس الموسوي, وكنت في خدمتهم وتولّيت الترجمة, وعندما خرجنا من غرفة الإمام(قده) , طلب مني السيد عباس أن أعيد له الترجمة (حيث كنت قد كتبت الترجمة على ورقة)؛ لأنه كان شديد التأثّر بكلّ حرف يخرج من الإمام الخميني(قده) .
كان أبرز ما قاله الإمام الخميني(قده) , والذي جاء السيد عباس وبنى كلّ شيءٍ عليه في لبنان هو : "ابدأوا من الصفر" . الذي يعرف ما هو الجوّ الذي كانت عليه الساحة اللبنانية لن يستغرب هذا الكلام أبداً . . لماذا أمر الإمام(قده) بذلك؟ لأنّ الإمام(قده) نفّذ الإسلام كلّه, بعكس غيره الذين أخذوا بعض الإسلام, وفي الأغلب جاء منهم كردّة فعل على الغزو الثقافي الغربي. ولذا أراد الإمام أن نبدأ التجربة من جديد، لننفّذ الإسلام كلّه. كانت هذه المرحلة مفصلاً كبيراً بالنسبة لوضعنا في لبنان . فقال الشهيد السيد عباس الموسوي (رحمه الله) : اذا نترك كل الأعمال السياسية والدينية السابقة التي قمنا بها، ونبدأ من جديد ببناء الهوية الإسلامية.
بعد هذا اللقاء وهذا الأمر من الإمام(قده) , باشر قائد الحرس الثوري آنذاك الحاج محسن رضائي ونائبه الحاج علي شمخاري بالتنسيق مع سفير الجمهورية في سوريا آنذاك السيد محتشمي, ووضعوا شعار حزب الله الموجود الآن, وبدأت طلائع المقاومة في لبنان بالظهور...
عندما بدأنا بالعمل من الصفر, اعتبرنا جميعاً أنّ الإمام الخميني(قده) هو مرجع التقليد, ونلتزم بطريقة فهمه للإسلام, هذا الذي عبُّر عنه بخطّ الإمام(قده) وخطّ ولاية الفقيه. بالطبع فقد تعرّضنا لمشاكلٍ واعتراضاتٍ كثيرةٍ في لبنان، لكنّنا لم نتوقّف.
الجانب الجهادي السياسي عند الإمام(قده)
في الجانب الجهادي والسياسي, يتميّز الإمام الخميني(قده) بقاطعيّة فريدة, وفهمٍ خاصٍّ لمبدأ الاحتياط في الدماء. هناك فهمٌ سائد بأن الاحتياط في الدم يعني أن لا نريق أيّ قطرة دم, لكنّ الإمام(قده) له فهمه المختلف، فعندما كان منفياً في النجف, حصل في يوم معيّن مجزرة بحقّ الشعب الإيراني, إلى درجة أنّ قنوات المياه الموجودة على الطرقات اختلطت بالدماء! وظنّ بعض الناس أنّ الثورة قد انتهت, إلا أنّ الإمام الخميني(قده) كتب بياناً وصل إلى الشعب الإيراني بعد انتهائهم من دفن موتاهم, قال فيه : "لم يصل عدد شهدائنا بعد إلى عدد شهداء صفين". فانفجرت الثورة من جديد. من هنا فإنّ قاعدة الاحتياط عند الإمام الخميني(قده) مفادها أنّنا إذا لم نقدّم الشهداء فسنخسر أكثر .
كما تميّز الإمام(قده) بصلابته، وأذكر حادثةً حصلت معه في قم عند أوّل تحرّك في المدرسة الفيضية, حيث كان هناك اجتماع في المدرسة الفيضيّة, وكان الإمام يلقي خطبة هناك. السافاك أرسلوا شخصاً إلى الإمام ليخيفه, وقال له : "أنا جئت من قبل جلالة الشاه لنخبرك أنّ مأموري جلالة الشاه (أي الشرطة) سوف يخربون اجتماعكم في المدرسة الفيضية" , الإمام(قده) مباشرةً قال له : "ونحن نقول لمأمورينا أن يؤدّبوا مأموري جلالة الشاه" .
