الجمعة 22 تشرين الثاني 2024 الموافق لـ 12 جمادى الاولى 1446هـ

» لقاءات الأنس

سماحة الشيخ محمد خاتون رحمه الله

أدرجت هذه المقابلة في العدد العاشر من مجلّة البشير الصادرة عن ممثّلية المصطفى (ص) في لبنان
تحدّث فيها سماحته (رحمه الله) عن علاقته بالإمام الخميني (قده)


سماحة الشيخ محمّد خاتون
هو الشيخ محمّد علي خاتون ، من مواليد بلدة جويّا في جبل عامل عام 1956 م ، درس فيها - وفي صور وتبنين - علومه الأكاديمية ، وصولاً إلى المرحلة الثانوية . انتقل عام 1977 م إلى النجف الأشرف ، فدرس على عددٍ من علمائها ، من بينهم الشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) ، الذي صار من وقتها رفيق دربه . عام 1978 م ، طردته السلطات العراقية مع جملةٍ من العلماء وطلاب العلم ، فعاد إلى لبنان واستقرّ في بعلبك ، وفي الحوزة التي أسّسها الشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) ، أكمل مسيرته العلمية طالباً ثمّ مدرّساً . نشط الشيخ خاتون في العمل الإسلامي ، تدريساً وتبليغاً ، كما نشط في العمل المقاوم المتنقّل بين البقاع والجنوب وبيروت ...

نصّ المقابلة :
أوّل معرفتي بالإمام (قده) عبر كتاب " الحكومة الإسلامية "
أوّل معرفتي بالإمام الخميني (قده) كانت من خلال كتاب الحكومة الإسلامية . لقد أعجبني هذا الكتاب كثيراً . وأكثر ما لفت نظري فيه  هو الروح الثوريّة التي يحملها صاحبه ، تلك الروح التي عادةً ما نراها في الشباب ، إلا أنّنا نجدها هذه المرّة في الإمام الخميني (قده) ، بالرغم من كبر سنّه عند تأليفه ، هذا ما أثار دهشتي وإعجابي في الوقت نفسه !
ما أثار إعجابي - أيضاً - ما كان يحمله ذلك الكتاب من أفكار متطوّرة ، أشعلت في فكري بارقة الأمل بإمكانيّة تحقّق " الحكومة الإسلامية " في المستقبل القريب . ثمّ إنّ الإمام (قده) لم يكتفِ بالعمل على مستوى التنظير للحكومة الإسلامية ، بل كان يطبّق نظريّاته بشكلٍ عمليّ ، معتمداً منهج توعية عامّة الناس ، لا الاكتفاء بالعمل على تطوير النخب ، كما كان منهج بعض المفكّرين الإسلاميّين المعاصرين ، ممّن تأثّرنا به وبمنهجه .  لقد شدّني الكتاب المذكور ، لكنّ إعجابي به لم يدفعني إلى تبديل مرجعيّتي ، أو إلى تقليد الإمام الخميني (قده) .

النجف الأشرف ونقطة التحوّل
بالرغم من الإعجاب والاحترام اللذين طُبعا في قلبي ، فإنّ معرفتي بالإمام الخميني (قده) بقيت معرفةً سطحيةً ، إلى أن انتقلت إلى النجف الأشرف في شهر شباط من عام 1977 م . في النجف الأشرف ، كانت نقطة التحوّل عندي في هذا المجال هي التعرّف على الشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) ، وهذا ما أعتبره من الأقدار الإلهية والتوفيقات الربّانية العظيمة ، فالسيّد عباس (قده) لم يكن إنساناً عادياً على الإطلاق .

