شيبةٌ تختزن عمراً من الجهاد والعطاء، وهيبةٌ تستحضر معها صور المراجع العظام، وبين الشيبة والهيبة عزمٌ راسخٌ ينبئك أنّه لم يفتر يوماً، متنقّلاً بين اندفاع الطالب، وعطاء المعلّم، واجتهاد الفقيه، وبراعة الشاعر، وعرق المجاهد... دون كللٍ ولا مللٍ.
وبالرغم من وضعه الصحّي الذي يحتّم عليه الراحة، آلى سماحة الشيخ حسن طراد على نفسه إلا أن يجيب على أسئلتنا. ولا نخفي الأمر، فقد كنا في البداية متردّدين في إجراء المقابلة؛ حرصاً منّا على صحّته وراحته، إلا أنّ هذا التردّد سرعان ما تلاشى عند اطّلاعنا على سيرته الفذّة التي تشكّل نبراساً حياً لكلّ طلاب العلم، بل لكلّ السائرين على خطى أهل بيت العصمة والطهارة (ع)....
بدايةً، ما هو الدافع الذي دفع سماحة الشيخ للتوجّه نحو طلب العلوم الدينية؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه المنتجبين، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، في الواقع إنّ الدافع الذي دفعني ونفعني للتوجّه في طريق طلب العلم ينبثق من عاملين أساسيين ، العامل الأول هو الرغبة الذاتية التي تولد مع الإنسان في فطرته دون تكلّف أو تصنّع ، فكنت أجد في نفسي منذ حداثة سني هذه الرغبة وذاك الشوق للسير في هذا الطريق ، ثم جاء العامل الثاني متمّماً ومكمّلاً؛ وهو دور الوالدين، حيث تربّيت في كنف عائلة إيمانية تحمل الكثير من المبادئ والقيم الإسلامية، فوالدتي كانت امرأة مؤمنة هاشمية متواضعة، تسعى لقضاء حوائج الناس. ثمّ إنّ والدي الحاج محمد طراد رحمه الله كان عالماً دون العمامة ،حيث كان رجلاً متفقهاً و خطيباً حسينياً ومربياً رسالياً، فكان منزلنا مقصداً للناس التي كانت تقصده في سبيل الاستخارة أو للاستفسار عن بعض المسائل الشرعية الواقعة محلّ ابتلائهم وغيرها، وكان إذا افتُقِد لا يوجد إلا في مجالس العلماء ، فهذا الجوّ وتلك الروحية لدى والدي دفعته ليوجه بعض أبنائه في سبيل طلب العلم حيث تلاقت رغبته مع رغبتي، فكان كالماء الدافق على الأرض العطشى التي أنبتت جدّاً واجتهاداً وتحصيلاً دون تعب أو ملل ، وقد سار في هذا الطريق - أيضاً- أخي المرحوم سماحة الشيخ محمد علي طراد رحمه الله وطيب ثراه.
هل توجّهتم إلى النجف الأشرف مباشرة ، أم أنّكم درستم شيئاً من العلوم قبل ذلك؟
قبل أن أتوجّه إلى النجف الأشرف شرعت بدراسة المقدّمات هنا في لبنان على أيدي مجموعة من علمائنا الأفاضل.
لو تحدّثوننا سماحة الشيخ عن مرحلة المقدمات: أبرز المواد والأساتذة،
المدة الزمنية، الظروف المعيشية؟
بعد أن أنهيت دراستي العصرية في مدرسة بلدتي معركة شرعت بدراسة المقدمات وذلك في عام 1948، حيث انتقلت إلى المدرسة الدينية وشرعت بدراسة القطر (قطر الندى) على يد العلامة الجليل السيد محمد جواد الحسيني، وذلك بعد حفظي للأجرومية كلّها غيباً في المدرسة العصرية , ثم انتقلت إلى بلدة العباسية وأقمت فيها، حيث شرعت هناك بدراسة ألفية ابن مالك في النحو. وقد ضممت كتاب الشرائع إلى الألفية ، حيث كنت أطالع شرح ابن عقيل على الألفية وشرح شواهده مع شرح ابن الناظم وشواهده وحاشية ملا عبدالله على يد العلامة الجليل الشيخ خليل ياسين، بالإضافة إلى الشمسية في المنطق على يد العلامة الجليل الشيخ موسى عز الدين. ودرست -أيضاً- مختصر المعاني في البلاغة على يد العلامة السيد عباس أبو الحسن في بلدتي معركة، وبعد ذلك انتقلت إلى بلدة طيردبا، حيث شرعت بدراسة مختصر المعاني للتفتازاني في البلاغة على يد العلامة المرحوم الشيخ خليل مغنية, ثمّ درست الشرائع في الفقه والباب الحادي عشر في أصول الدين و المعالم وأوّل الكفاية إلى بحث الحقيقة الشرعية على يد أستاذي الجليل العلامة السيد هاشم معروف، والذي رجّح لي الانتقال إلى النجف الأشرف بعد انتهائي من دراسة الكتب المذكورة عنده قائلاً : "هذا المقدار الذي درسته من المقدمات يعتبر كافياً ووافياً وتستطيع أن تؤسس عليه باقي العلوم وتنتقل إلى النجف الأشرف لتكمل المسيرة بحول الله وقوته". وقد تميّزت دراستي للمقدمات بالجدية المطلقة والمثابرة الدائمة والانقطاع الكلي للدرس دون أن ألتفت إلى أيام العطلة التي محوتها من ذاكرتي! وكنت أتّبِعُ منهج التأنّي والإتقان في كلّ المواد التي كنت أدرسها؛ إيماناً مني بأن الميزان في التقدّم والنجاح في دراسة الكتاب هو الوصول إلى غاية العلم الذي أدرسه فيه، لا إلى نهايته كأوراق تطوى وصفحات أمرّ عليها بسرعة بحيث لا تساعدني على تحصيل الغاية المنشودة من الدراسة المتقنة والتحصيل الجدّي.