وفي حادثةٍ أخرى, كان الإمام(قده) يلقي خطبةً في المدرسة الفيضية, فدخل عددٌ من أزلام الشاه وشعر الإمام(قده) بنواياهم التخريبية, فقال من على المنبر : "إن لم يتوقّف هؤلاء فإنّنا سننقل الخطبة إلى حرم السيدة المعصومة(ع) ". طبعا الإمام(قده) كان يعرف أنّ هؤلاء (المأمورين) لا يتصرّفون إلا بأوامر من الشاه, فإذا انتقل إلى حرم المعصومة, لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذن الشاه، ولذا فقد أفشل مخطّطهم.
هذه الخصائص في الإمام الخميني(قده) تعود إليه بسبب إيمانه بالله تعالى , وعدم الخوف إلا من الله تعالى. ومعروف عنه(قده) أنّه لم يخف في أيّ من الحوادث التي حصلت معه, وهو بنفسه أقسم بأنّه لم يخف من الشاه وجلاوزته أبداً في كلّ المواقف التي حصلت معه. هذا كلّه منشؤه العبادة التي امتاز بها الإمام الخميني(قده) عن غيره.
ما عرفناك بعد
مهما كثرت قراءاتنا لنهج الإمام(قده) ومواقفه، فإنّني ما زلت كلّما أقرأ للإمام(قده) أقول بيني وبين نفسي: "ما عرفناك بعد!!". فمثلاً, هو قال:"إنّ هذا القرن هو قرن سقوط الأساطير", عندما قالها لم نلتفت كثيراً إلى معناها, ولكن الآن أصبح كلامه واضحاً, فنحن الآن نشهد مقدّمات زوال أمريكا, ومن قبل شهدنا زوال الاتّحاد السوفياتي...
ولهذا كلّه، فإنّ خطاب الإمام(قده) يجب أن يُقرأ على مستوى العالم كلّه, والخصائص الهامّة في خطّ الإمام يجب التنبّه لها, ويجب أن نضبط حركة تثقيفنا في الحوزات وعند الناس عموماً على هذا الأساس, باعتبار أنّ الإمام هو فقيهٌ نوعيّ, وعارفٌ نوعيّ, وقائدٌ سياسيٌّ نوعيّ...
والحمد لله رب العالمين
تحدّث فيها سماحته عن علاقته بالإمام الخميني (قده)
إنّ الحديث عن الإمام الخميني(قده) حديث عن عبد الله المسدّد, كما كان يحلو للشهيد الشيخ راغب حرب (رحمه الله) أن يعبّر عنه, حديثٌ عن الفقيه النوعي والعارف النوعي, والمجدّد النوعي للإسلام .
النجف محطّة اللقاء الأوّل
بداية سماعي باسم الإمام الخميني (قده) ترجع إلى الستّينات, حيث ذهبت إلى النجف الأشرف في حوالي الثاني عشر من عمري. في هذه الفترة كان الإمام الخميني(قده) متواجداً في العراق بعد نفيه من إيران, وكان الجوّ العام الذي كوّنته خلال فترة إقامتي في النجف أنّ الإمام الخميني (قده) مرجع وقائدٌ جهادي, إلا أنّ الأجواء الحوزوية - سواء في قم أو النجف- ليست مؤيّدةً له, ولكن لم تكن إلى درجة أنّها شكلت قدحاً أو ذماً بحق الإمام الخميني (قده) .
من إيران، معاينة لطلائع الثورة
عندما نشأت ظاهرة تسفير طلاب العلم من العراق, كان موقف الإمام الخميني(قده) ضدّ تسفير الطلاب -وخصوصاً الإيرانيين- هو الموقف الوحيد الذي اتّسم بالقوّة، بينما كانت المرجعيات آنذاك ترى أنّ من مصلحة الحوزة عدم الوقوف بوجه الحكومة.