ثمّ إن الشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) كان من عشّاق السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (قده) والإمام الخميني (قده) ، كما كان على علاقةٍ ومعرفةٍ وثيقة بالإمام الخميني (قده) ، بالرغم من أنّ الجوّ الغالب بين الطلبة اللبنانييّن الموجودين في النجف آنذاك هو النظر إلى الإمام الخميني (قده) باعتباره أحد المراجع وأساتذة الحوزة ، ومصدر هديّة شهرية للطلاب ، دون أن يكون عندهم اهتمامٌ بالاطّلاع على تفاصيل الحياة الشخصيّة للإمام (قده) . وبتعرّفي على السيّد عباس الموسوي (قده) ، أخذت منه الإعجاب والتقدير الذي كان يكنّه للإمام الخميني (قده) ، كما صرت من متتبّعي فكر الإمام (قده) ، ما أدّى إلى تبدّل قناعتي بخصوص منهجية العمل الثقافي ، من منهجية العمل على تطوير النخب ، إلى منهجيّة العمل على توعية عامّة الناس . ثمّ إنّ السيّد عباس الموسوي له الفضل الأكبر في تعلّقي بالإمام الخميني (قده) ، من خلال تعريفنا على أبعاد شخصيّة الإمام (قده) ، ومن خلال ذلك المدماك الأساس الذي وضعه في قلوبنا، في مجال حبّ الإمام (قده) وفي مجال طاعته وحسن الانقياد إليه .

الزيارة الأولى لبيت الإمام (قده)
الزيارة الأولى لي إلى بيت الإمام الخميني (قده) كانت عندما قصدته لإجراء امتحان خطّي يعطَى الناجح على أساسه الهدية الشهريّة من الإمام (قده) ، إلا أنّني لم أوفق حينها لرؤيته (قده) ، كما أنّني لم أتمكّن من إجراء الامتحان ؛ لأنّني لم أكن قد تعمّمت حينها بعد ، وكانت العمامة شرطاً ضروريّاً لإجراء الامتحان ، ومن ثمّ قبض الشهريّة .

ما كان يلفت نظري حينها أنّ الإمام الخميني (قده) كان المرجع الوحيد في النجف الذي يعتمد على نتائج الامتحانات لتوزيع الشهريّة ، وهذا يشير إلى الحزم الموجود عند الإمام (قده) ومكتبه . وبالرغم من أنّ  الهديّة الشهريّة التي كان الإمام (قده) يقدّمها لطلبة العلوم الدينية كانت  عاليةً - نسبيّاً - ، وبالرغم من كونه حريصاً على راحة الطلاب ، فإنّ الإمام (قده) كان يصرّ على أنّ الهديّة لا تُقدّم إلا للطلبة الجادّين في الدرس والتحصيل ...

التقيت بالإمام الخميني (قده) مرّتين في النجف
المرّة الأولى التي لمحت فيها الإمام (قده) كانت في تشييع ابنه السيّد الشهيد مصطفى، حيث كان الإمام (قده) حينها يظهر أجمل آيات الصبر والتسليم لله تعالى ، وقد نقل لنا أحد الإخوة الكلام الذي قاله الإمام (قده) بعد الحادث بفترة ، فقد قال : " إنّ لله تعالى ألطافاً ظاهرةً وأخرى خفيّة . أمّا الظاهرة فواضحة ، وأمّا الألطاف الخفيّة فمن جملتها أن يفقد المرء ولده ... " ، ثمّ يذكر الإمام (قده) فلسفة هذا الأمر .
في ذلك التشييع ، رأيت الإمام (قده) يترك الجموع الغفيرة بعدما سار خلف الجنازة ، ويصعد في سيّارة . لقد كانت لحظاتٍ قليلة ، لكنّها تركت فيّ الكثير ، وتأثّرت بشخصية ذلك الوقور وصاحب الهيبة العظيمة ، واستحضرت حينها صورته التي كانت مطبوعةً على غلاف كتاب " الحكومة الإسلامية " ، ولم يكن وجهه مختلفاً عن تلك الصورة إلا بالشيب الذي بدأ يكسو لحيته الكريمة .

المرّة الثانية التي رأيت فيها الإمام (قده) كانت لاحقاً . أذكر أنّني حينها كنت راجعاً من زيارة مرقد أمير المؤمنين (ع) ، وكنت مارّاً بالقرب من مدرسة البروجردي (قده) القريبة من المقام الشريف . خطر ببالي حينها أن أدخل إلى المدرسة ، فدخلت ، وإذ بي أرى الإمام الخميني (قده) واقفاً على مدخل تلك المدرسة ، حقيقة الأمر أنّي صُدمت للحظات ولم أدرِ ما أفعل فما كان منّي إلا أن اندفعت إليه مسلّماً عليه ومقبّلاً يده . وعندما نظر إليّ الإمام (قده) هالتني نظرته ، إلى درجة أنّني نقلت للشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) لاحقاً أنّ تلك النظرة " اخترقتني " من عيني إلى صميم قلبي ! كان ذلك الشعور الذي انتابني فوق العادة ، وترك فيّي انطباعاً لم يتكرّر مع غير الإمام الخميني (قده) على الإطلاق !

