أدرجت هذه المقابلة في العدد السابع من مجلّة البشير الصادرة عن ممثّلية المصطفى (ص) في لبنان
حماس الشباب وشيبة الحكماء... وابتسامةٌ وحسن استقبال ينبئانك عن غاية التواضع، ورأس العلم التواضع...إنّه سماحة السيّد عبد الكريم فضل الله، الذي يحكي لك سيرته وتجاربه، فيتحتّم عليك أن لا تطيل في الإطراء والمديح؛ لأنّ في تجاربه الحافلة غنيةً عن كلّ كلام...
لو يحدّثنا سماحة السيّد عن فترة صباه والأجواء العائلية، وما الذي دفعه للتوجّه نحو طلب العلوم الدينية؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. أولاً أنا ابن عائلة علمية عريقة, قد تتّصل إلى زمن الأئمّة (ع), وهذا ما أسّس لشيء في نفسي, فجدّي(قده) كان أوّل عالم شيعي استقرّ في بيروت , وكان عالماً جليلاً مجتهداً , وقد اجتمع حوله مجموعة من الطلاب لتدرس عنده. وكذلك الأمر بالنسبة لوالدي (قده) ، الذي كان يلقي دروساً في المسجد في برج البراجنة.
كنت أحضر تلك الدروس، خاصةً في فصل الصيف، وأذكر أنّي درست قطر الندى مثلاً - وكان عمري تسع سنوات - في الصيف الذي يفصل بين الأوّل والثاني تكميلي. كما أنّني كنت أصغر شخص خضع لامتحانات صف الخامس الابتدائي في لبنان؛ حيث كان عمري ثماني سنوات وعدّة أشهر . وقد جعل صغر سنّي الأنظار تتوجّه إليّ بشكل خاص. كما أنّ والدي(قده) كان يأمل أن أصبح عالماً في المستقبل.
الجوّ العام للتديّن في ذلك الوقت
في ذلك الزمان كان هناك تراجع ديني هائل , سببه المدّ الشيوعي العلماني, حتى يمكن القول إنّه من الشمال إلى الجنوب , لم يكن يوجد خمسون شابّاً يصلّون ويصومون! والوضع في الجامعات أسوأ وأسوأ, فقد كانوا يعتبرون الإسلام أمراً وقد انقضى, ولا يوجد أيّ جوّ ديني كلياً, وكان نادراً جداً أن تجد فتيات محجّبات بالشكل الصحيح. لقد عشنا غرباء بكلّ ما للكلمة من معنى , وحاولنا - نحن القلّة الملتزمة- في ذلك الزمان أن نعمل شيئاً , فكنّا - مثلاً- نجمع من أموالنا الشخصية لنضع لوحة في المدرسة , فيها بعض القضايا الدينية .
القرار المصيري
بعدما أنهيت المرحلة الثانوية، قرّرت دراسة الطبّ في الجامعة اليسوعية، فخضعت لامتحان الدخول، وكنت من الأوائل.
من جهة أخرى، كنت في ذلك الوقت أقيم حلقاتٍ دينية في المساجد تجمع إلى حدّ خمسين طفلاً. ومن هنا بدأت أحسّ بحاجة المجتمع لعلماء دين، وصرت أتساءل: " ما الذي يخدم الإسلام أكثر، في ظلّ تلك الأجواء الصعبة؟" إنّه -ولا شكّ- التوجّه نحو الحوزة العلمية!
لقد كان قراراً صعباً، عارضني عليه أصدقائي وجلّ أقاربي؛ إذ كيف أترك دراسة الطبّ في الجامعة اليسوعية، وما يعقبها من معيشة هنيّة، وأتوجّه نحو الحوزة التي لا يُعلم مستقبلها المعيشي.
الدراسة في النجف
عندما توجّهت إلى النجف قرّرت أن أدرس في كلّية الفقه التابعة للنجف، بالإضافة إلى دراستي الحوزوية، لكنّي وجدت لاحقاً أنّ دراستي في الكلية فيه مضيعة للوقت، فقرّرت حينها التفرّغ للحوزة بشكل كلّي.
درست الشرائع، قطر الندى وألفية ابن الناظم، وكذلك المنطق وحاشية الملا عبد الله، وغيرها الكثير من الكتب وصولاً إلى الخارج.