كيف كانت الأيام الأولى في النجف الأشرف؟
في البداية وعند وصولي إلى النجف الأشرف عام 1954 نزلت في ضيافة صديقي العزيز سماحة الشيخ أحمد قصير الذي سبقني بالهجرة إلى النجف الأشرف. وأذكر أنّني عند وصولي إلى النجف توجّهت إلى الصحن الشريف مباشرة, وقد التقيت بسماحة الشيخ أحمد هناك، حيث كان جالساً مع مجموعة من الإخوان بانتظار الأذان؛ وذلك للصلاة جماعة بإمامة الإمام السيد محسن الحكيم رحمه الله وطيب ثراه ، وقد بقيت في ضيافته فترة حتى وجدت مكاناً مستقلاً ضمن دارة آل ياسين، أما على صعيد الحوزة العلمية فإني أذكر أنّ الحوزة يومها كانت في عزّ عطائها ، فكانت تلمع نشاطاً وتألقاً وإقبالاً وقبولاً، وقد توفّقنا لكي نسبح في بحرها العميق حتى نصل إلى ما نريد الوصول إليه من النجاح والتوفيق، وقد تحقّق لنا ذلك بعناية الله ودعاء المخلصين وعناية أساتذتنا المحبّين .
بدأت دراستي الحوزوية في النجف الأشرف بدراسة اللمعة لمدّة عامين على يد سماحة الفقيه الحجّة الشيخ محمّد تقي الجواهري(قده)، ثمّ في المكاسب ولنفس المدة تقريباً. وبعد ذلك شرعت بدرس الكفاية والرسائل على يد سماحة آية الله السيد إسماعيل الصدر(قده). وبعدها بدأت بدراسة بحث الخارج عام 1958م على يد زعيم الحوزة العلمية آية الله السيد الخوئي(قده)، وقد امتدّت دراستي لبحث الخارج على يديه إلى ثلاثة وعشرين عاماً، كما حضرت الخارج على يد الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده)، وقد استمررت على حضور درسه لمدة ثلاثة عشر عاماً، إلى حين اعتقاله رحمه الله , وكذلك درست بحث الحوالة والضمان عند الإمام السيد محسن الحكيم(قده)، بالإضافة إلى قيامي بمهمّة التدريس خلال تلك الفترة في مدرسة المرحوم المقدس البروجردي(قده).
كيف كانت علاقتكم بكلٍّ من الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) والإمام الخميني(قده)؟
كانت تربطني بالأستاذ الشهيد الصدر علاقة انجذاب روحي وفكري شديدين نحوه؛ لما كان يتمتّع به من شخصية استثنائية على كافة الصعد، فأنا أعتبره أحد نوابغ هذا العصر، كما أرى أنّ هذه الشخصية الفريدة التي عاصرتها قد وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل عناية الله ورعايته لشخصه الكريم. والذي ساعده على هذا النضج الفكري المبكر لديه هو نبوغه المتوقّد واستعداده الذاتي ، وسعة اطّلاعه وتعمّقه في المطالب الإسلامية الواقعة محلّ ابتلاء المسلمين ، مضافاً إلى عامل الوراثة الذي لعب دوراً بارزاً في هذا المجال، باعتبار أنّ هذه العائلة موهوبة ومعروفة بالنبوغ كما قال بعضهم من آل الصدر : "ما فينا إلا مرجع أو مجتهد"، فما من عالم من علماء آل الصدر السابقين واللاحقين إلا أن يكون مرجعاً عاماً للطائفة، أو أن يكون بمستوى المرجع من حيث بلوغه درجة الاجتهاد، وقد شهد في حقّه بعض أقاربه من العلماء الكبار المجتهدين وهما خالاه الشيخ محمد رضا آل ياسين و الشيخ مرتضى آل ياسين، وكلٌّ منهما كان عالماً جليلاً ومجتهداً كبيراً ومرجعاً محترماً، حيث قالا إنه بلغ مرحلة الاجتهاد قبل أن يتمّ العشرين من عمره ، وكلّ هذه العوامل ساعدته على أن يقدّم هذا التراث الخالد من المؤلّفات الخالدة، فتكفينا مؤلّفاته في الفقه والأصول والفلسفة والاقتصاد وغير ذلك، لنرى مدى عظمة هذا المفكّر الكبير.