بعد العام 1969 بقيت فترةً في لبنان, ثمّ سافرت بعدها إلى قم, بأمر من المقدّس السيّد محمّد باقر الصدر(قده) , الذي كنت أقلّده , وأنتمي إليه سياسياً. في قم, بدأت أطّلع على نصوص الإمام, وتكوّنت عندي خبرة بنهج الإمام الثوري، وتكوّنت عندي خلاصة مفادها أنّ الإيرانيّين لم يكن هدفهم من الثورة إلا موضوعين هما: مواجهة إسرائيل ومواجهة الشاه, أو بعبارة أدقّ: لم يكونوا يفكّرون إلا بموضوعٍ واحدٍ, وهو مواجهة الشاه؛ لأنّه مع إسرائيل .
بقيت في إيران من العام 1970 إلى العام 1978 . في سنة 1978 بدأت الثورة في قم, وكانت الشرطة تهجم على طلاب العلم وعلى المدارس بشكلٍ متكرّر. في هذه الفترة جاءني بلاغٌ من الشرطة بأنّهم قرّروا إخراجي من إيران. حاولت أن أقنعهم بأن يعطوني فترة زمنية معيّنة لكي أجهّز أغراضي, ولكنّهم لم يقبلوا .
وفي لبنان واكبنا الثورة
عند وصولي إلى لبنان التحقت بالحوزة التي أسّسها السيد عباس الموسوي, وكان سماحة السيد عباس يتفانى في الإمام الخميني(قده) , فبدأنا بحملة نشاطات تبليغية مكثّفة في البقاع, شرحنا خلالها للناس أهداف الثورة, ومن هو الإمام الخميني(قده) .
بحكم معرفتي باللغة الفارسية, كنت أتابع أخبار إيران بدقّة. في هذه الفترة, ومع تصاعد وتيرة الأحداث في إيران قبل انتصار الثورة, طُلب منّي أن أترجم كتاب الجهاد الأكبر الذي كتبه الإمام الخميني(قده) . كانت تجري عدّة احتفالات تأييد للثورة, أتذكّر منها احتفالاً أقامه السيد أبو هشام الموسوي -الذي كان حينها نائب رئيس حركة أمل- في مقرّ الحركة في بعلبك, وألقيت هناك قصيدة عن الإمام الخميني(قده) جاء فيها:
ولـــكم بإيران البـــطولة قـــدوةٌ أكرم بقائد زحفها المغوارِ
من دكّ عرش الكفر وهو مُمَنّعٌ وأحــاله خبراً من الأخبارِ
درّست اللغة الفارسية حباً بالإمام(قده)
من الأمور التي أتذكّرها , أنّي كنت في الحوزة أدرّس حلقات الشهيد الصدر, وكان من جملة طلابي في الحلقة الثانية سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله (حفظه الله), ثمّ بالإضافة إلى الأصول كنت أدرّس الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم, ودروساً أخرى أيضاً. في هذه الفترة ومع تصاعد الثورة في إيران , وحبا بالإمام الخميني(قده) , بدأت بتدريس اللغة الفارسية للطلاب, واتّفقنا على أن يكون الدرس دقيقاً وجاداً, والهدف منه هو أن نصبح قادرين على التواصل مع الإخوة في إيران, ولكي نفهم نصوص الإمام(قده) , خصوصاً أنّ الدروس التي كان الإمام الخميني(قده) يكتبها باللغة الفارسية لا نظير لها.
