أدرجت هذه المقابلة في العدد الخامس من مجلّة البشير الصادرة عن ممثّلية المصطفى (ص) في لبنان
فتح باب منزله وأطلّ مبتسماً بوجهه الذي يختزن عمراً من الجهاد والعطاء العلمي. من أعماق قلبه سلّم بيدٍ تشعرك بحرارتها بغاية العطف والحنان، وأجلسنا في غرفة استقباله التي ترحّب بزوارها وتنبئهم أنّ صاحبها يجمع السخاء والتواضع، ولا يضنّ على كلّ من قصده للاغتراف من معين علمه...
إنّه سماحة الشيخ القاضي حسن عبد الساتر الذي أحبّت مجلّة البشير أن تجري معه مقابلةً يتعرّف خلالها طلاب العلم على سيرة هذه الشخصية العلمية، ولتكون نبراساً ونموذجاً يُحتذى به، فما كان من سماحة الشيخ إلا أن جاد بما لا يغيب عن باله من ذكريات، يسردها فيحنّ إليها حيناً، وتترقرق عيناه بالدمع حيناً آخر، وبين هذا وذاك نصائح من أبٍ شفيق...
الدافع لطلب العلم والتوجه إلى النجف
عندما كنت أمارس الحياة المدنية ، وكنت طالباً في المدرسة، كنت هاوياً لمطالعة الكتب، وصلت بي النوبة إلى كتاب " مع علماء النجف الأشرف" للشيخ محمد جواد مغنية. قرأت هذا الكتاب وشعرت بعد قراءته أنّي صرت متغيّراً في توجّهي كلياً، كأنّه فعل بي فعل السحر رغم بساطته وبساطة موضوعاته. لقد شدّتني أجواء العلماء والعلم والمعرفة، حتى أني دوّنت المراجع التي يذكرها الشيخ في الكتاب، وذهبت إلى مكتبة لأسأل عن تلك الكتب، فأخبرني صاحب المكتبة أن هذه كتب دراسية حوزوية، "فهل تريد أن تصبح من الطلبة؟" فأجبته بدون فاصل: "نعم، أريد أن أصبح من الطلبة!" كانت هذه البداية، ومن ثمّ فقد أصبح كلّ همّي أن أذهب إلى النجف لأدرس وأصبح عالماً.
كان لي ابن عمًّ سبقني إلى النجف للدراسة، كاتبته فرحّب بي كثيراً وعبّر عن غاية فرحه وسروره. وفيما كنت أتهيّأ للسفر اشتريت بعض الكتب التي طالعتها ، واصطحبتها معي إلى النجف.
عندما وصلت إلى النجف، استقبلني ابن عمّي وأسكنني - بادئ الأمر – في حسينية مقابل جامعة النجف، إلى أن أدخلني إلى الجامعة بعد إجراء الترتيبات اللازمة.
في اليوم التالي، طلبت منه أن يأخذني إلى مقام أمير المؤمنين (ع) . دخلت على الأمير (ع)، فسلّمت عليه وتحدّثت معه بلساني العامّي ! وقلت له: أرجو أن تقبلني ضيفاً عندك، وأريد أن أصبح من علماء الدين وأبشّر بالإسلام!
مرحلة المقدّمات
وشرعت بالدرس، مبتدئاً بقطر الندى وبلّ الصدى لابن هشام، والرسالة العملية للسيّد محسن الحكيم. وفي تلك الأثناء تعرّفت على مراجع النجف الأشرف وعلمائها البارزين، أمثال السيّد الحكيم، السيّد الخوئي، السيد الشاهرودي، الشيخ الأميني (صاحب الغدير)، الشيخ الزنجاني، والسيد حسن البروجردي. هؤلاء كانوا المحطات العلمية البارزة، حيث كان النجف الأشرف يضج بعطاء هؤلاء، إلا أنّه لم يكن بالمستوى الذي كان مرتسماً في مخيّلتي من الحركة والنشاط والعطاء.
وسط هذه الأجواء كان كل همّي أن أحصّل، لكن كيف أحصّل؟ ما كنت أعرف إلا أن أكثر من المطالعة - وعن جهل - بحيث كنت أسهر، وأصل السحور (إذ كنت أحرص على أن أصوم دائماً) ونافلة الليل بالمغرب!