درست عند عددٍ من الأساتذة، كالسيد عبد الصاحب الحكيم، والشيخ مصطفى الهندي، وأبي الحسن أنوار وغيرهم. ودرست بنفسي العديد من الكتب على هامش الكتب الدراسية.
درست قسماً من الكفاية عند السيد محمد جعفر الحكيم (قده) , ودرست الحاشية ومختصر المعاني عند السيد عبد الرزاق الحكيم , وكذلك درست قسماً من الرسائل عند السيد محمد رضا الحكيم . كنت أبحث عن أستاذ كفاية. السيد أبو الحسن أنوار كان أستاذاً جيداً, لكنّه من منطقة أذربيجان ولسانه كان ثقيلاً, وإن كان مثل السيد محمد باقر الصدر (قده) في ثقل العلم، بل لعلّه كان أكثر! طلبت منه أن يدرّسني الكفاية , قال لي إنّه لا يعرف العربية جيداً, فقلت له : أنا سأحضّر الدرس , وألقيه عليك, وأنت عليك أن تسمعني وتعطيني بعض الملاحظات. وافق معي, فبدأنا ندرس الكفاية بهذا الشكل .
طبعاً هذا النمط متعبٌ جداً, لكنّه أسّس, وهو مثمرٌ جدّاً؛ لأنّني كنت مضطراً لمطالعة الكثير من الكتب مع الكفاية، والتحضير منها.
حادثة معبّرة صارت معه
أذكر أنّ السيد أبا الحسن أنوار قال لي مرّة : "سيدنا! عندك كفاءة عالية , ولديك قوة ونشاط وذكاء , لكن منذ يومين لاحظنا عليك أنّك في الكفاية لا تحضّر الدرس جيداً , لماذا؟"
تأثّرت بكلامه كثيراً، ولذلك في اليوم الثاني ذهبت وحضّرت مطلب الشبهة المصداقية في الكفاية , (وهو من أطول المطالب).
شرحت الدرس كلّه مع حواشيه, ولمدّة ساعة ونصف لم يقل أيّة كلمة, ثمّ قال لي بالحرف: "زين زين , أنت عندك هذه الإمكانيات والطاقات, لماذا فعلت بنفسك هكذا" , ثم قال لي عبارةً لم تغب عن بالي حتى اليوم، وهي : "إنّ لكم في الماضين لعبرة" .
الجدّية في الدرس
لم آتِ إلى لبنان , إلا صيفين في السنوات التسع التي قضيتها بالدراسة , واحدة كانت لأمرٍ اضطراري , وواحدة للزواج , وأمّا باقي فصول الصيف قضيتها هناك, رغم الطقس الحار جداً .
كنّا ندرس خمس عشرة ساعة في اليوم الواحد دون أيّة مبالغة , يعني لم نكن ننام أكثر من ساعتين في اليوم الواحد, طبعا هذا أثّر عليّ سلباً , وأنا اليوم لا أحبّذ ذلك .
كان عندنا في كلّ يوم أكثر من جلسة مذاكرة , وهذا ما تمتاز به الحوزة, ولو استطاعت العلوم الأخرى أن تأخذ المنهج الحوزوي , لكان عندنا عباقرة في الطبّ والهندسة والفيزياء, لكنّ المنهج الأكاديمي فيه الكثير من الثغرات .
كنّا نطرق الأبواب من أجل أن نجد مباحثاً , ليلاً ونهاراً , نطرق الأبواب من أجل أن نجد أستاذاً , الحمد لله الآن يوجد حوزات جاهزة وفيها أساتذة, لكنّ أوضاعنا لم تكن هكذا .
كنّا نصلّي الصبح ونبدأ بالدرس, أحد عشر وقتاً إلى الظهر، بين تدريس ومذاكرة ومباحثة, وفي بعض المراحل كنت أتناول طعام الفطور بشكل سريع , نصف رغيف فقط؛ لأنّه ليس لدي وقت. كان السبب الأبرز في هذه الجدّية: الجوّ العام, حيث كنت أرى أنّنا لن نستطيع البقاء في النجف الأشرف فترة طويلة.
منهجية خاصّة في الدرس
كان عندي منهجيّة خاصّة في الدرس , وأنا أؤكّد عليها كثيراً . وهي أنّه في بادئ أيّ علم، من الضروري أن يأخذ الطالب مختصراً شديداً عنه (أربع أو خمس صفحات) , ضمن منهجية مركّبة، ليست هي مجرّد تلخيص لذلك العلم, بل اختيار رؤوس مطالبه بطريقة منهجية.