كان أكثر تركيزي هو على ترجمة خطب الإمام(قده) , باعتبار أن أهم شيء في ذلك الوقت هو خطب الإمام(قده) . بعد كتاب الجهاد الأكبر الذي ترجمته في لبنان , قمت بترجمة كتاب: "بلسم الروح", وهو عبارة عن رسائل عرفانية من الإمام الخميني(قده) إلى ابنه السيد أحمد, وإلى السيدة فاطمة الطبطبائي, زوجة السيد أحمد. وفي مرحلة لاحقة ترجمت وصية الإمام الخميني(قده) السياسية (الوصية الخالدة), وترجمت خطباً كثيرة وكتباً كان الإمام(قده) قد كتبها, لأنها تعتبر المنبع الأساسي والمهم للدراسات الحوزوية, وغير الحوزوية أيضاً, ومن جملة الكتيّبات أو الدراسات في هذا المجال مثلاً : "بعد رجل الدولة في شخصية الإمام الخميني(قده) " .
لبنان عشيّة انتصار الثورة
عند انتصار الثورة في إيران, خرجنا في بعلبك, وتجمّعنا أمام السرايا لتأييد الثورة في إيران، كما خرج لبنان كلّه - شيعة وسنة , فلسطينيون ولبنانيون- في مظاهرات تأييدٍ لانتصار الثورة الإسلامية. طبعاً هذا التأييد جاء نتيجة مسار طويل أثناء الثورة, وكان من ثمرات أداء الإمام(قده) والطريقة الجهادية التي اعتمدها. وقد عبّرتُ في بعض كتاباتي أنّ الإمام يقود الشعب الإيراني بأداء جهادي فريدٍ جداً, وقاطعية فريدة, والشعب الإيراني يستجيب, فإذا بشعوب العالم كلِّها, تلامذة في مدرسة الإمام الخميني(قده) .
ممّا أذكره من أمور تعبّر عن اهتمام المجتمع اللبناني بأحداث انتصار الثورة في إيران ما نقله لي الدكتور الشيخ جعفر آل إبراهيم قائلاً : "خرجت من بيتي متّجهاً إلى الشيّاح, فسمعت نشرة الأخبار من على شرفات المنازل!", حيث كان كلّ الناس يستمعون إلى نشرة الأخبار، ويتابعون ما يجري في إيران, ويستمعون إلى ما يقوله الإمام الخميني(قده) .
كما أتذكّر عند تداول خبر عودة الإمام(قده) إلى إيران, وأنّ باختيار ما زال حاكماً, وجهاز السافاك ما زال متماسكاً, أنّ الناس كانت خائفة, وتترقّب ما الذي سيحصل, لكنّ الإمام كان في غاية الطمأنينة, {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. وقد عبّرت إذاعة "مونتيكارلو" - تلك المحطّة العالمية في ذلك الوقت – بتعبير: "وغطّ في نوم عميق", قاصدةً نوم الإمام(قده) في الطائرة التي عاد بها إلى إيران، الأمر الذي أدهش العالم!
السفر إلى إيران والعمل تحت راية الثورة
بعد الانتصار مباشرة, بقيت فترة في بعلبك, ثم قرّرت أن أسافر إلى إيران, وكانت إيران حينها تشهد بداية مؤامرة إثارة القوميات ضدّ الثورة الإسلامية وخطّ الإمام(قده) , وكانت أوّل قومية تمّ تحريكها هي القومية العربية في خوزستان. استوقفني هذا الأمر فقرّرت أن أعمل في مجال التبليغ, ودعوت مجموعة من العلماء في لبنان لأن نذهب للتبليغ في منطقة خوزستان, وأن ندعم الثورة, باعتبار أنّنا نجيد اللغة العربية.
وبالفعل، فقد تواصلت مع مكتب التبليغ التابع للإمام الخميني(قده) , وعندها تشرّفت بزيارة الإمام(قده) , وكنت مجرّد تلميذ أمامه. قبّلت يده, وأعطيته ورقةً مكتوبٌ عليها أنّنا جئنا من لبنان للتبليغ في خوزستان. وافق الإمام على مبادرتنا، وأعطانا مباركته وإرشاداته، فانطلقنا.