بعد الانتقال إلى لبنان
عام 1978 م ، اعتقلتنا السلطات العراقية الصدّامية ، ثمّ طردتنا - مع عددٍ كبير من طلبة العلوم الدينيّة الذين كانوا مقيمين في النجف - إلى الحدود الأردنية ، ومن هناك عدنا إلى لبنان ، واجتمعنا مع السيّد عبّاس الموسوي (قده) من جديد ، لكنّ هذه المرة كان اجتماعنا في بعلبك ، حيث أسّس السيّد عبّاس (قده) حوزته الدينيّة .

بعد عودتنا إلى لبنان بفترة ، بدأت التحرّكات الشعبية في إيران بوجه الشاه، واندلعت الثورة . أذكر أنّ نقاشاً جرى بيني وبين السيّد عباس الموسوي (قده) حول تلك الثورة . كنت حينها أرى – بحسب قناعتي التي تبدّلت لاحقاً – أنّ نجاح تلك الثورة أمرٌ شبه مستحيل ، في حين أنّ السيّد عباس الموسوي (قده) كان يرى عكس ذلك تماماً ، وقد قال لي حينها : " ألست تُدرِّس يا شيخ محمّد أنّ انتصار أيّ ثورة يتوقّف على ثلاثة ركائز وأركان : أوّلها القاعدة الفكرية ، وثانيها القاعدة الجماهيريّة ، وثالثها القيادة الصالحة ، وهذه الركائز الثلاثة موجودة في الثورة الإيرانيّة " . أجبت السيّد عبّاس حينها بأنّ ما يقوله صحيح ، لكنّي أشكّك في وعي الإمام الخميني (قده) ، فاستغرب السيّد عبّاس (قده) بشدّة ، وقال لي : "أنت تعرف مدى إعجابي بالسيّد محمّد باقر الصدر (قده) ، ومع ذلك أقول لك إنّ الإمام الخميني (قده) قادرٌ على تحقيق ما عجز عنه السيّد محمّد باقر الصدر وعجز عنه غيره ! " .

لا أخفي أنّني – بالرغم من قناعتي بصوابيّة الإمام الخميني (قده) وتأييدي له ولمواقفه الحقّة – كنت قلقاً على مصير الثورة الإسلاميّة . وكان الشهيد السيّد عباس الموسوي (قده) يعارضني ويناقشني في هذا المجال . وحتى مع ظهور بوادر سقوط الشاه وانتصار الثورة الإسلامية ، كان يراودني قلقٌ بأنّ أمريكا وغيرها من دول الاستكبار لن تترك هذه الثورة وشأنها ، بل قد تدخل إليها لتخرّبها من الداخل ، أو لتوجّهها إلى غير مسارها .
استمرّ تفاعلنا مع الأحاداث حتّى انتصار الثورة. وهنا بدأت الأفكار تجول في خاطري ، وصرت أحدّث نفسي : " ألا تدلّ هذه الهيبة التي يملكها الإمام (قده) - بحيث تؤثّر في الجميع أيّما تأثير - على حالةٍ نورانيّة بداخله؟ وألا يدلّ انتصاره على واحدٍ من أعظم طواغيت التاريخ البشري على مقامه السامي عند الله - تعالى - ؟" . هنا بدأ التحوّل ، وبدأت أقتنع أنّ هذه المسيرة مسدّدةٌ من الله - تعالى - ، وما دامت كذلك فلا خوف عليها من أيّ خطر !