مرحلة السطوح
درسنا الألفية عند الشيخ أحمد البهادلي، وشرائع الإسلام عند أستاذٍ أفغانيٍّ جليل اسمه الشيخ علي خرّمي، وقد أُنبئت بخبر وفاته، والمرجّح أنّ حكومة طالبان في أفغانستان وراء قتله. ثمّ درسنا معالم الأصول على يد الشيخ أحمد البهادلي أيضاً، واللمعة الدمشقية عند الشيخ محمّد تقي الجواهري الذي أخذه صدّام ودفنه في المقابر الجماعية.
من بعدها قرأنا القسم الأكبر من كفاية الأصول على يد السيد جمال الخوئي (ابن السيد أبو القاسم الخوئي) وقسماً على يد السيد كاظم الشرازي الحائري ، وقسماً على يد الشيخ محمد تقي الأيرواني.كما قرأنا المكاسب المحرّمة عند السيد محمد حسين الحكيم.
بحث الخارج
دُعينا إلى بحث الخارج عند السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر الذي كنت ملتزماً عنده أصولاً وفقهاً، كما كنت غالباً ما أحضر عند السيّد أبو القاسم الخوئي في الفقه، حيث كان يبحث حينها في أبواب الحج. وفي تلك الفترة انشغلت بالكتابة، لا سيّما تقرير دروس بحث الخارج للسيّد الشهيد، التي لم أنقطع عنها طيلة تسع سنوات، ألزمتني الظروف بعدها أن أتوقّف عند آخر مبحث البراءة، بعد أن كان مقدّراً أن نختم الدورة الدراسيّة في بحث الخارج في عشر سنوات، غير أنّني أكملت مبحثي العلم الإجمالي وتعارض الأدلّة بنفسي على مباني السيّد الشهيد، وقمت فيما بعد بكتابة تلك التقريرات التي تمّ طبعها وتوزيعها، والتي حرصت فيها على أن أقدّم المطالب الأصولية التي طرحها السيّد الشهيد (قده) بأوضح بيان وأجمل عبارة.
العلاقة بالسيد الشهيد (قده) والإمام الخميني (قده)
كانت علاقتي وثيقةً بالسيّد الشهيد الصدر ، حيث لم يكن لوجودي في النجف أكثر من سنتين عندما تعرّفت عليه، وفيما بعد تطوّرت هذه العلاقة، خاصّةً عندما تتلمذت على يديه ولمست فيه إسلاماً محضاً في علمه وحلمه وأخلاقه وتقواه. لقد كان باقر الصدر إسلاماً متجسّداً له يدان ورجلان، بل كان نكتةً في تاريخ الطائفة!
وكذلك كانت علاقتي بالإمام الخميني(قده) مميزة، فقد كان من جيراني في النجف ومنزله لم يكن يبعد أكثر من عدّة أمتار. وطيلة مدّة تواجده في النجف الأشرف، كنّا نصلّي خلفه في مسجد الشيخ الأنصاري، كما كنّا نحضر في بيته بعد الغروب لنصف ساعة يومياً. و فيما كان الإمام يلقي دروسه في مسجد الشيخ الأنصاري، كان السيّد الشهيد الصدر كثيراً ما يحرّض من يعرف اللغة الفارسية من الطلاب على حضور درس الإمام الخميني(قده) ، إلا أنّني - وللأسف- لم أكن أعرف اللغة الفارسية.
منذ فترةٍ كتبت كلمةً في مجلّة "بقية الله" ، أعود وأكررّها: إنّ باقر الصدر(قده) والإمام الخميني(قده) ظاهرتان ينبغي أن تدرسا بدقّة، وينبغي أن تتشكّل من هذين الشخصين مدرسةٌ تتفشّى في كلّ الحوزات العلميّة أخلاقاً ، سلوكاً، وعلماً.
حادثتان طريفتان مع الشيخ
كان عميد جامعة النجف المرحوم السيد كلانتر يقوم مرّةً بإجراء دورية مسائية على الطلبة، إلى أن وصل إلى غرفتي ، طرق الباب ففتحت. معبّراً عن دهشته، خاطبني السيّد:" أما تخاف على نفسك أن تتخبّل (تفقد عقلك)، اخلد إلى النوم حتى تستيقظ لصلاة الصبح!"، فما كان منّي إلا أن طأطأت برأسي وأجبته: " نعم، نعم" ، لكنّ الواقع أنّ انكبابي على الدرس جعلني لا أميّز بين ليلٍ ونهار.