وفي الواقع، هذه منهجية علي بن أبي طالب (ع) في علم النحو، حيث يختصر علم النحو برؤوس أفكار، مثل: "الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى, والحرف ما أوجد معنًى في غيره"... ولذلك ألّفت كتيباً في منهجية الاستنباط, ولخّصتها في صفحة واحدة, وأنا أنصح كلّ طالب علم في الأصول أن يدرس هذه الصفحة، ويتعرّف على المنهجية التي أدعو إليها.
هذه المنهجية ناديت بها في النجف الأشرف , وأخذت أصل الفكرة من ابن سينا , إذ كان يقول : "بلغت العشرين وقد تعلّمت كلّ العلوم , وما بعد العشرين كان عبارة عن نضوج"، وقد ذكر في بعض كتبه كيف فعل هذا الشيء.
من جهة أخرى، ذُكر أمامي أنّ الشيخ الصدوق(قده) كان يراجع كلّ يوم من أوّل الكتاب إلى الموضع الذي يريد درسه، فبدأت بهذه المسألة في شرح حاشية الملا عبد الله، وأنا أنصح بها.
للوهلة الأولى قد يبدو للطالب أنّ هذه الطريقة تحتاج إلى وقت, لكنّ حقيقة الأمر أنّها تحتاج إلى ترويض النفس، ومن ثمّ ستصبح سهلةً ونافعةً جداً. وأنا أذكر أنّني كنت أراجع الكفاية (وهي من الكتب الصعبة نسبياً) بهذه الكيفية من أوّلها إلى نصفها خلال نصف ساعة . وإلى يومنا هذا, أستطيع أن أذكر لك موقع العبارة الفلانية, وفي أية صفحة ... لماذا؟ لأنّني أراجع في كل يوم .
علاقته بالإمام الخميني(قده) والسيد الخوئي(قده)
كنّا نزور الإمام الخميني(قده) بشكلٍ متكرّر، ونلتقي به في "البرّاني" من منزله.
وكانت للسيد الخوئي(قده) علاقة طيبة جداً معي شخصياً , حتى طلب منّي أن أدرّس أولاده: السيد عبد المجيد والسيد إبراهيم. وكان يمازحني قائلاً: "أنا أستاذ أبيك, وأنت أستاذ أبنائي".
الأوضاع الصعبة للنجف
أذكر حينها أنّ أيّ شخص من طلاب الحوزة في النجف لو أراد أن يصبح أستاذ مدرسة, يقبل مباشرةً ويعطى راتباً شهرياً قدره ثمانية عشر ديناراً (وهو يفوق ما يتقاضاه طلاب الحوزة بكثير), ولذلك كثير من الطلبة - ولشدّة فقرهم- تركوا الحوزة. وقد اعتمد النظام العراقي الفاسد هذه السياسة؛ لأنّه كان يسعى للقضاء على الحوزة, من خلال فتح الباب المادي وفرض حصار اقتصادي على الحوزة.
ومن شدّة ما عانت منه الحوزة، أذكر أنّ أحد أساتذة الحوزة طُلب منه تدريس الكفاية لأحد الطلاب, فذهب الأستاذ إلى الشيخ محمد رضا المظفّر ليستشيره إن كان من المناسب تدريس ذلك الطالب الكفاية. وإذ بالشيخ المظفّر يجيبه: "درّسه، فإنّه آخر من سيدرُس الكفاية"!
من جهة أخرى، اتّبع النظام الفاسد سياسة تسفير طلاب الحوزة العلمية , في بادئ الأمر كانوا يسفّرون الإيرانيين, ثم بعد ذلك كل من ليس عراقياً , بعنوان "هذا أصله إيراني"، والعلاقات كانت متوتّرة مع شاه إيران. وفي الواقع، كانت هذه وسيلة لتدمير الحوزة من الداخل .
لقد عايشنا تلك الفترة، وكنّا أحياناً - أثناء موجات الاعتقالات - نخفي أنفسنا , وكثيراً ما كنت أكتب وصيتي! لكن رغم ذلك كان قرار البقاء قراراً صلباً لدينا.