ثمّ إنّ تساؤلاً آخر جال في خاطري حينها ؛ وهو أنّ الإمام (قده) الذي نال ذلك التوفيق الإلهي الكبير ، لماذا لم تكن شهرته واسعةً بيننا كما هو حال كثيرٍ من المراجع الأُخَر ؟ وما لبثت أن وجدت الجواب ، وهو أنّ الألطاف الإلهيّة الخفيّة اقتضت أن لا تتوسّع شهرة الإمام (قده) باكراً ؛ حفاظاً على شخصه من الاغتيال الذي حدث مثله مع ثلّةٍ من العلماء ، كالشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (قده) وغيره .
ومع انتصار الثورة الإسلاميّة ، بدأت تتكشّف لي عظمة قيادة الإمام الخميني (قده) ، بل وعظمة حكمته في مخاطبة الناس ، فتراه يخاطبهم خطابه الديني بلسان الفطرة ، مطلقاً شعاراتٍ فطريّة من قبيل محاربة الظلم ، والثورة على الاستكبار ، والتعاون بين مستضعفي العالم. وقد ترك هذا الخطاب الفطري أثره البالغ على الشعب الإيراني بكافّة أطيافه ، وقد زرت بنفسي عدداً من عوائل الشهداء الإيرانيين من المسيحيين ! ما يدلّ على التأييد الذي حصّله الإمام  من الشعب الإيراني برمّته !

ممّا نقله لي سماحة السيّد حسن نصر الله شخصياً هذه الحادثة : وهي أنّه كان يوماً قبيل انتصار الثورة في حرم السيّدة المعصومة ÷ ، وكان الزوّار بالآلاف . حينها قام أحد عناصر السافاك المندسّين بين الجموع وشتَم الإمام الخميني (قده) ، موهماً أنّه من أتباع أحد المراجع الكبار ؛ وقد كان يتوقّع أن يردّ أنصار الإمام (قده) عليه بشتم المرجع الذي يُظهر انتماءه إليه ، لكنّ الصدمة كانت عندما هتف جميع الحاضرين – وكأنّهم كانوا مستعدّين ومنتظرين للردّ - بشكلٍ سريع وبصوتٍ واحد : " إمامنا العزيز قال : المجد للمراجع ، المجد للمراجع ! ".

هذا الردّ يظهر وعي الشعب الإيراني ، لكنّه يُظهر بشكلٍ أوضح وعي الإمام الخميني(قده) الذي تحسّب لمختلف محاولات بثّ الفتنة ، فقام بتوعية شعبه . كما يُظهر أنّ الإمام الخميني (قده) لم يهدف من ثورته إلى تحصيل مكاسب شخصية ، بل كان الدين هو منتهى همّه.
ممّا يُظهر حكمة الإمام (قده) ووعيه ما قام به حين طلب من الشعب التصويت على دستور الجمهوري الإسلامية ؛ إذ قيل له حينها : " إنّ الشعب معك ، فلمَ الحاجة إلى الاستفتاء ؟ " ، فقال الإمام (قده) : " لا بدّ من الاستفتاء " . وقد أراد الإمام (قده) أنّ تكون ركيزة الجمهوريّة الإسلاميّة متينةً ، بشكلٍ يجعلها تصمد أمام أيّ هجمة من الغرب ، أو تهمةٍ بعدم الشرعيّة أو بالديكتاتوريّة وغياب الديمقراطيّة وما شابه .

زرت إيران مرّاتٍ كثيرة ، لكنّي لم أوفّق لرؤيته هناك !
بعد انتصار الثورة الإسلامية ، قمت بزيارة إيران عدّة مرّاتٍ ، لكنّ لم أوفّق لرؤية الإمام الخميني (قده) حتى مرّةً واحدة ! وبالحقيقة ، فقد بقي لقاء الإمام (قده) حسرةً في قلبي ، غير أنّي كنت أعزّي نفسي بأنّ الأهمّ هو أن يكون الإمام (قده) بخير ، وهذا ما يبرّد القلب .كما أنّي كنت أفتخر أمام سائر الإخوة بأنّي التقيت بالإمام (قده) في النجف الأشرف وسلّمت عليه وصافحته وقبّلت يده ، في حين أنّ لقاءات معظمهم كانت ضمن لقاءات عامّة في حسينيّة جمران ، وكانت رؤيتهم للإمام رؤيةً من بعيد .
من جهةٍ أخرى ، لا أخفي أنّني شعرت بأنّ حرماني من اللقاء بالإمام (قده) بعد انتصار الثورة كان عقاباً لي وكفارةً لما سلف منّي من سوء ظنٍّ بالإمام (قده) ـ وتشكيك بانتصار ثورته المباركة .