حادثةٌ أخرى أذكرها، وهي أنّي كنت في إحدى الليالي أطالع في حاشية الملا عبد الله على المنطق، فمرّت عليّ مسألةٌ لم أفهمها. خطر ببالي حينها الأستاذ الجليل الشيخ مفيد الفقيه، وكنت قد تعرّفت عليه قبل ذلك بفترة، فما كان منّي إلا أن حملت كتابي وتوجّهت إلى منزله الذي كان على مسافة مائة مترٍ - تقريباً – من منزلي وطرقت بابه. قام الشيخ من نومه (وقد كانت الساعة الثالثة من بعد منتصف الليل!) وفتح لي الباب مندهشاً وهو يقول : " خير، ما هناك؟!"، فقد كان منتظراً سماع خبرٍ طارئٍ أو ما شابه، إلا أنّني أجبته بوجود عبارةٍ لم أفهمها وأودّ أن يشرحها لي، وهذا ما زاد من دهشة الشيخ مفيد إلى درجة أنّه ما زال إلى اليوم يذكّرني بتلك الحادثة ممازحاً!
والحقيقة أنّي كنت بتلك الغاية من البساطة والبراءة، بحيث كان كلّ فكري أنّ الدرس لا يحدّه نهار ولا ليل، وأنّه يجب على طالب العلم أن لا ينام!
أهمّية التدريس
لم يكن برنامجي يخلو من تدريسٍ قط، فحينما كنت في منتصف قطر الندى كنت أدرّس أوّله، وحينما كنت في الأوامر من معالم الأصول كنت أدرّس أوّله، وكذلك بدأت بتدريس الكفاية وأنا ما زلت في الأوامر والنواهي منه. ولهذا الأمر بالغ الأهمّية؛ ذلك أنّ ترسيخ وتكريس ما درسه الطالب وما وعاه لا يكون إلا بالتدريس والمذاكرة، وقد حرصت على أن أكون دارساً ومدرّساً ومذاكراً دائماً، حتّى أنّ بعض الرفاق مازحني قائلاً: " أنت عاقدٌ بالعقد الدائم على المسجد الهندي"، فأجيبه: " بل منقطع!" ؛ ذلك أنّي كنت أغادر المسجد إلى المنزل لتناول الطعام، لأعود بعدها إلى المسجد مجدّداً للتدريس، حتى أنّي غالباً ما كنت ملتزماً بخمس حلقات تدريسٍ أو ستٍّ يومياً.
اختيار الأصدقاء
كنت في بادئ أمري متأثّراً جداً بالمرحوم السيد عبد المحسن فضل الله، واستمرّت علاقتي المميزة به إلى آخر الرسائل، إلى درجة أنّه إذا تأخّرت أو تغيّبت عن درسي يوماً أتى إليّ وتفقّدني. وكذلك بقية الرفاق الذين اخترتهم وعاشرتهم، فما عاشرت أحداً منهم إلا واستفدت منه في الاقتراب من الله، وكنت أحرص على الابتعاد عن الطلاب الذين ينصرفون باهتماماتهم عن طلب العلم والجدّ في التحصيل.
شروط طلب العلم
أثناء مطالعاتي، قرأت في كتاب "الباب الحادي عشر" كلمةً لفتت انتباهي، لكنّي لم أعد أذكر إن كانت كلاماً للشيخ الصدوق أو للعلامة الحلّي، غير أنّها- على كلّ حال - تقول: "إنّ طلب العلم يحتاج إلى أربعة أمور: غربة، ورِغبة، وفقر وتقوى في جنب الله" ، ولا أبالغ إذا قلت أنّي عشت هذه الحالات الأربع: أمّا الغربة فقد تعرّضت لها في سفري إلى النجف. وأمّا الرغبة فقد كنت مملوءاً بها إلى درجة أنّها - وعلى امتداد عشرين سنة – كانت تشغلني عن التفكير بأكلي ونومي! وكذلك كابدت الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة.