الأوضاع التي فرضت عليه المغادرة:
تمّ اعتقال أخي سماحة السيد عبد الله وتعرّض للتعذيب الشديد (حتّى أنّ وفاته لاحقاً كانت نتيجة التعذيب الذي تعرّض له أثناء اعتقاله). بعد ثلاثة وأربعين يوماً, تمّ الإفراج عنه, لكنّي أصبحت في جوّ لا يسمح لي بالبقاء, حيث بدأت تأتيني تحذيرات: أنّ العين أصبحت عليك حادّة. .
خرجت من النجف الأشرف, وجئت إلى لبنان, وكان الهمّ الأساس هو المسألة التبليغية, فعملنا على ثلاثة خطوط , خطّ التبليغ , وخطّ تأسيس الجمعيات, والخطّ الحوزوي والجامعي .
على خطّ التبليغ، أسّسنا في كل حيّ جلسة , نجلس فيها مع الناس, ونتعرّف عليهم, وعلى واقعهم وعلى مشاكلهم. كنا نحاول أن نبتكر الطرق التبليغية المناسبة .
أمّا على خطّ المؤسّسات, فقد أسّسنا جمعية الإمام الحسين (ع) . ولديها الآن فروع موجودة , ونشاطات اجتماعية , ونعمل الآن على مشروع مدرسة .
في نفس الوقت , كنا لا نريد أن ننقطع عن الدراسة الحوزوية, فأسّسنا حوزة الثقلين. كما شاركنا في تأسيس حوزة الرسول الأكرم‘، ثمّ تابعت كمدرّس ومشرفٍ على عددٍ من الطلاب.
أسّسنا نافذة إلى بحث الخارج, فقهاً وأصولاً, والآن لدينا محاولة لإنشاء هيئة أمناء الحوزات العلمية في لبنان؛ لضبط وضع الحوزات, ووضع العمامة, وما شاكل.
نصيحة للمعلّمين
أغتنم الفرصة وأوجّه نصيحةً لكلّ معلّم، فأقول: إذا أردت النجاح في التعليم, اسمح للطالب أن يعيش جوّ حياته, أعطه من واقعه المعاش, ترسخ الفكرة بذلك تماماً. وهذا تعلّمناه من أيام النجف, حيث كنّا دائماً نفكّر كيف نوصل الفكرة إلى الطلاب. ومن هنا أطلب من الحوزات أن يسمحوا للطالب أن يعيش الفكرة من واقعه, لا أن يدعوه معلّقاً برموز لا يفهم منها شيئاً .
توصيات إلى طالب العلم :
أوصي أن يجعل الإنسان كل لحظة من حياته لطلب العلم , فالعمر قصير جداً . وأوصي طالب العلم أن ينشر الحقّ, وينفع الناس, ويقتصر في عمله على ما فيه لله رضا، وأن يجعل قلبه لله، وهذا يعني تربية النفس بحيث تتحسّس وتتألّم إذا ما وجدت منطقة إسلامية فيها بعض العيوب .
يا طالب العلم! عندما تصبح تتألّم لكلّ ما يعرقل نشر الإسلام والتشيّع, وتحاول أن تفعّل هذا الألم عملاً وتبليغاً وعطاءً, حينئذٍ تصبح طالب علمٍ حقيقي. أمّا إذا لم تتألّم لآلام الناس، فلن توصل الناس إلى برّ الأمان وإلى الحقيقة البشرية. وإذا لم تتحسّس لمشاكل الناس، فلن تكون قريباً من الله عزّ وجلّ.
اللهم اجعل لي بكلّ كلمة أقولها، وبكل كلمة يسمعها الناس منّي، الأجر والثواب. والحمد لله رب العالمين.
الحوزة تمتاز عن الجامعات والأكاديميات بأربعة أمور :
1-نمط الكتب الحوزوية يختلف عن نمط الكتب الجامعية , الكتاب عندما تدرسه يصنع منك عالما
2- حرية اختيار الأستاذ، المكان، الزميل.
3- مجالس المذاكرة .العلم الذي يأتي عفويا , وبحماسة , هو العلم الذي يتركز ويتفعل
4- مجالس الأبحاث , المقصود من الأبحاث هنا , أن أقوم أنا وأنت الذين درسنا الدرس , ثم يشرح أحدنا الدرس, والثاني عليه أن يشكل عليه , طبعا هذا النمط يفطق الذهن, يصنع أستاذاً, يصنع طالباً حقيقياً.