السيّد عباس الموسوي (قده) ينقل لي تفاصيل لقاءاته بالإمام (قده)
لقد زار  السيّد عبّاس الموسوي (قده) إيران مرّاتٍ عديدة ، لكنّني أذكر أنّ زيارتين من بينها توجّه فيهما إلى الجبهة ، وشارك مع المجاهدين في الحرب المفروضة ، وكانت الأولى قبل العام 1982 م ، والثانية بعد العام 1982 م . كما أنّه التقى بالإمام (قده) عدّة مرّات . لعلّ أهمّها لقاءه به عام 1982 م بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ، حيث توجّه السيّد عبّاس مع مجموعةٍ من العلماء اللبنانيين ؛ للتشاور مع الإمام (قده) في ما ينبغي فعله لمواجهة الاحتلال الصهيوني.

بعد عودة السيّد عباس من تلك الزيارة ، قمت بزيارته وتهنئته بالعودة ، وسألته عمّا أرشدهم إليه الإمام الخميني (قده) . عندها قال لي السيد عبّاس (قده) : " لا تتفاجأ ، لكنّ أوّل شيء أرشدنا إليه الإمام هو أنّ علينا في لبنان أن ننطلق من الصفر ! " ، وهذا ما كان قد أثار دهشة السيّد عبّاس واستغرابه ، وأخبرني بأنّه ظلّ محتاراً في هذه المسألة ، فحجم العمل الذي أُنجز سابقاً ليس قليلاً ولا سهلاً ، وما قاموا به من أوائل السبعينات هل من السهل أن يُترك ويُشرع من البداية ؟ لكنّ السيّد عاد وأخبرني بما فهمه من مراد الإمام (قده) ، وأنّ ما أشار إليه هو أنّ  عملنا ينبغي أن يكون متقناً ، ولا يشوبه عيوبٌ أو أخطاء فادحة .

الأمر الآخر الذي نقله لي السيّد عبّاس عن لقائهم بالإمام الخميني (قده) ما بشّرهم به الإمام (قده) ، إذ قال : " واعلموا أنّ كلّ عملٍ تقومون به في سبيل الله سوف يثمر ، ولو بعد مئة سنة  ". قال لي السيّد عبّاس (قده) حينها : " لقد قال الإمام (قده) تلك الكلمة بكلّ يقين ، ومهما وصفت لك يقينه واطمئنانه عندما كلّمنا ، فإنّ التصوّر يبقى قاصراً عن إدراك الواقع ! وقد أثّر هذا اليقين الموجود عنده فيّ ، فصرت متيقّناً بهذه النتيجة التي حدّدها ... " أذكر - جيّداً – كم كان السيّد عباس مندفعاً بعد ذلك اللقاء، وكيف استمدّ اليقين من الإمام (قده) بالفعل ، فكانت الانطلاقة المباركة للمقاومة الإسلاميّة .
بعد ذلك اللقاء ، كان السيّد عباس (قده) يتردّد كل فترةٍ إلى إيران ؛ للّقاء بالإمام الخميني (قده) ، وكنت مواكباً لتلك الرحلات والأسفار ، وأكثر ما يلفت في الأمر ما كان ينقله لي السيّد عبّاس عن اطّلاع الإمام (قده) على تفاصيل الأحداث اللبنانيّة ، بما كان يفاجئ السيّد عبّاس (قده) أحياناً !

الإمام المسدّد
نقل لي أحد الإخوة - من الطلبة الذين كانوا يدرسون في قم المقدّسة أثناء الثورة الإسلامية - هذه المسألة : مع تصاعد الأحداث ، وتوقّد الثورة ، كنّا نتمنّى عند بعض الأحداث أنّ الإمام (قده)  لو يصرّح بالتصريح الفلاني لكان مناسباً ، وإذ بالإمام يصرّح بذلك التصريح الذي كنّا تمنّاه ، ما يدلّ على اطّلاع الإمام على أدقّ التفاصيل – بالرغم من الظروف الصعبة -  من جهة ، وعلى وعيه ونفاذ بصيرته في إدارة الثورة من جهةٍ أخرى .