أوضاع معيشية صعبة
أذكر أنّه - ولعشرين سنة في النجف – لم يصلني من أهلي في لبنان فلسٌ واحد؛ إذ كان والدي متوفًّى ولم يكن بمقدور والدتي المساعدة، أما إخوتي فلم يساعدونني أيضاً؛ ولعلّه جهلاً منهم.
كان كلّ ما يصلنا من الحوزة هدية شهرية من السيد الحكيم مقدارها ديناران ونصف، أمّا السيد الشهيد فكان يقدّم لنا هدية شبه سنوية عندما تسمح له ظروفه بذلك، وكنا نكتفي بذلك. كما أذكر أنّني - لمدة اثني عشرة سنة – كنت أحلم في أن أقتني مروحةً تخفّف عنّا حرّ صيف النجف. وطيلة تلك المدّة اعتضنا عن ذلك بتبليل الأغطية والنوم على حصر البواري والقصب، لنقوم بعدها - أنا وعائلتي – مجرّحين منها.
واستمر الحال كذلك إلى أن سمعت في يومٍ - أثناء مرحلة بحث الخارج - عن امتحانٍ عند السيد الخوئي، يعطى من ينجح فيه أربعة دنانير إضافية شهرياً، فخضعت لذلك الامتحان ونجحت، وحينها اشتريت تلك المروحة التي كنت أحلم بها.
إلا أنّني أودّ أن ألفت النظر إلى أمرٍ هامٍّ في هذا المجال، وهو أنّه رغم تلك الظروف الصعبة، لم أفكّر يوماً ما كيف أعيش، ومن أين أحضر المال لسدّ حاجاتنا، فقد كانت حاجاتنا مكفية والحمد لله، و كنا نكتفي بما يأتينا، بل نشعر مع ذلك كلّه أنّ لدينا المزيد، وما هذا إلا من بركات التوفيق الإلهي لطالب العلم.
وقد قرأت فيما قرأت مقولةً لأرسطو ما زلت أذكرها جيداً، وهي " أنّ العلم يخرج من تلك الأكواخ التي يأكل أهلها بأيديهم إذا أكلوا، لا من تلك البيوتات والقصور التي لا يأكل أهلها إلا بملاعق الذهب والفضة". وهذا ما لمسناه بالفعل...
معاناةٌ مع مغادرة النجف
اعتقلني جلاوزة صدّام وأخذوني إلى الكوت، حيث تعرّضت لأبشع أنواع التعذيب لمدة شهرين أو ثلاثة، وكان المقرّر تصفيتي وإعدامي، غير أنّ بعض أقاربي في لبنان تواصلوا مع معارف لهم من حزب البعث، وتوسّط لي هؤلاء حتّى عدت إلى لبنان، لأعالج بعدها ما تعرّضت له من أضرار في رجليّ جرّاء التعذيب. والجدير بالذكر أن المرحوم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين كان يطلّ عليّ دائماً، وأسّس حينها معهداً باسم " معهد الشهيد الأوّل للعلوم الدينية" وسلّمني إدارته، ثم استلمت فيما بعد القضاء في المحكمة الشرعية، إلى أن تمّ تعييني رئيساً للمحاكم الشرعيّة في لبنان.
كلمة أخيرة للطلاب
على الطالب أن يحقّق أركان العلم الأربعة التي سبق وذكرتها ( الغربة، الرغبة، الفقر، والتقوى). وإذا ما ترجم هذه الأركان في حياته فحينها سينتج علماً، وهذا ما قرأناه في سيَر علمائنا، فهؤلاء الأساطين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا ببذل الجهود والتضحيات. وفي هذا المجال أنصح الطلبة بمطالعة كتاب " تأسيس الشيعة" للسيّد حسن الصدر؛ ليتعرّفوا على سيرة هؤلاء الأفذاذ، وليعلموا أنّ الأخلاق - قبل أيّ شيءٍ آخر - هي الإطار العام لكلّ رسالات الإسلام، ولذلك فإنّ على الطالب أن يتخلّق بأخلاق أهل البيت (ع)، وهذا ما تؤكّد عليه الكثير من الروايات.ثمّ إنّنا ما دمنا نؤمن بأنّ حياتنا دار ممرٍّ لا دار مقرّ، فلماذا لا نسعى؟ وإذا ما استطاع الطالب أن يلتزم بالأركان والملامح التي ذكرتها، فحينها سيوفّق ليكون من العلماء حقّاً.