حماس الشباب وشيبة الحكماء... وابتسامةٌ وحسن استقبال ينبئانك عن غاية التواضع، ورأس العلم التواضع...إنّه سماحة السيّد عبد الكريم فضل الله، الذي يحكي لك سيرته وتجاربه، فيتحتّم عليك أن لا تطيل في الإطراء والمديح؛ لأنّ في تجاربه الحافلة غنيةً عن كلّ كلام...
لو يحدّثنا سماحة السيّد عن فترة صباه والأجواء العائلية، وما الذي دفعه للتوجّه نحو طلب العلوم الدينية؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين. أولاً أنا ابن عائلة علمية عريقة, قد تتّصل إلى زمن الأئمّة (ع), وهذا ما أسّس لشيء في نفسي, فجدّي(قده) كان أوّل عالم شيعي استقرّ في بيروت , وكان عالماً جليلاً مجتهداً , وقد اجتمع حوله مجموعة من الطلاب لتدرس عنده. وكذلك الأمر بالنسبة لوالدي (قده) ، الذي كان يلقي دروساً في المسجد في برج البراجنة.
كنت أحضر تلك الدروس، خاصةً في فصل الصيف، وأذكر أنّي درست قطر الندى مثلاً - وكان عمري تسع سنوات - في الصيف الذي يفصل بين الأوّل والثاني تكميلي. كما أنّني كنت أصغر شخص خضع لامتحانات صف الخامس الابتدائي في لبنان؛ حيث كان عمري ثماني سنوات وعدّة أشهر . وقد جعل صغر سنّي الأنظار تتوجّه إليّ بشكل خاص. كما أنّ والدي(قده) كان يأمل أن أصبح عالماً في المستقبل.
الجوّ العام للتديّن في ذلك الوقت
في ذلك الزمان كان هناك تراجع ديني هائل , سببه المدّ الشيوعي العلماني, حتى يمكن القول إنّه من الشمال إلى الجنوب , لم يكن يوجد خمسون شابّاً يصلّون ويصومون! والوضع في الجامعات أسوأ وأسوأ, فقد كانوا يعتبرون الإسلام أمراً وقد انقضى, ولا يوجد أيّ جوّ ديني كلياً, وكان نادراً جداً أن تجد فتيات محجّبات بالشكل الصحيح. لقد عشنا غرباء بكلّ ما للكلمة من معنى , وحاولنا - نحن القلّة الملتزمة- في ذلك الزمان أن نعمل شيئاً , فكنّا - مثلاً- نجمع من أموالنا الشخصية لنضع لوحة في المدرسة , فيها بعض القضايا الدينية .
القرار المصيري
بعدما أنهيت المرحلة الثانوية، قرّرت دراسة الطبّ في الجامعة اليسوعية، فخضعت لامتحان الدخول، وكنت من الأوائل.
من جهة أخرى، كنت في ذلك الوقت أقيم حلقاتٍ دينية في المساجد تجمع إلى حدّ خمسين طفلاً. ومن هنا بدأت أحسّ بحاجة المجتمع لعلماء دين، وصرت أتساءل: " ما الذي يخدم الإسلام أكثر، في ظلّ تلك الأجواء الصعبة؟" إنّه -ولا شكّ- التوجّه نحو الحوزة العلمية!
لقد كان قراراً صعباً، عارضني عليه أصدقائي وجلّ أقاربي؛ إذ كيف أترك دراسة الطبّ في الجامعة اليسوعية، وما يعقبها من معيشة هنيّة، وأتوجّه نحو الحوزة التي لا يُعلم مستقبلها المعيشي.
الدراسة في النجف
عندما توجّهت إلى النجف قرّرت أن أدرس في كلّية الفقه التابعة للنجف، بالإضافة إلى دراستي الحوزوية، لكنّي وجدت لاحقاً أنّ دراستي في الكلية فيه مضيعة للوقت، فقرّرت حينها التفرّغ للحوزة بشكل كلّي.
درست الشرائع، قطر الندى وألفية ابن الناظم، وكذلك المنطق وحاشية الملا عبد الله، وغيرها الكثير من الكتب وصولاً إلى الخارج.