كان في منطقة الأهواز محطّةٌ إعلامية باللغة العربية, ولكنها كانت مغلقة. قمنا بتجهيزها وإعادة فتحها, وصرنا نفتحها لمدّة ساعة ونصف يومياً, حيث كنت ألقي فيها محاضرة, وكنّا ننقل خطب الإمام(قده) وإرشاداته. وبالنسبة لخطبة الجمعة, فقد كنّا نترجمها فوراً ونبثّها بثاً مباشراً.
بقيت فترةً في الأهواز، وانتقلت بعدها إلى طهران, وكان لديّ عملٌ في وزارة الثقافة والإرشاد في مجلّةٍ كتبناها باللغة العربية أسميناها : "صوت الأمّة". وكان ممّا أدرجناه في هذه المجلّة صور الطلاب الذين احتلّوا السفارة الأمريكية؛ لأنّ الإمام الخميني(قده) مدحهم, ووصف تحرّكهم بأنّه ثورةٌ أعظم من الثورة الأولى.
انطلاقة حزب الله
بعد انتصار الثورة في إيران , بقيت في إيران من سنة 1979 حتى 1986 , وكنت أتنقّل ما بين الأهواز وطهران. بين هذه الأعوام تمّ تأسيس حزب الله, وكنت على علاقة مع الإخوان المسؤولين في إيران, وفي الكثير من الأمور كنت الرابط بين المقاومة في لبنان وبين إيران. ألفت النظر أنه قبل تأسيس حزب الله, جاء وفد من لبنان لزيارة الإمام الخميني(قده) , وكان من بينهم سماحة السيد عباس الموسوي, وكنت في خدمتهم وتولّيت الترجمة, وعندما خرجنا من غرفة الإمام(قده) , طلب مني السيد عباس أن أعيد له الترجمة (حيث كنت قد كتبت الترجمة على ورقة)؛ لأنه كان شديد التأثّر بكلّ حرف يخرج من الإمام الخميني(قده) .
كان أبرز ما قاله الإمام الخميني(قده) , والذي جاء السيد عباس وبنى كلّ شيءٍ عليه في لبنان هو : "ابدأوا من الصفر" . الذي يعرف ما هو الجوّ الذي كانت عليه الساحة اللبنانية لن يستغرب هذا الكلام أبداً . . لماذا أمر الإمام(قده) بذلك؟ لأنّ الإمام(قده) نفّذ الإسلام كلّه, بعكس غيره الذين أخذوا بعض الإسلام, وفي الأغلب جاء منهم كردّة فعل على الغزو الثقافي الغربي. ولذا أراد الإمام أن نبدأ التجربة من جديد، لننفّذ الإسلام كلّه. كانت هذه المرحلة مفصلاً كبيراً بالنسبة لوضعنا في لبنان . فقال الشهيد السيد عباس الموسوي (رحمه الله) : اذا نترك كل الأعمال السياسية والدينية السابقة التي قمنا بها، ونبدأ من جديد ببناء الهوية الإسلامية.
بعد هذا اللقاء وهذا الأمر من الإمام(قده) , باشر قائد الحرس الثوري آنذاك الحاج محسن رضائي ونائبه الحاج علي شمخاري بالتنسيق مع سفير الجمهورية في سوريا آنذاك السيد محتشمي, ووضعوا شعار حزب الله الموجود الآن, وبدأت طلائع المقاومة في لبنان بالظهور...
عندما بدأنا بالعمل من الصفر, اعتبرنا جميعاً أنّ الإمام الخميني(قده) هو مرجع التقليد, ونلتزم بطريقة فهمه للإسلام, هذا الذي عبُّر عنه بخطّ الإمام(قده) وخطّ ولاية الفقيه. بالطبع فقد تعرّضنا لمشاكلٍ واعتراضاتٍ كثيرةٍ في لبنان، لكنّنا لم نتوقّف.
