اعلم يا أخي ويا صديقي العزيز الكريم: أنّه عليك أن تجتهد فيما هو المقصود الأعلى، والغاية القصوى، والمسلك الأحلى، والمشرب الأشهى، وهو: "صيرورة الإنسان عالماً عقليّاً مضاهياً للعالم العينيّ"1, برفض الرذائل وكدورات المادّة والمدّة، وجلب الفضائل, بالسّعي فيما هو دستور الشرع الإسلاميّ والمذهب الإيمانيّ، والجدّ في العمل بتعاليم الله وقوانينه العمليّة الجوارحيّة والجوانحيّة2، فإذا شهدت أنّ الله تبارك وتعالى قد أنعم عليك النّعم الظّاهرة والباطنة، وأعطاك الآلاء الكثيرة الخفيّة والجليّة، وهيّأ لك أسباب الرّقاء والوصول إلى دار البقاء, بإبلاغ الكتب السماويّة وإرسال الرّسل الملكوتيّة، وأعدّ لك ما تحتاج إليه في المعيشة الدنيويّة, بالنّظام التّامّ وفوق التمام، فعليك أن توجّه إليه حمدك، وأن تقطعه عن الغير، وتنقطع إليه انقطاعاً كلّيّاً تامّاً، فتكون في جميع اللّحظات والحركات والساعات والآنات متوجّهاً إلى حضرته، حامداً شاكراً، مثنياً مادحاً بجميع الأعضاء والأفعال، وتطبيق جميع الحركات على النّظام الشّرعيّ الّذي جاء به النّبيّ الأكرم، والرّسول الختميّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل وجدانك يقتضي أن تعصيه وتخالفه بما أنعم عليك من القوى؟ ففي محضره الرّبوبيّ، هل ترضى أن تصرف قدرته وإرادته وحكمته فيما لا يرضى به، وينهى عنه؟! نعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم.
فلا تكن أيّها العزيز قانعاً بهذه الاصطلاحات الباردة، وتلك التخيّلات، التي ربما تكون باطلة وعاطلة، بل عليك صرف عمرك الشّريف في حمده القلبيّ واللّسانيّ والحاليّ والفعليّ، فتكون بحسب القلب حامداً إيّاه، وراضياً بما يصنعه، ومسلّماً لأمره، محبّاً لمعروفه، مبغضاً لمنكره، فتجاهد الجهاد الأكبر، فتكون شهيداً، أو في حكم الشهيد، ثواباً، فتشملك الرّوايات الواردة في ثواب الشّهداء3، فإذا كنت هكذا، وصرت من أهل الحال، لتستحقّ المواهب الإلهيّة، والواردات القلبيّة، وترث الجنّة الّتي يرثها عباده الصالحون، بسبب العمل الصّالح، وتزكية القلوب القاسية، وعلامة ذلك الشّوق إلى الإنابة والتّوبة، فإنّها أوّل قدم العبد في الدّخول إلى دار الرّبّ، والوصول إلى حلاوة القرب، فيا الله، انزع ما في قلوبنا من غلّ، حتّى نكون صالحين للجلوس على مأدبتك، وأذقنا الّلهم طعمَ عفوك، وحلاوةَ مغفرتك ورحمتك، حتّى نخرج من غياهب4 الذّل، جلباب الكفر والنّفاق، وإليك يا ربّ المشتكى.
حقيقة الحمد
وقد حكي عن بعض أهل السِّيَر: أنّ الحمد على ثلاثة أوجهٍ: أوّلها: إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك، والثّاني: أن ترضى بما أعطاك، والثّالث: ألّا تعصيه ما دامت قوّته في جسدك. وعن السِّقطي5 في ذكر أنّ للحمد موضعاً خاصّاً، وإلا لم يحصل المقصود، أنّه قيل له: كيف يجب الإتيان بالطّاعة؟ قال:
أنا منذ ثلاثين سنةً أستغفر الله على قولي مرّةً واحدةً: الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع حريقٌ في بغداد، واحترقت الدّكاكين والدّور، فأخبروني أنّ دكّاني لم يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أنّي فرحت ببقاء دكّاني حال احتراق دكاكين النّاس، وكان حقّ الدين والمروّة أن لا أفرح بذلك6. انتهى.
ولست أبحث عن صحّة هذه المقالة وعدمها، ولكن أجد في نفسي أنّ الإنسان ذو نفسٍ خدّاعةٍ مكّارةٍ دقيقةٍ رفيقةٍ مع الشّيطان الرّجيم، وتكون غاية همّها سوق الإنسان إلى ذلك الرّفيق الخبيث، فكثيراً ما يشهد الإنسان مأدبةً جامعةً لشتات الأغذية، فيأكل ولا يذكر الله تعالى حتّى مرّةً واحدةً، وإذا اتّفق له في يومٍ، ما لا يرضي به شهوته وطمعه لقلّته ورداءته، يذكر الله تعالى على هذه المائدة، ويحمده كثيراً، غافلاً عن أنّ هذا التّحميد والشّكر مشتملٌ على نوعٍ من الكفر والإلحاد، وعدم الرضا بما أعطاه الله تبارك وتعالى، ويريد أن يطفئ نار غضبه الباطنيّ بالحمد اللّساني، فنعوذ به تعالى من شرّ الأعداء..7.
1- وهذا هو المسمّى بالحكمة النّظريّة والعلميّة, بأن يكون عالماً بمبدأ الوجود ومنتهاه/ وسرّ الخلقة وسائر ما ذكره الحكماء، من أقسام العلوم النّظريّة والعلميّة. كأنه اجتمع ما في الوجود في نفسه بوجود عقليّ.