درست عند عددٍ من الأساتذة، كالسيد عبد الصاحب الحكيم، والشيخ مصطفى الهندي، وأبي الحسن أنوار وغيرهم. ودرست بنفسي العديد من الكتب على هامش الكتب الدراسية.
درست قسماً من الكفاية عند السيد محمد جعفر الحكيم (قده) , ودرست الحاشية ومختصر المعاني عند السيد عبد الرزاق الحكيم , وكذلك درست قسماً من الرسائل عند السيد محمد رضا الحكيم . كنت أبحث عن أستاذ كفاية. السيد أبو الحسن أنوار كان أستاذاً جيداً, لكنّه من منطقة أذربيجان ولسانه كان ثقيلاً, وإن كان مثل السيد محمد باقر الصدر (قده) في ثقل العلم، بل لعلّه كان أكثر! طلبت منه أن يدرّسني الكفاية , قال لي إنّه لا يعرف العربية جيداً, فقلت له : أنا سأحضّر الدرس , وألقيه عليك, وأنت عليك أن تسمعني وتعطيني بعض الملاحظات. وافق معي, فبدأنا ندرس الكفاية بهذا الشكل .
طبعاً هذا النمط متعبٌ جداً, لكنّه أسّس, وهو مثمرٌ جدّاً؛ لأنّني كنت مضطراً لمطالعة الكثير من الكتب مع الكفاية، والتحضير منها.
حادثة معبّرة صارت معه
أذكر أنّ السيد أبا الحسن أنوار قال لي مرّة : "سيدنا! عندك كفاءة عالية , ولديك قوة ونشاط وذكاء , لكن منذ يومين لاحظنا عليك أنّك في الكفاية لا تحضّر الدرس جيداً , لماذا؟"
تأثّرت بكلامه كثيراً، ولذلك في اليوم الثاني ذهبت وحضّرت مطلب الشبهة المصداقية في الكفاية , (وهو من أطول المطالب).
شرحت الدرس كلّه مع حواشيه, ولمدّة ساعة ونصف لم يقل أيّة كلمة, ثمّ قال لي بالحرف: "زين زين , أنت عندك هذه الإمكانيات والطاقات, لماذا فعلت بنفسك هكذا" , ثم قال لي عبارةً لم تغب عن بالي حتى اليوم، وهي : "إنّ لكم في الماضين لعبرة" .
الجدّية في الدرس
لم آتِ إلى لبنان , إلا صيفين في السنوات التسع التي قضيتها بالدراسة , واحدة كانت لأمرٍ اضطراري , وواحدة للزواج , وأمّا باقي فصول الصيف قضيتها هناك, رغم الطقس الحار جداً .
كنّا ندرس خمس عشرة ساعة في اليوم الواحد دون أيّة مبالغة , يعني لم نكن ننام أكثر من ساعتين في اليوم الواحد, طبعا هذا أثّر عليّ سلباً , وأنا اليوم لا أحبّذ ذلك .
كان عندنا في كلّ يوم أكثر من جلسة مذاكرة , وهذا ما تمتاز به الحوزة, ولو استطاعت العلوم الأخرى أن تأخذ المنهج الحوزوي , لكان عندنا عباقرة في الطبّ والهندسة والفيزياء, لكنّ المنهج الأكاديمي فيه الكثير من الثغرات .
كنّا نطرق الأبواب من أجل أن نجد مباحثاً , ليلاً ونهاراً , نطرق الأبواب من أجل أن نجد أستاذاً , الحمد لله الآن يوجد حوزات جاهزة وفيها أساتذة, لكنّ أوضاعنا لم تكن هكذا .
كنّا نصلّي الصبح ونبدأ بالدرس, أحد عشر وقتاً إلى الظهر، بين تدريس ومذاكرة ومباحثة, وفي بعض المراحل كنت أتناول طعام الفطور بشكل سريع , نصف رغيف فقط؛ لأنّه ليس لدي وقت. كان السبب الأبرز في هذه الجدّية: الجوّ العام, حيث كنت أرى أنّنا لن نستطيع البقاء في النجف الأشرف فترة طويلة.
منهجية خاصّة في الدرس
كان عندي منهجيّة خاصّة في الدرس , وأنا أؤكّد عليها كثيراً . وهي أنّه في بادئ أيّ علم، من الضروري أن يأخذ الطالب مختصراً شديداً عنه (أربع أو خمس صفحات) , ضمن منهجية مركّبة، ليست هي مجرّد تلخيص لذلك العلم, بل اختيار رؤوس مطالبه بطريقة منهجية.