وأما عن علاقتي بالإمام الخميني (قده) فأثناء فترة إقامتي في النجف الأشرف كان الإمام الخميني(قده) لا يزال مقيماً في النجف، حيث كنت أتردّد عليه باستمرار للاستفادة من توجيهاته المباركة ، وكانت تربطني بالإمام علاقة وثيقة ومودّة عميقة نابعة من الالتفات التفصيلي إلى شخصيته الرسالية والنضالية، وكنت أتوسّم فيه ملامح القيادة ، وعندما كنت أقوم بزيارته أجده جالساً بهدوء ووقار، تبدو عليه هالة المرجعية الرشيدة والقيادة السديدة التي أهّلته ليصبح مرجع الأمّة وقائدها في مختلف المجالات ومن جميع الجهات، حيث لم تكن قيادته مقصورة على إعطاء الفتاوى لمقلّديه، وإنما كان يتناول شتّى النواحي السياسية التي تهمّ الإسلام والمسلمين من عدّة جهات ومن مختلف الاعتبارات. وهذا ما زادني له حباً ومنه قرباً ولشخصه تقديراً. وكان(قده) قليل الكلام؛ إذا سألته أجاب وإذا سكتَّ سكت، وأنا حلّلت ذلك يومذاك بأن الإمام كان يفكّر بالثورة والانقلاب على نظام الشاه، ومن لوازم هذا التفكير ذلك الصمت الهادئ والهادر ، وكان الإمام(قده) معروفاً بتواضعه الشديد، حيث زارنا في مدرسة البروجردي فاستقبلته يومذاك بكلمة ترحيبية وبمقطوعة من الشعر قلت له في مطلعها :
أشرقت مؤتلقاً بكلّ مكانِ بأشعّة الإيمان والعرفانِ
فتساوت الأقطار فيك حفاوةً لا فرق بين بعيدها والداني
أشرقت في أفق السماء وكنت بالأمس القريب تشعُّ في إيرانِ
كالشمس ينتظم الوجودَ شعاعُها كي ما تعمُّ مواهبُ الرحمن
ماذا تخبروننا عن تجربتكم في مجال التدريس والتأليف؟
لقد بدأت بإعطاء الدروس الحوزوية في مدرسة البروجردي(قده)، وذلك بعد وصولي إلى النجف الأشرف بثلاث أو أربع سنوات، وقد جاء ذلك متزامناً مع أخذي لدرس الخارج في ذاك الوقت، إيماناً مني بأهمية القيام بمهمة التدريس، باعتبار أنّ العلم الذي يحصّله الشخص لا يعتبر ملكاً شخصياً له، بل له منه ما يحتاج إليه في عمل نفسه وأسرته وسائر من يتعلق به وما عليه بعد ذلك إلا أن يوسّع دائرة العمل والإفادة بهذا العلم ليشمل طلاب العلم على النطاق الخاص وكافة فئات المجتمع على النطاق العام، وذلك بتعليم الجاهل وإرشاد الضال والإصلاح بين المتخاصمين، باعتبار أن إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام المستحبّين كما ورد في الحديث عن الرسول الأعظم (ص) ، وقد استمررت على القيام بمهمّة التدريس بعد عودتي إلى لبنان حيث كنت أعطي الدروس أولاً في منزلي، وبعد ذلك انتقلت ونقلت الطلاب إلى حوزة الرسول الأكرم (ص) التي كنت أعتبرها منزلي الثاني ، حيث عملت مع المؤسسين فيها في سبيل بناء صرح تربوي كبير يسعى إلى بناء جيل جديد متزوّد بالإيمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل، وهذا ما حصل بالفعل بفضل الله وتسديده ، وقد اعتمدت في التدريس على الأسلوب المتوسّط بين العمق الذي يُبعدُ المطْلَبَ عن ذهن الطالب وبين الوضوح الذي يجعل المطلب سطحياً وكنت ألخّص الدرس للطلاب مقتصراً على ذكر خصوص المطالب التي تحتوي على مقدار معتدٍّ به من الأهمية العلمية والعملية معاً، بالإضافة إلى بعض المطالب التي لا تترتّب عليها فائدة عملية معتدٌّ بها ولكنّها من الناحية العلمية تمرّن الطالب على التعمّق بالدرس والتركيز والتحصيل.
أما تجربتي الخاصة على صعيد التأليف، فإن الدافع لها هو نفس الدافع الذي دفعني للتوجه إلى طلب العلم؛ لأني لم أطلب العلم لذاته وإنما طلبت العلم من أجل العمل به، وحيث إنّ الكتابة والتأليف والتدريس من أهم أنواع العمل بالعلم النافع للمجتمع والمقرّب إلى الله عز وجل، فقد ألّفت مجموعة من الكتب الإسلامية التربوية والأخلاقية التي تفيد المجتمع بكلّ طبقاته الفكرية ، والآن أعمل على إصدار بعض المؤلّفات العلمية في الفقه والأصول، خدمةً للحوزة العلمية وطلابنا الأعزاء، وأسأل الله عز وجل في عملي هذا القبول.