الجانب الجهادي السياسي عند الإمام(قده)
في الجانب الجهادي والسياسي, يتميّز الإمام الخميني(قده) بقاطعيّة فريدة, وفهمٍ خاصٍّ لمبدأ الاحتياط في الدماء. هناك فهمٌ سائد بأن الاحتياط في الدم يعني أن لا نريق أيّ قطرة دم, لكنّ الإمام(قده) له فهمه المختلف، فعندما كان منفياً في النجف, حصل في يوم معيّن مجزرة بحقّ الشعب الإيراني, إلى درجة أنّ قنوات المياه الموجودة على الطرقات اختلطت بالدماء! وظنّ بعض الناس أنّ الثورة قد انتهت, إلا أنّ الإمام الخميني(قده) كتب بياناً وصل إلى الشعب الإيراني بعد انتهائهم من دفن موتاهم, قال فيه : "لم يصل عدد شهدائنا بعد إلى عدد شهداء صفين". فانفجرت الثورة من جديد. من هنا فإنّ قاعدة الاحتياط عند الإمام الخميني(قده) مفادها أنّنا إذا لم نقدّم الشهداء فسنخسر أكثر .
كما تميّز الإمام(قده) بصلابته، وأذكر حادثةً حصلت معه في قم عند أوّل تحرّك في المدرسة الفيضية, حيث كان هناك اجتماع في المدرسة الفيضيّة, وكان الإمام يلقي خطبة هناك. السافاك أرسلوا شخصاً إلى الإمام ليخيفه, وقال له : "أنا جئت من قبل جلالة الشاه لنخبرك أنّ مأموري جلالة الشاه (أي الشرطة) سوف يخربون اجتماعكم في المدرسة الفيضية" , الإمام(قده) مباشرةً قال له : "ونحن نقول لمأمورينا أن يؤدّبوا مأموري جلالة الشاه" .
وفي حادثةٍ أخرى, كان الإمام(قده) يلقي خطبةً في المدرسة الفيضية, فدخل عددٌ من أزلام الشاه وشعر الإمام(قده) بنواياهم التخريبية, فقال من على المنبر : "إن لم يتوقّف هؤلاء فإنّنا سننقل الخطبة إلى حرم السيدة المعصومة(ع) ". طبعا الإمام(قده) كان يعرف أنّ هؤلاء (المأمورين) لا يتصرّفون إلا بأوامر من الشاه, فإذا انتقل إلى حرم المعصومة, لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذن الشاه، ولذا فقد أفشل مخطّطهم.
هذه الخصائص في الإمام الخميني(قده) تعود إليه بسبب إيمانه بالله تعالى , وعدم الخوف إلا من الله تعالى. ومعروف عنه(قده) أنّه لم يخف في أيّ من الحوادث التي حصلت معه, وهو بنفسه أقسم بأنّه لم يخف من الشاه وجلاوزته أبداً في كلّ المواقف التي حصلت معه. هذا كلّه منشؤه العبادة التي امتاز بها الإمام الخميني(قده) عن غيره.
ما عرفناك بعد
مهما كثرت قراءاتنا لنهج الإمام(قده) ومواقفه، فإنّني ما زلت كلّما أقرأ للإمام(قده) أقول بيني وبين نفسي: "ما عرفناك بعد!!". فمثلاً, هو قال:"إنّ هذا القرن هو قرن سقوط الأساطير", عندما قالها لم نلتفت كثيراً إلى معناها, ولكن الآن أصبح كلامه واضحاً, فنحن الآن نشهد مقدّمات زوال أمريكا, ومن قبل شهدنا زوال الاتّحاد السوفياتي...
ولهذا كلّه، فإنّ خطاب الإمام(قده) يجب أن يُقرأ على مستوى العالم كلّه, والخصائص الهامّة في خطّ الإمام يجب التنبّه لها, ويجب أن نضبط حركة تثقيفنا في الحوزات وعند الناس عموماً على هذا الأساس, باعتبار أنّ الإمام هو فقيهٌ نوعيّ, وعارفٌ نوعيّ, وقائدٌ سياسيٌّ نوعيّ...
والحمد لله رب العالمين