وفي الواقع، هذه منهجية علي بن أبي طالب (ع) في علم النحو، حيث يختصر علم النحو برؤوس أفكار، مثل: "الاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى, والحرف ما أوجد معنًى في غيره"... ولذلك ألّفت كتيباً في منهجية الاستنباط, ولخّصتها في صفحة واحدة, وأنا أنصح كلّ طالب علم في الأصول أن يدرس هذه الصفحة، ويتعرّف على المنهجية التي أدعو إليها.
هذه المنهجية ناديت بها في النجف الأشرف , وأخذت أصل الفكرة من ابن سينا , إذ كان يقول : "بلغت العشرين وقد تعلّمت كلّ العلوم , وما بعد العشرين كان عبارة عن نضوج"، وقد ذكر في بعض كتبه كيف فعل هذا الشيء.
من جهة أخرى، ذُكر أمامي أنّ الشيخ الصدوق(قده) كان يراجع كلّ يوم من أوّل الكتاب إلى الموضع الذي يريد درسه، فبدأت بهذه المسألة في شرح حاشية الملا عبد الله، وأنا أنصح بها.
للوهلة الأولى قد يبدو للطالب أنّ هذه الطريقة تحتاج إلى وقت, لكنّ حقيقة الأمر أنّها تحتاج إلى ترويض النفس، ومن ثمّ ستصبح سهلةً ونافعةً جداً. وأنا أذكر أنّني كنت أراجع الكفاية (وهي من الكتب الصعبة نسبياً) بهذه الكيفية من أوّلها إلى نصفها خلال نصف ساعة . وإلى يومنا هذا, أستطيع أن أذكر لك موقع العبارة الفلانية, وفي أية صفحة ... لماذا؟ لأنّني أراجع في كل يوم .
علاقته بالإمام الخميني(قده) والسيد الخوئي(قده)
كنّا نزور الإمام الخميني(قده) بشكلٍ متكرّر، ونلتقي به في "البرّاني" من منزله.
وكانت للسيد الخوئي(قده) علاقة طيبة جداً معي شخصياً , حتى طلب منّي أن أدرّس أولاده: السيد عبد المجيد والسيد إبراهيم. وكان يمازحني قائلاً: "أنا أستاذ أبيك, وأنت أستاذ أبنائي".
الأوضاع الصعبة للنجف
أذكر حينها أنّ أيّ شخص من طلاب الحوزة في النجف لو أراد أن يصبح أستاذ مدرسة, يقبل مباشرةً ويعطى راتباً شهرياً قدره ثمانية عشر ديناراً (وهو يفوق ما يتقاضاه طلاب الحوزة بكثير), ولذلك كثير من الطلبة - ولشدّة فقرهم- تركوا الحوزة. وقد اعتمد النظام العراقي الفاسد هذه السياسة؛ لأنّه كان يسعى للقضاء على الحوزة, من خلال فتح الباب المادي وفرض حصار اقتصادي على الحوزة.
ومن شدّة ما عانت منه الحوزة، أذكر أنّ أحد أساتذة الحوزة طُلب منه تدريس الكفاية لأحد الطلاب, فذهب الأستاذ إلى الشيخ محمد رضا المظفّر ليستشيره إن كان من المناسب تدريس ذلك الطالب الكفاية. وإذ بالشيخ المظفّر يجيبه: "درّسه، فإنّه آخر من سيدرُس الكفاية"!
من جهة أخرى، اتّبع النظام الفاسد سياسة تسفير طلاب الحوزة العلمية , في بادئ الأمر كانوا يسفّرون الإيرانيين, ثم بعد ذلك كل من ليس عراقياً , بعنوان "هذا أصله إيراني"، والعلاقات كانت متوتّرة مع شاه إيران. وفي الواقع، كانت هذه وسيلة لتدمير الحوزة من الداخل .
لقد عايشنا تلك الفترة، وكنّا أحياناً - أثناء موجات الاعتقالات - نخفي أنفسنا , وكثيراً ما كنت أكتب وصيتي! لكن رغم ذلك كان قرار البقاء قراراً صلباً لدينا.