ما مدى تأثير الأجواء الروحية على المسيرة العلمية للطالب؟
ممّا لا شك فيه أنّ الأجواء الروحية تلعب دوراً بارزاً في استقامة شخصية طالب العلم, باعتبار أنّها تنمّي الجانب الروحي من حياة الطالب. أمّا الدراسة العلمية فهي تتناول الجانب الفكري، ولذا فهي ُتنمّيه فكرياً وعقلياً، إلا أنّ هذا وحده غير كاف , فعليه أن يضمّ إلى الدراسة العلمية التربية العقلية والفكرية والمسلكية، من خلال الإيمان الصادق والعمل الصالح والخُلُق الفاضل التي تجعل منه طالباً فاضلاً وعالماً مخلصاً لرسالته وأمّته ومجتمعه.
بعد خالص الشكر والتقدير، هل من كلمة أخيرة ؟
في الختام لا بدّ من توجيه التهنئة والتبريك لأبنائي الأحبّاء العاملين في مجلّة البشير على النجاح والتوفيق الذي وصلتم إليه وحصلتم عليه عبر جهودكم المضنية وسهركم الدائم في سبيل نشر ثقافة إسلامية واعية ومتنوّعة، داعياً لكم بالمزيد من التقدّم والازدهار، وأودّ أن أستغلّ هذه المناسبة لتوجيه جزيل الشكر وعاطر الثناء وخالص الدعاء لإخواني الأعزاء في جامعة المصطفى‘ العالمية على الجهود التي بذلوها في سبيل القيام بمهمّة التكريم، وأخصّ بالذكر منهم رئيس جامعة المصطفى‘ سماحة آية الله الشيخ علي رضا أعرافي، و المدير العام سماحة العلامة الجليل الشيخ مصطفى جعفري وباقي العلماء الأفاضل والعاملين الأكارم دون استثناء، والجندي المجهول الحاج جواد عواضه، حفظهم الله جميعاً وسدّد خطاهم، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
ما النصائح التي توجّهونها لطلاب العلوم الدينية ؟
أبنائي الأحبّاء طلاب العلم ، النصيحة التي أرغب في توجيهها لكم هي أن تضعوا الله عز وجل نُصب أعينكم رقيباً وحسيباً على كل جارحة من جوارحكم ، وأنتم الذين كلفتم أنفسكم فشرفتموها لكي تنهل من معين مدرسة الإسلام الخالدة ، فأنتم مشروع دعاة إلى الله في أيّ مجال تتحرّكون فيه من مجالات الحياة ، وهذه مسؤوليةٌ كبيرة وعظيمة لا بدَّ أن تكونوا على قدر تحمُّلِها ، فطالب العلم يُشار إليه بالبنان لكن ليس لشخصه الكريم، إنما لهيبة وجلالة العلوم التي يحمِلُها، والتي قد ترفع بعض حامليها إلى منزلة القدوة في المجتمع ، لذلك يا أبنائي الأعزاء عليكم أن تكونوا المرآة الصافية التي تعكس حقيقة سيركم في هذا الطريق ، وذلك عبر إخلاصكم لله عز وجل في النية وبتجملكم بالأخلاق الفاضلة والمكارم السامية، وعبر استقامتكم في السير والسلوك، وتغليبكم لمنطق العقل والحكمة والبيان على منطق الانفعالات العاطفية التي قد تدخلكم في مواقع الشبهات ، وعليكم أيضاً أن تنظروا إلى الأمور بعين الفطنة والحكمة كي تميّزوا بين إشراقة الحق وخفايا الباطل، ودون ذلك كُلِّه فلا قيمة لعلمٍ دون تقوى ولا قيمة لأدبٍ دون تأدّب ، ولذلك جعل الله عز وجل التقوى هي المقياس والميزان للرقي والرفعة والسمو، حيث قال تعإلى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ولم يقل أعلمكم أو أفقهكم وإلى هذه الحقيقة الساطعة أشرت بأبيات شعرية نظمتها في النجف الأشرف عام 1965 خاتما بها نصيحتي و داعيا لكم بالتوفيق والنجاح في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة وهي :
ما العـلم نحوٌ ولا صـرفٌ ولا لغةٌ ولا أصـولٌ ولا فقـهٌ ولا أدبُ
وإنّـما العـلم أخـلاقٌ وتزكـيةٌ لجوهر النفس مما فيه تنعطـبُ
كم من ذكيٍّ غزير العلم قد ملأت جوانبَ الكون من تأليفه الكتبُ
لكن تجرّدَ عن خـلقٍ وعن ورعٍ فحوّم الشكّ في واديه والريبُ
إن يقصد الخير ظنّوا عكس مقصده أو ينطقِ الصدق ظنّوا أنّه كذبُ
وإن تواضـع قالوا إنّ ذا مـلقٌ أو ناظر الغير ظنّوا قصده الغلبُ
لم يجـده العلـم عرفـانـاً بلا عملٍ ولم يفده حـديثٌ سائغٌ عـذبُ
قد كان إبلـيس أدرى في معارفه لكن تنكّب عمّا فعله يجـبُ
فانحطّ شأناً بمقياس الهدى وغدا ينهار منه العلى والمجدُ والحسبُ
وأصبح الكـبر في دنيـاه لعـنتـه وعلمه الجمّ في الأخرى له عطبُ
وبالرغم من وضعه الصحّي الذي يحتّم عليه الراحة، آلى سماحة الشيخ حسن طراد على نفسه إلا أن يجيب على أسئلتنا. ولا نخفي الأمر، فقد كنا في البداية متردّدين في إجراء المقابلة؛ حرصاً منّا على صحّته وراحته، إلا أنّ هذا التردّد سرعان ما تلاشى عند اطّلاعنا على سيرته الفذّة التي تشكّل نبراساً حياً لكلّ طلاب العلم، بل لكلّ السائرين على خطى أهل بيت العصمة والطهارة (ع)....