فتح باب منزله وأطلّ مبتسماً بوجهه الذي يختزن عمراً من الجهاد والعطاء العلمي. من أعماق قلبه سلّم بيدٍ تشعرك بحرارتها بغاية العطف والحنان، وأجلسنا في غرفة استقباله التي ترحّب بزوارها وتنبئهم أنّ صاحبها يجمع السخاء والتواضع، ولا يضنّ على كلّ من قصده للاغتراف من معين علمه...
إنّه سماحة الشيخ القاضي حسن عبد الساتر الذي أحبّت مجلّة البشير أن تجري معه مقابلةً يتعرّف خلالها طلاب العلم على سيرة هذه الشخصية العلمية، ولتكون نبراساً ونموذجاً يُحتذى به، فما كان من سماحة الشيخ إلا أن جاد بما لا يغيب عن باله من ذكريات، يسردها فيحنّ إليها حيناً، وتترقرق عيناه بالدمع حيناً آخر، وبين هذا وذاك نصائح من أبٍ شفيق...
الدافع لطلب العلم والتوجه إلى النجف
عندما كنت أمارس الحياة المدنية ، وكنت طالباً في المدرسة، كنت هاوياً لمطالعة الكتب، وصلت بي النوبة إلى كتاب " مع علماء النجف الأشرف" للشيخ محمد جواد مغنية. قرأت هذا الكتاب وشعرت بعد قراءته أنّي صرت متغيّراً في توجّهي كلياً، كأنّه فعل بي فعل السحر رغم بساطته وبساطة موضوعاته. لقد شدّتني أجواء العلماء والعلم والمعرفة، حتى أني دوّنت المراجع التي يذكرها الشيخ في الكتاب، وذهبت إلى مكتبة لأسأل عن تلك الكتب، فأخبرني صاحب المكتبة أن هذه كتب دراسية حوزوية، "فهل تريد أن تصبح من الطلبة؟" فأجبته بدون فاصل: "نعم، أريد أن أصبح من الطلبة!" كانت هذه البداية، ومن ثمّ فقد أصبح كلّ همّي أن أذهب إلى النجف لأدرس وأصبح عالماً.
كان لي ابن عمًّ سبقني إلى النجف للدراسة، كاتبته فرحّب بي كثيراً وعبّر عن غاية فرحه وسروره. وفيما كنت أتهيّأ للسفر اشتريت بعض الكتب التي طالعتها ، واصطحبتها معي إلى النجف.
عندما وصلت إلى النجف، استقبلني ابن عمّي وأسكنني - بادئ الأمر – في حسينية مقابل جامعة النجف، إلى أن أدخلني إلى الجامعة بعد إجراء الترتيبات اللازمة.
في اليوم التالي، طلبت منه أن يأخذني إلى مقام أمير المؤمنين (ع) . دخلت على الأمير (ع)، فسلّمت عليه وتحدّثت معه بلساني العامّي ! وقلت له: أرجو أن تقبلني ضيفاً عندك، وأريد أن أصبح من علماء الدين وأبشّر بالإسلام!
مرحلة المقدّمات
وشرعت بالدرس، مبتدئاً بقطر الندى وبلّ الصدى لابن هشام، والرسالة العملية للسيّد محسن الحكيم. وفي تلك الأثناء تعرّفت على مراجع النجف الأشرف وعلمائها البارزين، أمثال السيّد الحكيم، السيّد الخوئي، السيد الشاهرودي، الشيخ الأميني (صاحب الغدير)، الشيخ الزنجاني، والسيد حسن البروجردي. هؤلاء كانوا المحطات العلمية البارزة، حيث كان النجف الأشرف يضج بعطاء هؤلاء، إلا أنّه لم يكن بالمستوى الذي كان مرتسماً في مخيّلتي من الحركة والنشاط والعطاء.
وسط هذه الأجواء كان كل همّي أن أحصّل، لكن كيف أحصّل؟ ما كنت أعرف إلا أن أكثر من المطالعة - وعن جهل - بحيث كنت أسهر، وأصل السحور (إذ كنت أحرص على أن أصوم دائماً) ونافلة الليل بالمغرب!