الأوضاع التي فرضت عليه المغادرة:
تمّ اعتقال أخي سماحة السيد عبد الله وتعرّض للتعذيب الشديد (حتّى أنّ وفاته لاحقاً كانت نتيجة التعذيب الذي تعرّض له أثناء اعتقاله). بعد ثلاثة وأربعين يوماً, تمّ الإفراج عنه, لكنّي أصبحت في جوّ لا يسمح لي بالبقاء, حيث بدأت تأتيني تحذيرات: أنّ العين أصبحت عليك حادّة. .
خرجت من النجف الأشرف, وجئت إلى لبنان, وكان الهمّ الأساس هو المسألة التبليغية, فعملنا على ثلاثة خطوط , خطّ التبليغ , وخطّ تأسيس الجمعيات, والخطّ الحوزوي والجامعي .
على خطّ التبليغ، أسّسنا في كل حيّ جلسة , نجلس فيها مع الناس, ونتعرّف عليهم, وعلى واقعهم وعلى مشاكلهم. كنا نحاول أن نبتكر الطرق التبليغية المناسبة .
أمّا على خطّ المؤسّسات, فقد أسّسنا جمعية الإمام الحسين (ع) . ولديها الآن فروع موجودة , ونشاطات اجتماعية , ونعمل الآن على مشروع مدرسة .
في نفس الوقت , كنا لا نريد أن ننقطع عن الدراسة الحوزوية, فأسّسنا حوزة الثقلين. كما شاركنا في تأسيس حوزة الرسول الأكرم‘، ثمّ تابعت كمدرّس ومشرفٍ على عددٍ من الطلاب.
أسّسنا نافذة إلى بحث الخارج, فقهاً وأصولاً, والآن لدينا محاولة لإنشاء هيئة أمناء الحوزات العلمية في لبنان؛ لضبط وضع الحوزات, ووضع العمامة, وما شاكل.
نصيحة للمعلّمين
أغتنم الفرصة وأوجّه نصيحةً لكلّ معلّم، فأقول: إذا أردت النجاح في التعليم, اسمح للطالب أن يعيش جوّ حياته, أعطه من واقعه المعاش, ترسخ الفكرة بذلك تماماً. وهذا تعلّمناه من أيام النجف, حيث كنّا دائماً نفكّر كيف نوصل الفكرة إلى الطلاب. ومن هنا أطلب من الحوزات أن يسمحوا للطالب أن يعيش الفكرة من واقعه, لا أن يدعوه معلّقاً برموز لا يفهم منها شيئاً .
توصيات إلى طالب العلم :
أوصي أن يجعل الإنسان كل لحظة من حياته لطلب العلم , فالعمر قصير جداً . وأوصي طالب العلم أن ينشر الحقّ, وينفع الناس, ويقتصر في عمله على ما فيه لله رضا، وأن يجعل قلبه لله، وهذا يعني تربية النفس بحيث تتحسّس وتتألّم إذا ما وجدت منطقة إسلامية فيها بعض العيوب .
يا طالب العلم! عندما تصبح تتألّم لكلّ ما يعرقل نشر الإسلام والتشيّع, وتحاول أن تفعّل هذا الألم عملاً وتبليغاً وعطاءً, حينئذٍ تصبح طالب علمٍ حقيقي. أمّا إذا لم تتألّم لآلام الناس، فلن توصل الناس إلى برّ الأمان وإلى الحقيقة البشرية. وإذا لم تتحسّس لمشاكل الناس، فلن تكون قريباً من الله عزّ وجلّ.
اللهم اجعل لي بكلّ كلمة أقولها، وبكل كلمة يسمعها الناس منّي، الأجر والثواب. والحمد لله رب العالمين.
الحوزة تمتاز عن الجامعات والأكاديميات بأربعة أمور :
1-نمط الكتب الحوزوية يختلف عن نمط الكتب الجامعية , الكتاب عندما تدرسه يصنع منك عالما
2- حرية اختيار الأستاذ، المكان، الزميل.
3- مجالس المذاكرة .العلم الذي يأتي عفويا , وبحماسة , هو العلم الذي يتركز ويتفعل
4- مجالس الأبحاث , المقصود من الأبحاث هنا , أن أقوم أنا وأنت الذين درسنا الدرس , ثم يشرح أحدنا الدرس, والثاني عليه أن يشكل عليه , طبعا هذا النمط يفطق الذهن, يصنع أستاذاً, يصنع طالباً حقيقياً.