بدايةً، ما هو الدافع الذي دفع سماحة الشيخ للتوجّه نحو طلب العلوم الدينية؟
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعزّ المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه المنتجبين، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته، في الواقع إنّ الدافع الذي دفعني ونفعني للتوجّه في طريق طلب العلم ينبثق من عاملين أساسيين ، العامل الأول هو الرغبة الذاتية التي تولد مع الإنسان في فطرته دون تكلّف أو تصنّع ، فكنت أجد في نفسي منذ حداثة سني هذه الرغبة وذاك الشوق للسير في هذا الطريق ، ثم جاء العامل الثاني متمّماً ومكمّلاً؛ وهو دور الوالدين، حيث تربّيت في كنف عائلة إيمانية تحمل الكثير من المبادئ والقيم الإسلامية، فوالدتي كانت امرأة مؤمنة هاشمية متواضعة، تسعى لقضاء حوائج الناس. ثمّ إنّ والدي الحاج محمد طراد رحمه الله كان عالماً دون العمامة ،حيث كان رجلاً متفقهاً و خطيباً حسينياً ومربياً رسالياً، فكان منزلنا مقصداً للناس التي كانت تقصده في سبيل الاستخارة أو للاستفسار عن بعض المسائل الشرعية الواقعة محلّ ابتلائهم وغيرها، وكان إذا افتُقِد لا يوجد إلا في مجالس العلماء ، فهذا الجوّ وتلك الروحية لدى والدي دفعته ليوجه بعض أبنائه في سبيل طلب العلم حيث تلاقت رغبته مع رغبتي، فكان كالماء الدافق على الأرض العطشى التي أنبتت جدّاً واجتهاداً وتحصيلاً دون تعب أو ملل ، وقد سار في هذا الطريق - أيضاً- أخي المرحوم سماحة الشيخ محمد علي طراد رحمه الله وطيب ثراه.
هل توجّهتم إلى النجف الأشرف مباشرة ، أم أنّكم درستم شيئاً من العلوم قبل ذلك؟
قبل أن أتوجّه إلى النجف الأشرف شرعت بدراسة المقدّمات هنا في لبنان على أيدي مجموعة من علمائنا الأفاضل.
لو تحدّثوننا سماحة الشيخ عن مرحلة المقدمات: أبرز المواد والأساتذة،
المدة الزمنية، الظروف المعيشية؟
بعد أن أنهيت دراستي العصرية في مدرسة بلدتي معركة شرعت بدراسة المقدمات وذلك في عام 1948، حيث انتقلت إلى المدرسة الدينية وشرعت بدراسة القطر (قطر الندى) على يد العلامة الجليل السيد محمد جواد الحسيني، وذلك بعد حفظي للأجرومية كلّها غيباً في المدرسة العصرية , ثم انتقلت إلى بلدة العباسية وأقمت فيها، حيث شرعت هناك بدراسة ألفية ابن مالك في النحو. وقد ضممت كتاب الشرائع إلى الألفية ، حيث كنت أطالع شرح ابن عقيل على الألفية وشرح شواهده مع شرح ابن الناظم وشواهده وحاشية ملا عبدالله على يد العلامة الجليل الشيخ خليل ياسين، بالإضافة إلى الشمسية في المنطق على يد العلامة الجليل الشيخ موسى عز الدين. ودرست -أيضاً- مختصر المعاني في البلاغة على يد العلامة السيد عباس أبو الحسن في بلدتي معركة، وبعد ذلك انتقلت إلى بلدة طيردبا، حيث شرعت بدراسة مختصر المعاني للتفتازاني في البلاغة على يد العلامة المرحوم الشيخ خليل مغنية, ثمّ درست الشرائع في الفقه والباب الحادي عشر في أصول الدين و المعالم وأوّل الكفاية إلى بحث الحقيقة الشرعية على يد أستاذي الجليل العلامة السيد هاشم معروف، والذي رجّح لي الانتقال إلى النجف الأشرف بعد انتهائي من دراسة الكتب المذكورة عنده قائلاً : "هذا المقدار الذي درسته من المقدمات يعتبر كافياً ووافياً وتستطيع أن تؤسس عليه باقي العلوم وتنتقل إلى النجف الأشرف لتكمل المسيرة بحول الله وقوته". وقد تميّزت دراستي للمقدمات بالجدية المطلقة والمثابرة الدائمة والانقطاع الكلي للدرس دون أن ألتفت إلى أيام العطلة التي محوتها من ذاكرتي! وكنت أتّبِعُ منهج التأنّي والإتقان في كلّ المواد التي كنت أدرسها؛ إيماناً مني بأن الميزان في التقدّم والنجاح في دراسة الكتاب هو الوصول إلى غاية العلم الذي أدرسه فيه، لا إلى نهايته كأوراق تطوى وصفحات أمرّ عليها بسرعة بحيث لا تساعدني على تحصيل الغاية المنشودة من الدراسة المتقنة والتحصيل الجدّي.