ثمّ إنّ أحد الإخوة الذي كان يتابع تفاصيل الأحداث ، وكيف كان الإمام يتّخذ بعض القرارات والمواقف بجرأة بالغة ، قال لي مرّةً : " إنّ الإمام الخميني (قده) باتّخاذه تلك المواقف يدلّ على أنّه إما رجلٌ مجنون ، أو أنّه مسدّدٌ من قبل الله – تعالى - ! " وحقيقة الأمر أنّ من كان ينظر إلى الواقع ويقيسه بالمقاييس الظاهريّة ، يرى أنّه من غير المعقول أن يكون مصير الثورة هو النجاح والانتصار . لكن في ختام الأمر ، ولمّا انتصرت الثورة ، علمنا - بلا أدنى شكٍّ - أنّ الإمام (قده) مسدّدٌ من قبل الله - تعالى - ، وأنّ انتصار الثورة انتصارٌ إلهيٌّ بامتياز !

الإمام الخميني (قده) حرّك الجماهير
ممّا يظهر عظمة قيادة الإمام الخميني (قده) قدرته العالية على تحريك الجماهير . وفي هذا المجال ، يركز في بالي فكرةٌ للشيخ محمّد مهدي شمس الدين (قده) كان قد ذكرها ، وهي المقارنة بين ثورة الإمام (قده) وثورةٍ أخرى كانت قد حدثت في تشيلي في وقت قريب من وقت الثورة الإسلاميّة في إيران .

كانت الثورة في تشيلي بقيادة ثائر اسمه " سلفادور أليندي " ، الذي استطاع أن يسيطر على البلاد ، لكن سرعان ما قصفت الطائرات الأمريكية منزله فقتلته . ما حدث بعدها أنّ الثوار الذين نزلوا إلى الشوارع ليطالبوا بدم أليندي تعرّضوا للإغراءات بالخمور وغيرها ، فما لبثوا أن تركوا الثورة وتركوا قضيّتهم ، حتى عيّنت أمريكا حاكماً باسم " مينوتشيه " .

سماحة الشيخ محمّد مهدي شمس الدين (قده) يقارن بين الثورتين ، فيقول إنّ الثورة التشيليّة جاءت من فوق ، فلم تنجح مع عدم تأصيل القاعدة الشعبيّة . بينما الثورة الإسلاميّة في إيران انطلقت من قاعدة جماهيريّة واسعة ، مؤمنة بالله وبمبادئ الثورة ، وهذا ما كان الإمام الخميني (قده) يعمل عليه. عندما يرى الناس أنّ قائده لا يأكل حتى يأكل الشعب ، وأنّ قائده لا يهنأ له عيش ما دام الشعب مظلوماً مقهوراً . عندما يرى الشعب أنّ قائده يعيش كلّ آلامه ومعاناته ، حينها لا بدّ من أن يتفاعل مع ذلك القائد بكلّ كيانه ، فتكون ثورته منبعثةً من أعماق القلوب ! 

لوعة رحيل الإمام (قده)
عندما وردتنا الأنباء التي تفيد بأنّ الإمام الخميني (قده) قد توجّه إلى المستشفى وأنّ وضعه الصحّي يتدهور ، ومن ثمّ شاهدنا ذلك من خلال شاشات التلفزة ، كان عندي قناعة شخصيّة ، وهي أنّ الإمام لن يموت حينها ؛ بل سيبقى حتى يسلّم الراية للإمام المهدي (عج)! ولذا لم أكن أصدّق بأنّ تلك الأيام هي آخر أيّام العمر الشريف للإمام (قده) .

كانت تلك قناعتي ، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي بينما كنت نائماً فيه في منزلي في بعلبك ، أيقظتني زوجتي فجراً ، وهي تبكي بشدّة . سألتها متفاجئاً عن السبب ، فأجابت بأنّ الإمام (قده) قد توفّي ! في الحقيقة ، لقد شكّل ذلك الخبر صدمةً كبيرةً عليّ ، وقد شعرت لساعات أنّ الأفق مسدودٌ أمامنا . كان شعوراً قاسياً وصعباً لم أشعر بمثله - تقريباً - إلا عند استشهاد السيّد عباس الموسوي (قده) .
ما هي إلا لحظات حتى تمالكت نفسي وصعدت إلى منزل السيّد عبّاس الموسوي (قده) ، وكان يسكن في الطابق العلويّ من المبنى الذي كنت أسكن فيه . ذهبت إلى السيد عباس ؛ لأعزّيه برحيل الإمام (قده) أوّلاً ، ولسؤاله عن الإجراءات والخطوات التي ينبغي أن نقوم بها عقب هذا المصاب الجلل .