مرحلة السطوح
درسنا الألفية عند الشيخ أحمد البهادلي، وشرائع الإسلام عند أستاذٍ أفغانيٍّ جليل اسمه الشيخ علي خرّمي، وقد أُنبئت بخبر وفاته، والمرجّح أنّ حكومة طالبان في أفغانستان وراء قتله. ثمّ درسنا معالم الأصول على يد الشيخ أحمد البهادلي أيضاً، واللمعة الدمشقية عند الشيخ محمّد تقي الجواهري الذي أخذه صدّام ودفنه في المقابر الجماعية.
من بعدها قرأنا القسم الأكبر من كفاية الأصول على يد السيد جمال الخوئي (ابن السيد أبو القاسم الخوئي) وقسماً على يد السيد كاظم الشرازي الحائري ، وقسماً على يد الشيخ محمد تقي الأيرواني.كما قرأنا المكاسب المحرّمة عند السيد محمد حسين الحكيم.
بحث الخارج
دُعينا إلى بحث الخارج عند السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر الذي كنت ملتزماً عنده أصولاً وفقهاً، كما كنت غالباً ما أحضر عند السيّد أبو القاسم الخوئي في الفقه، حيث كان يبحث حينها في أبواب الحج. وفي تلك الفترة انشغلت بالكتابة، لا سيّما تقرير دروس بحث الخارج للسيّد الشهيد، التي لم أنقطع عنها طيلة تسع سنوات، ألزمتني الظروف بعدها أن أتوقّف عند آخر مبحث البراءة، بعد أن كان مقدّراً أن نختم الدورة الدراسيّة في بحث الخارج في عشر سنوات، غير أنّني أكملت مبحثي العلم الإجمالي وتعارض الأدلّة بنفسي على مباني السيّد الشهيد، وقمت فيما بعد بكتابة تلك التقريرات التي تمّ طبعها وتوزيعها، والتي حرصت فيها على أن أقدّم المطالب الأصولية التي طرحها السيّد الشهيد (قده) بأوضح بيان وأجمل عبارة.
العلاقة بالسيد الشهيد (قده) والإمام الخميني (قده)
كانت علاقتي وثيقةً بالسيّد الشهيد الصدر ، حيث لم يكن لوجودي في النجف أكثر من سنتين عندما تعرّفت عليه، وفيما بعد تطوّرت هذه العلاقة، خاصّةً عندما تتلمذت على يديه ولمست فيه إسلاماً محضاً في علمه وحلمه وأخلاقه وتقواه. لقد كان باقر الصدر إسلاماً متجسّداً له يدان ورجلان، بل كان نكتةً في تاريخ الطائفة!
وكذلك كانت علاقتي بالإمام الخميني(قده) مميزة، فقد كان من جيراني في النجف ومنزله لم يكن يبعد أكثر من عدّة أمتار. وطيلة مدّة تواجده في النجف الأشرف، كنّا نصلّي خلفه في مسجد الشيخ الأنصاري، كما كنّا نحضر في بيته بعد الغروب لنصف ساعة يومياً. و فيما كان الإمام يلقي دروسه في مسجد الشيخ الأنصاري، كان السيّد الشهيد الصدر كثيراً ما يحرّض من يعرف اللغة الفارسية من الطلاب على حضور درس الإمام الخميني(قده) ، إلا أنّني - وللأسف- لم أكن أعرف اللغة الفارسية.
منذ فترةٍ كتبت كلمةً في مجلّة "بقية الله" ، أعود وأكررّها: إنّ باقر الصدر(قده) والإمام الخميني(قده) ظاهرتان ينبغي أن تدرسا بدقّة، وينبغي أن تتشكّل من هذين الشخصين مدرسةٌ تتفشّى في كلّ الحوزات العلميّة أخلاقاً ، سلوكاً، وعلماً.
حادثتان طريفتان مع الشيخ
كان عميد جامعة النجف المرحوم السيد كلانتر يقوم مرّةً بإجراء دورية مسائية على الطلبة، إلى أن وصل إلى غرفتي ، طرق الباب ففتحت. معبّراً عن دهشته، خاطبني السيّد:" أما تخاف على نفسك أن تتخبّل (تفقد عقلك)، اخلد إلى النوم حتى تستيقظ لصلاة الصبح!"، فما كان منّي إلا أن طأطأت برأسي وأجبته: " نعم، نعم" ، لكنّ الواقع أنّ انكبابي على الدرس جعلني لا أميّز بين ليلٍ ونهار.