كيف كانت الأيام الأولى في النجف الأشرف؟
في البداية وعند وصولي إلى النجف الأشرف عام 1954 نزلت في ضيافة صديقي العزيز سماحة الشيخ أحمد قصير الذي سبقني بالهجرة إلى النجف الأشرف. وأذكر أنّني عند وصولي إلى النجف توجّهت إلى الصحن الشريف مباشرة, وقد التقيت بسماحة الشيخ أحمد هناك، حيث كان جالساً مع مجموعة من الإخوان بانتظار الأذان؛ وذلك للصلاة جماعة بإمامة الإمام السيد محسن الحكيم رحمه الله وطيب ثراه ، وقد بقيت في ضيافته فترة حتى وجدت مكاناً مستقلاً ضمن دارة آل ياسين، أما على صعيد الحوزة العلمية فإني أذكر أنّ الحوزة يومها كانت في عزّ عطائها ، فكانت تلمع نشاطاً وتألقاً وإقبالاً وقبولاً، وقد توفّقنا لكي نسبح في بحرها العميق حتى نصل إلى ما نريد الوصول إليه من النجاح والتوفيق، وقد تحقّق لنا ذلك بعناية الله ودعاء المخلصين وعناية أساتذتنا المحبّين .
بدأت دراستي الحوزوية في النجف الأشرف بدراسة اللمعة لمدّة عامين على يد سماحة الفقيه الحجّة الشيخ محمّد تقي الجواهري(قده)، ثمّ في المكاسب ولنفس المدة تقريباً. وبعد ذلك شرعت بدرس الكفاية والرسائل على يد سماحة آية الله السيد إسماعيل الصدر(قده). وبعدها بدأت بدراسة بحث الخارج عام 1958م على يد زعيم الحوزة العلمية آية الله السيد الخوئي(قده)، وقد امتدّت دراستي لبحث الخارج على يديه إلى ثلاثة وعشرين عاماً، كما حضرت الخارج على يد الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر(قده)، وقد استمررت على حضور درسه لمدة ثلاثة عشر عاماً، إلى حين اعتقاله رحمه الله , وكذلك درست بحث الحوالة والضمان عند الإمام السيد محسن الحكيم(قده)، بالإضافة إلى قيامي بمهمّة التدريس خلال تلك الفترة في مدرسة المرحوم المقدس البروجردي(قده).
كيف كانت علاقتكم بكلٍّ من الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده) والإمام الخميني(قده)؟
كانت تربطني بالأستاذ الشهيد الصدر علاقة انجذاب روحي وفكري شديدين نحوه؛ لما كان يتمتّع به من شخصية استثنائية على كافة الصعد، فأنا أعتبره أحد نوابغ هذا العصر، كما أرى أنّ هذه الشخصية الفريدة التي عاصرتها قد وصلت إلى ما وصلت إليه بفضل عناية الله ورعايته لشخصه الكريم. والذي ساعده على هذا النضج الفكري المبكر لديه هو نبوغه المتوقّد واستعداده الذاتي ، وسعة اطّلاعه وتعمّقه في المطالب الإسلامية الواقعة محلّ ابتلاء المسلمين ، مضافاً إلى عامل الوراثة الذي لعب دوراً بارزاً في هذا المجال، باعتبار أنّ هذه العائلة موهوبة ومعروفة بالنبوغ كما قال بعضهم من آل الصدر : "ما فينا إلا مرجع أو مجتهد"، فما من عالم من علماء آل الصدر السابقين واللاحقين إلا أن يكون مرجعاً عاماً للطائفة، أو أن يكون بمستوى المرجع من حيث بلوغه درجة الاجتهاد، وقد شهد في حقّه بعض أقاربه من العلماء الكبار المجتهدين وهما خالاه الشيخ محمد رضا آل ياسين و الشيخ مرتضى آل ياسين، وكلٌّ منهما كان عالماً جليلاً ومجتهداً كبيراً ومرجعاً محترماً، حيث قالا إنه بلغ مرحلة الاجتهاد قبل أن يتمّ العشرين من عمره ، وكلّ هذه العوامل ساعدته على أن يقدّم هذا التراث الخالد من المؤلّفات الخالدة، فتكفينا مؤلّفاته في الفقه والأصول والفلسفة والاقتصاد وغير ذلك، لنرى مدى عظمة هذا المفكّر الكبير.