2- الجوارحيّة: أي المرتبطة بالظاهر، والجوانحيّة أي المرتبطة بالباطن.
3- راجع: وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي، ج 109، ص11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 1، الحديث 19 -23.
4- الغياهب: جمع غيهب وهي الظلمة وشدّة السواد.
5- هو السري أبو الحسن بن مغلّس السقطي خال الجنيد وأستاذه توفي سنة 257.
6- الفخر الرازي: التفسير الكبير، ج 1، ص 224.
7- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى: تفسير القرآن الكريم ،ج 1 ، ص 325- 328.
فهل وجدانك يقتضي أن تعصيه وتخالفه بما أنعم عليك من القوى؟ ففي محضره الرّبوبيّ، هل ترضى أن تصرف قدرته وإرادته وحكمته فيما لا يرضى به، وينهى عنه؟! نعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم.
فلا تكن أيّها العزيز قانعاً بهذه الاصطلاحات الباردة، وتلك التخيّلات، التي ربما تكون باطلة وعاطلة، بل عليك صرف عمرك الشّريف في حمده القلبيّ واللّسانيّ والحاليّ والفعليّ، فتكون بحسب القلب حامداً إيّاه، وراضياً بما يصنعه، ومسلّماً لأمره، محبّاً لمعروفه، مبغضاً لمنكره، فتجاهد الجهاد الأكبر، فتكون شهيداً، أو في حكم الشهيد، ثواباً، فتشملك الرّوايات الواردة في ثواب الشّهداء3، فإذا كنت هكذا، وصرت من أهل الحال، لتستحقّ المواهب الإلهيّة، والواردات القلبيّة، وترث الجنّة الّتي يرثها عباده الصالحون، بسبب العمل الصّالح، وتزكية القلوب القاسية، وعلامة ذلك الشّوق إلى الإنابة والتّوبة، فإنّها أوّل قدم العبد في الدّخول إلى دار الرّبّ، والوصول إلى حلاوة القرب، فيا الله، انزع ما في قلوبنا من غلّ، حتّى نكون صالحين للجلوس على مأدبتك، وأذقنا الّلهم طعمَ عفوك، وحلاوةَ مغفرتك ورحمتك، حتّى نخرج من غياهب4 الذّل، جلباب الكفر والنّفاق، وإليك يا ربّ المشتكى.
حقيقة الحمد
وقد حكي عن بعض أهل السِّيَر: أنّ الحمد على ثلاثة أوجهٍ: أوّلها: إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك، والثّاني: أن ترضى بما أعطاك، والثّالث: ألّا تعصيه ما دامت قوّته في جسدك. وعن السِّقطي5 في ذكر أنّ للحمد موضعاً خاصّاً، وإلا لم يحصل المقصود، أنّه قيل له: كيف يجب الإتيان بالطّاعة؟ قال:
أنا منذ ثلاثين سنةً أستغفر الله على قولي مرّةً واحدةً: الحمد لله، فقيل كيف ذلك؟ قال: وقع حريقٌ في بغداد، واحترقت الدّكاكين والدّور، فأخبروني أنّ دكّاني لم يحترق، فقلت: الحمد لله، وكان معناه أنّي فرحت ببقاء دكّاني حال احتراق دكاكين النّاس، وكان حقّ الدين والمروّة أن لا أفرح بذلك6. انتهى.
ولست أبحث عن صحّة هذه المقالة وعدمها، ولكن أجد في نفسي أنّ الإنسان ذو نفسٍ خدّاعةٍ مكّارةٍ دقيقةٍ رفيقةٍ مع الشّيطان الرّجيم، وتكون غاية همّها سوق الإنسان إلى ذلك الرّفيق الخبيث، فكثيراً ما يشهد الإنسان مأدبةً جامعةً لشتات الأغذية، فيأكل ولا يذكر الله تعالى حتّى مرّةً واحدةً، وإذا اتّفق له في يومٍ، ما لا يرضي به شهوته وطمعه لقلّته ورداءته، يذكر الله تعالى على هذه المائدة، ويحمده كثيراً، غافلاً عن أنّ هذا التّحميد والشّكر مشتملٌ على نوعٍ من الكفر والإلحاد، وعدم الرضا بما أعطاه الله تبارك وتعالى، ويريد أن يطفئ نار غضبه الباطنيّ بالحمد اللّساني، فنعوذ به تعالى من شرّ الأعداء..7.
1- وهذا هو المسمّى بالحكمة النّظريّة والعلميّة, بأن يكون عالماً بمبدأ الوجود ومنتهاه/ وسرّ الخلقة وسائر ما ذكره الحكماء، من أقسام العلوم النّظريّة والعلميّة. كأنه اجتمع ما في الوجود في نفسه بوجود عقليّ.
2- الجوارحيّة: أي المرتبطة بالظاهر، والجوانحيّة أي المرتبطة بالباطن.
3- راجع: وسائل الشيعة للشيخ الحر العاملي، ج 109، ص11، كتاب الجهاد، أبواب جهاد العدو، الباب 1، الحديث 19 -23.
4- الغياهب: جمع غيهب وهي الظلمة وشدّة السواد.
5- هو السري أبو الحسن بن مغلّس السقطي خال الجنيد وأستاذه توفي سنة 257.
6- الفخر الرازي: التفسير الكبير، ج 1، ص 224.
7- الخمينيّ الشّهيد السّيّد مصطفى: تفسير القرآن الكريم ،ج 1 ، ص 325- 328.