حادثةٌ أخرى أذكرها، وهي أنّي كنت في إحدى الليالي أطالع في حاشية الملا عبد الله على المنطق، فمرّت عليّ مسألةٌ لم أفهمها. خطر ببالي حينها الأستاذ الجليل الشيخ مفيد الفقيه، وكنت قد تعرّفت عليه قبل ذلك بفترة، فما كان منّي إلا أن حملت كتابي وتوجّهت إلى منزله الذي كان على مسافة مائة مترٍ - تقريباً – من منزلي وطرقت بابه. قام الشيخ من نومه (وقد كانت الساعة الثالثة من بعد منتصف الليل!) وفتح لي الباب مندهشاً وهو يقول : " خير، ما هناك؟!"، فقد كان منتظراً سماع خبرٍ طارئٍ أو ما شابه، إلا أنّني أجبته بوجود عبارةٍ لم أفهمها وأودّ أن يشرحها لي، وهذا ما زاد من دهشة الشيخ مفيد إلى درجة أنّه ما زال إلى اليوم يذكّرني بتلك الحادثة ممازحاً!
والحقيقة أنّي كنت بتلك الغاية من البساطة والبراءة، بحيث كان كلّ فكري أنّ الدرس لا يحدّه نهار ولا ليل، وأنّه يجب على طالب العلم أن لا ينام!
أهمّية التدريس
لم يكن برنامجي يخلو من تدريسٍ قط، فحينما كنت في منتصف قطر الندى كنت أدرّس أوّله، وحينما كنت في الأوامر من معالم الأصول كنت أدرّس أوّله، وكذلك بدأت بتدريس الكفاية وأنا ما زلت في الأوامر والنواهي منه. ولهذا الأمر بالغ الأهمّية؛ ذلك أنّ ترسيخ وتكريس ما درسه الطالب وما وعاه لا يكون إلا بالتدريس والمذاكرة، وقد حرصت على أن أكون دارساً ومدرّساً ومذاكراً دائماً، حتّى أنّ بعض الرفاق مازحني قائلاً: " أنت عاقدٌ بالعقد الدائم على المسجد الهندي"، فأجيبه: " بل منقطع!" ؛ ذلك أنّي كنت أغادر المسجد إلى المنزل لتناول الطعام، لأعود بعدها إلى المسجد مجدّداً للتدريس، حتى أنّي غالباً ما كنت ملتزماً بخمس حلقات تدريسٍ أو ستٍّ يومياً.
اختيار الأصدقاء
كنت في بادئ أمري متأثّراً جداً بالمرحوم السيد عبد المحسن فضل الله، واستمرّت علاقتي المميزة به إلى آخر الرسائل، إلى درجة أنّه إذا تأخّرت أو تغيّبت عن درسي يوماً أتى إليّ وتفقّدني. وكذلك بقية الرفاق الذين اخترتهم وعاشرتهم، فما عاشرت أحداً منهم إلا واستفدت منه في الاقتراب من الله، وكنت أحرص على الابتعاد عن الطلاب الذين ينصرفون باهتماماتهم عن طلب العلم والجدّ في التحصيل.
شروط طلب العلم
أثناء مطالعاتي، قرأت في كتاب "الباب الحادي عشر" كلمةً لفتت انتباهي، لكنّي لم أعد أذكر إن كانت كلاماً للشيخ الصدوق أو للعلامة الحلّي، غير أنّها- على كلّ حال - تقول: "إنّ طلب العلم يحتاج إلى أربعة أمور: غربة، ورِغبة، وفقر وتقوى في جنب الله" ، ولا أبالغ إذا قلت أنّي عشت هذه الحالات الأربع: أمّا الغربة فقد تعرّضت لها في سفري إلى النجف. وأمّا الرغبة فقد كنت مملوءاً بها إلى درجة أنّها - وعلى امتداد عشرين سنة – كانت تشغلني عن التفكير بأكلي ونومي! وكذلك كابدت الفقر والأوضاع المعيشية الصعبة.
أوضاع معيشية صعبة
أذكر أنّه - ولعشرين سنة في النجف – لم يصلني من أهلي في لبنان فلسٌ واحد؛ إذ كان والدي متوفًّى ولم يكن بمقدور والدتي المساعدة، أما إخوتي فلم يساعدونني أيضاً؛ ولعلّه جهلاً منهم.