وأما عن علاقتي بالإمام الخميني (قده) فأثناء فترة إقامتي في النجف الأشرف كان الإمام الخميني(قده) لا يزال مقيماً في النجف، حيث كنت أتردّد عليه باستمرار للاستفادة من توجيهاته المباركة ، وكانت تربطني بالإمام علاقة وثيقة ومودّة عميقة نابعة من الالتفات التفصيلي إلى شخصيته الرسالية والنضالية، وكنت أتوسّم فيه ملامح القيادة ، وعندما كنت أقوم بزيارته أجده جالساً بهدوء ووقار، تبدو عليه هالة المرجعية الرشيدة والقيادة السديدة التي أهّلته ليصبح مرجع الأمّة وقائدها في مختلف المجالات ومن جميع الجهات، حيث لم تكن قيادته مقصورة على إعطاء الفتاوى لمقلّديه، وإنما كان يتناول شتّى النواحي السياسية التي تهمّ الإسلام والمسلمين من عدّة جهات ومن مختلف الاعتبارات. وهذا ما زادني له حباً ومنه قرباً ولشخصه تقديراً. وكان(قده) قليل الكلام؛ إذا سألته أجاب وإذا سكتَّ سكت، وأنا حلّلت ذلك يومذاك بأن الإمام كان يفكّر بالثورة والانقلاب على نظام الشاه، ومن لوازم هذا التفكير ذلك الصمت الهادئ والهادر ، وكان الإمام(قده) معروفاً بتواضعه الشديد، حيث زارنا في مدرسة البروجردي فاستقبلته يومذاك بكلمة ترحيبية وبمقطوعة من الشعر قلت له في مطلعها :
أشرقت مؤتلقاً بكلّ مكانِ بأشعّة الإيمان والعرفانِ
فتساوت الأقطار فيك حفاوةً لا فرق بين بعيدها والداني
أشرقت في أفق السماء وكنت بالأمس القريب تشعُّ في إيرانِ
كالشمس ينتظم الوجودَ شعاعُها كي ما تعمُّ مواهبُ الرحمن
ماذا تخبروننا عن تجربتكم في مجال التدريس والتأليف؟
لقد بدأت بإعطاء الدروس الحوزوية في مدرسة البروجردي(قده)، وذلك بعد وصولي إلى النجف الأشرف بثلاث أو أربع سنوات، وقد جاء ذلك متزامناً مع أخذي لدرس الخارج في ذاك الوقت، إيماناً مني بأهمية القيام بمهمة التدريس، باعتبار أنّ العلم الذي يحصّله الشخص لا يعتبر ملكاً شخصياً له، بل له منه ما يحتاج إليه في عمل نفسه وأسرته وسائر من يتعلق به وما عليه بعد ذلك إلا أن يوسّع دائرة العمل والإفادة بهذا العلم ليشمل طلاب العلم على النطاق الخاص وكافة فئات المجتمع على النطاق العام، وذلك بتعليم الجاهل وإرشاد الضال والإصلاح بين المتخاصمين، باعتبار أن إصلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام المستحبّين كما ورد في الحديث عن الرسول الأعظم (ص) ، وقد استمررت على القيام بمهمّة التدريس بعد عودتي إلى لبنان حيث كنت أعطي الدروس أولاً في منزلي، وبعد ذلك انتقلت ونقلت الطلاب إلى حوزة الرسول الأكرم (ص) التي كنت أعتبرها منزلي الثاني ، حيث عملت مع المؤسسين فيها في سبيل بناء صرح تربوي كبير يسعى إلى بناء جيل جديد متزوّد بالإيمان الصادق والعمل الصالح والخلق الفاضل، وهذا ما حصل بالفعل بفضل الله وتسديده ، وقد اعتمدت في التدريس على الأسلوب المتوسّط بين العمق الذي يُبعدُ المطْلَبَ عن ذهن الطالب وبين الوضوح الذي يجعل المطلب سطحياً وكنت ألخّص الدرس للطلاب مقتصراً على ذكر خصوص المطالب التي تحتوي على مقدار معتدٍّ به من الأهمية العلمية والعملية معاً، بالإضافة إلى بعض المطالب التي لا تترتّب عليها فائدة عملية معتدٌّ بها ولكنّها من الناحية العلمية تمرّن الطالب على التعمّق بالدرس والتركيز والتحصيل.
أما تجربتي الخاصة على صعيد التأليف، فإن الدافع لها هو نفس الدافع الذي دفعني للتوجه إلى طلب العلم؛ لأني لم أطلب العلم لذاته وإنما طلبت العلم من أجل العمل به، وحيث إنّ الكتابة والتأليف والتدريس من أهم أنواع العمل بالعلم النافع للمجتمع والمقرّب إلى الله عز وجل، فقد ألّفت مجموعة من الكتب الإسلامية التربوية والأخلاقية التي تفيد المجتمع بكلّ طبقاته الفكرية ، والآن أعمل على إصدار بعض المؤلّفات العلمية في الفقه والأصول، خدمةً للحوزة العلمية وطلابنا الأعزاء، وأسأل الله عز وجل في عملي هذا القبول.