رأيت السيّد عباس (قده) متأثّراً برحيل الإمام (قده) بشدّة ، لكنّه – مع ذلك – كان صابراً متماسكاً ، وقال لي : " ماذا نقول ، هي مصيبة بلا شكّ ، لكنّ أملنا بالله  - تعالى - على كلّ حال " . ثمّ أمرني بالتوجّه إلى الجنوب ؛ لرفع معنويات الإخوة المجاهدين ، والقيام بمراسم العزاء بينهم. كانت وفاة الإمام (قده) يوم الأحد ، ولا أخفي - في هذا المجال - أنّني بقيت ليومين أحدّث نفسي بأنّ الإمام (قده) لم يمت ، وأنّ هذا الخبر لعلّه كان من أجل اختبار النفوس ومعرفة النوايا . وقد كانت هذه التوقّعات لديّ راجعةً إلى قناعتي بأنّ الإمام (قده) هو من سيسلّم الراية إلى الإمام المهدي (عج) . كما أنّ هول الصدمة دفعني إلى تخيّل مثل هذه الأمور ، وتكذيب الخبر بيني وبين نفسي . لكن مع مشاهدة دفن الإمام (قده) نهار الثلاثاء ، لم يبقَ مجالٌ للتشكيك في حقيقة الأمر .

جملةٌ ما زلت أبكي كلّما قرأتها
في الحقيقة ، لقد تأثّرت برحيل الإمام (قده) كثيراً ، لكنّ ما تأثّرت به كذلك كلمةٌ قالها الإمام (قده) في وصيّته الخالدة ، والتي يقول فيها : " بقلبٍ هادئٍ ، ونفسٍ مطمئنّة ، وضمير يأمل فضل الله - تعالى – أستودع الإخوة والاخوات ، وأغادر نحو المقرّ الأبدي ... " في الحقيقة ، لا زلت كلّما قرأت هذه الكلمات أبكي ، أو تدمع عيني على الأقل !
لكن ما كان يخفّف عنّا ألم فراق الإمام (قده) ، كان استلام سماحة السيد الخامنئي – دام ظلّه – لولاية الأمر بعد الإمام (قده) ، خاصّةً وأنّ القائد الخامنئي – دام ظلّه – بقي يتابع شؤون الملفّ اللبناني بشكلٍ مباشر ، ما ترك فينا شعوراً بالطمأنينة ، وبالقوة المعنوية التي ما زالت حتّى اليوم ...




2214 مشاهدة | 11-05-2016
جامعة المصطفى (ص) العالمية -فرع لبنان- ترحب بكم

مجلس عزاء عن روح الشهيد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ورفاقه

رحيل العلامة المحقق الشــيـخ علي كـوراني العاملي (رحمه الله)

ورشة تقنيات قراءة في كتاب

ورشة تقنيات تدوين رؤوس الأقلام

ورشة أسس اختيار الموضوع ومعايير صياغة عنوان الرسالة

عزاء عن روح الشهيد جعفر سرحال

المسابقة العلمية الرابعة

دورة في مخارج الحروف العربيّة

حفل تكريم المشاركات في دورة مشروع الفكر الإسلامي في القرآن

دورة إعداد خطيبة منبر حسيني

لقاء مع المربي العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

احتفال في ذكرى المولد الشريف

ندوة كاتب وكتاب: التاريخ السياسي والاجتماعي لشيعة لبنان

لقاء مع المستشار الثقافي لسفارة الجمهوريّة الإسلاميّة

وفد من حوزة الإمام الخميني (قده) يزور الجامعة

دعوة للمشاركة في مؤتمر الإمام الحسين (ع) والنهضة الفكريّة

صباحيّة قرآنيّة في حوزة السّيدة الزهراء (ع)

ندوة كاتب وكتاب: الله والكون برواية الفيزياء الحديثة

العدد 54-55 من مجلَّة الحياة الطيّبة