كان كلّ ما يصلنا من الحوزة هدية شهرية من السيد الحكيم مقدارها ديناران ونصف، أمّا السيد الشهيد فكان يقدّم لنا هدية شبه سنوية عندما تسمح له ظروفه بذلك، وكنا نكتفي بذلك. كما أذكر أنّني - لمدة اثني عشرة سنة – كنت أحلم في أن أقتني مروحةً تخفّف عنّا حرّ صيف النجف. وطيلة تلك المدّة اعتضنا عن ذلك بتبليل الأغطية والنوم على حصر البواري والقصب، لنقوم بعدها - أنا وعائلتي – مجرّحين منها.
واستمر الحال كذلك إلى أن سمعت في يومٍ - أثناء مرحلة بحث الخارج - عن امتحانٍ عند السيد الخوئي، يعطى من ينجح فيه أربعة دنانير إضافية شهرياً، فخضعت لذلك الامتحان ونجحت، وحينها اشتريت تلك المروحة التي كنت أحلم بها.
إلا أنّني أودّ أن ألفت النظر إلى أمرٍ هامٍّ في هذا المجال، وهو أنّه رغم تلك الظروف الصعبة، لم أفكّر يوماً ما كيف أعيش، ومن أين أحضر المال لسدّ حاجاتنا، فقد كانت حاجاتنا مكفية والحمد لله، و كنا نكتفي بما يأتينا، بل نشعر مع ذلك كلّه أنّ لدينا المزيد، وما هذا إلا من بركات التوفيق الإلهي لطالب العلم.
وقد قرأت فيما قرأت مقولةً لأرسطو ما زلت أذكرها جيداً، وهي " أنّ العلم يخرج من تلك الأكواخ التي يأكل أهلها بأيديهم إذا أكلوا، لا من تلك البيوتات والقصور التي لا يأكل أهلها إلا بملاعق الذهب والفضة". وهذا ما لمسناه بالفعل...
معاناةٌ مع مغادرة النجف
اعتقلني جلاوزة صدّام وأخذوني إلى الكوت، حيث تعرّضت لأبشع أنواع التعذيب لمدة شهرين أو ثلاثة، وكان المقرّر تصفيتي وإعدامي، غير أنّ بعض أقاربي في لبنان تواصلوا مع معارف لهم من حزب البعث، وتوسّط لي هؤلاء حتّى عدت إلى لبنان، لأعالج بعدها ما تعرّضت له من أضرار في رجليّ جرّاء التعذيب. والجدير بالذكر أن المرحوم الشيخ محمّد مهدي شمس الدين كان يطلّ عليّ دائماً، وأسّس حينها معهداً باسم " معهد الشهيد الأوّل للعلوم الدينية" وسلّمني إدارته، ثم استلمت فيما بعد القضاء في المحكمة الشرعية، إلى أن تمّ تعييني رئيساً للمحاكم الشرعيّة في لبنان.
كلمة أخيرة للطلاب
على الطالب أن يحقّق أركان العلم الأربعة التي سبق وذكرتها ( الغربة، الرغبة، الفقر، والتقوى). وإذا ما ترجم هذه الأركان في حياته فحينها سينتج علماً، وهذا ما قرأناه في سيَر علمائنا، فهؤلاء الأساطين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا ببذل الجهود والتضحيات. وفي هذا المجال أنصح الطلبة بمطالعة كتاب " تأسيس الشيعة" للسيّد حسن الصدر؛ ليتعرّفوا على سيرة هؤلاء الأفذاذ، وليعلموا أنّ الأخلاق - قبل أيّ شيءٍ آخر - هي الإطار العام لكلّ رسالات الإسلام، ولذلك فإنّ على الطالب أن يتخلّق بأخلاق أهل البيت (ع)، وهذا ما تؤكّد عليه الكثير من الروايات.ثمّ إنّنا ما دمنا نؤمن بأنّ حياتنا دار ممرٍّ لا دار مقرّ، فلماذا لا نسعى؟ وإذا ما استطاع الطالب أن يلتزم بالأركان والملامح التي ذكرتها، فحينها سيوفّق ليكون من العلماء حقّاً.