ما مدى تأثير الأجواء الروحية على المسيرة العلمية للطالب؟
ممّا لا شك فيه أنّ الأجواء الروحية تلعب دوراً بارزاً في استقامة شخصية طالب العلم, باعتبار أنّها تنمّي الجانب الروحي من حياة الطالب. أمّا الدراسة العلمية فهي تتناول الجانب الفكري، ولذا فهي ُتنمّيه فكرياً وعقلياً، إلا أنّ هذا وحده غير كاف , فعليه أن يضمّ إلى الدراسة العلمية التربية العقلية والفكرية والمسلكية، من خلال الإيمان الصادق والعمل الصالح والخُلُق الفاضل التي تجعل منه طالباً فاضلاً وعالماً مخلصاً لرسالته وأمّته ومجتمعه.
بعد خالص الشكر والتقدير، هل من كلمة أخيرة ؟
في الختام لا بدّ من توجيه التهنئة والتبريك لأبنائي الأحبّاء العاملين في مجلّة البشير على النجاح والتوفيق الذي وصلتم إليه وحصلتم عليه عبر جهودكم المضنية وسهركم الدائم في سبيل نشر ثقافة إسلامية واعية ومتنوّعة، داعياً لكم بالمزيد من التقدّم والازدهار، وأودّ أن أستغلّ هذه المناسبة لتوجيه جزيل الشكر وعاطر الثناء وخالص الدعاء لإخواني الأعزاء في جامعة المصطفى‘ العالمية على الجهود التي بذلوها في سبيل القيام بمهمّة التكريم، وأخصّ بالذكر منهم رئيس جامعة المصطفى‘ سماحة آية الله الشيخ علي رضا أعرافي، و المدير العام سماحة العلامة الجليل الشيخ مصطفى جعفري وباقي العلماء الأفاضل والعاملين الأكارم دون استثناء، والجندي المجهول الحاج جواد عواضه، حفظهم الله جميعاً وسدّد خطاهم، والسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
ما النصائح التي توجّهونها لطلاب العلوم الدينية ؟
أبنائي الأحبّاء طلاب العلم ، النصيحة التي أرغب في توجيهها لكم هي أن تضعوا الله عز وجل نُصب أعينكم رقيباً وحسيباً على كل جارحة من جوارحكم ، وأنتم الذين كلفتم أنفسكم فشرفتموها لكي تنهل من معين مدرسة الإسلام الخالدة ، فأنتم مشروع دعاة إلى الله في أيّ مجال تتحرّكون فيه من مجالات الحياة ، وهذه مسؤوليةٌ كبيرة وعظيمة لا بدَّ أن تكونوا على قدر تحمُّلِها ، فطالب العلم يُشار إليه بالبنان لكن ليس لشخصه الكريم، إنما لهيبة وجلالة العلوم التي يحمِلُها، والتي قد ترفع بعض حامليها إلى منزلة القدوة في المجتمع ، لذلك يا أبنائي الأعزاء عليكم أن تكونوا المرآة الصافية التي تعكس حقيقة سيركم في هذا الطريق ، وذلك عبر إخلاصكم لله عز وجل في النية وبتجملكم بالأخلاق الفاضلة والمكارم السامية، وعبر استقامتكم في السير والسلوك، وتغليبكم لمنطق العقل والحكمة والبيان على منطق الانفعالات العاطفية التي قد تدخلكم في مواقع الشبهات ، وعليكم أيضاً أن تنظروا إلى الأمور بعين الفطنة والحكمة كي تميّزوا بين إشراقة الحق وخفايا الباطل، ودون ذلك كُلِّه فلا قيمة لعلمٍ دون تقوى ولا قيمة لأدبٍ دون تأدّب ، ولذلك جعل الله عز وجل التقوى هي المقياس والميزان للرقي والرفعة والسمو، حيث قال تعإلى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، ولم يقل أعلمكم أو أفقهكم وإلى هذه الحقيقة الساطعة أشرت بأبيات شعرية نظمتها في النجف الأشرف عام 1965 خاتما بها نصيحتي و داعيا لكم بالتوفيق والنجاح في حاضر الدنيا ومستقبل الآخرة وهي :
ما العـلم نحوٌ ولا صـرفٌ ولا لغةٌ ولا أصـولٌ ولا فقـهٌ ولا أدبُ
وإنّـما العـلم أخـلاقٌ وتزكـيةٌ لجوهر النفس مما فيه تنعطـبُ
كم من ذكيٍّ غزير العلم قد ملأت جوانبَ الكون من تأليفه الكتبُ
لكن تجرّدَ عن خـلقٍ وعن ورعٍ فحوّم الشكّ في واديه والريبُ
إن يقصد الخير ظنّوا عكس مقصده أو ينطقِ الصدق ظنّوا أنّه كذبُ
وإن تواضـع قالوا إنّ ذا مـلقٌ أو ناظر الغير ظنّوا قصده الغلبُ
لم يجـده العلـم عرفـانـاً بلا عملٍ ولم يفده حـديثٌ سائغٌ عـذبُ
قد كان إبلـيس أدرى في معارفه لكن تنكّب عمّا فعله يجـبُ
فانحطّ شأناً بمقياس الهدى وغدا ينهار منه العلى والمجدُ والحسبُ
وأصبح الكـبر في دنيـاه لعـنتـه وعلمه الجمّ في الأخرى له عطبُ