قام الإمام الكاظم عليه السلام وفي العديد من المناسبات بالتأكيد على حقّه وحقّ آل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بالإمامة, تصريحاً تارة وتلميحاً أخرى, بل كان يواجه بعض حكّام بني العبّاس بهذه الحقيقة، ويصارح بها، أكثر من مرّة، وفي أكثر من مناسبة6, وقد ذكر الرواة مواقف عديدة تؤكّد هذا الأمر وتوضحه:
منها: ما نقله الرواة أنّه لمّا دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومعه الناس، فتقدّم إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره، فتقدّم أبو الحسن عليه السلام إلى القبر فقال: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه", فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه7 , فلم يزل ذلك في نفس الرشيد إلى أن قبض عليه8.
فقد أراد الرشيد بقوله هذا أن يفهم الناس أنّه من آل محمّد وأنّه ابن عمّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, وهو ما ضلّل به بنو العبّاس الناس ورفعوه شعاراً لهم في مواجهة بني أميّة حتّى أزالوا ملكهم, ولكن الإمام لم يترك له هذه الفرصة, فقام بالردّ عليه ليسمع الناس أنّه ابن رسول الله وذرّيته, وعترته أهل بيته, وإذا كان هذا الرجل مفروض الطاعة لقرابته من رسول الله من خلال كونه ابن عمّه, فأنا أولى به وأقرب لكوني ابنه وولده.
والظاهر أنّ بني العبّاس كانوا قد تنبّهوا لهذا الأمر وتداعياته على مستوى الأمّة وعلاقتها بأهل البيت عليهم السلام, فأثاروا قضيّة أبناء البنات, وتسمية أولاد البنت بأولاد الرجل, التي افتعلها أسلافهم الأمويّون محاولة منهم للطعن في أهل البيت الذين هم أولاد رسول الله ودمه ولحمته, كما سمّاهم النبيّ بذلك, فتصرّفوا في فرائض الإرث، وقالوا بعدم توريث البنت، لأنّها ليست بولد في العرف الجاهليّ، قال الشاعر9 :
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ
حتّى وصل الأمر بهم أن قدّموا العمّ على البنت في العصر العبّاسي، فقال مروان بن أبي حفصة:
أَنَّى يَكُونُ وَلَيْسَ ذَاكَ بِكَائِنٍ لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَام
فأجابه شاعر الشيعة10 :
لِمَ لَا يَكُونُ وَإِنَّ ذَاكَ لَكَائِنٌ
لِبَنِي البَنَاتِ وِرَاثَةُ الأَعْمَامِ
ِلْبِنْتِ نِصْفٌ كَامِلٌ مِنْ إِرْثِهِا
وَالعَمُّ مَتْرُوكٌ بِغَيْرِ سِهَامِ11
وقد سأل الرشيد يوماً الإمام الكاظم عليه السلام:لم جوّزتم للعامّة والخاصّة أن ينسبوكم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون لكم: يا بني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنتم بنو عليّ؟ وإنّما ينسب المرء إلى أبيه, وفاطمة إنّما هي وعاء والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جدّكم من قبل أمّكم؟ فقال عليه السلام: "يا أمير المؤمنين لو أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟", فقال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل افتخر على العرب والعجم وقريش بذلك, فقال له: "لكنّه صلى الله عليه وآله وسلم لا يخطب إليَّ ولا أزوّجه", فقال: ولم؟ فقال عليه السلام: "لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم ولدني ولم يلدك", فقال: أحسنت يا موسى, ثمّ قال: كيف قلتم: إنّا ذرّية النبيّ والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يعقّب وإنّما العقب للذكر لا للأنثى, وأنتم ولد البنت ولا يكون لها عقب؟! فأجابه الإمام عليه السلام- بعد أن طلب أن يعفيه فلم يعفه- فقال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾ من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟" فقال: ليس لعيسى أب, فقال عليه السلام: "إنّما ألحقناه بذراري الأنبياء عليهم السلام من طريق مريم عليها السلام وكذلك أُلحقنا بذراري النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من قبل أمّنا فاطمة عليها السلام. أزيدك يا أمير المؤمنين؟" قال: هات, فقال عليه السلام: "قول الله عزَّ وجلَّ:﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ولم يدّع أحد أنّه أدخل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تحت الكساء عند المباهلة للنصارى إلّا عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين فكان تأويل قوله تعالى ﴿أَبْنَاءنَا﴾ الحسن والحسين, ﴿وَنِسَاءنَا﴾ فاطمة ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ عليّ بن أبي طالب عليهم السلام"12.
ومنها: إنّه لقيه الرشيد عند الكعبة فلم يقم له حتّى وقف الرشيد على رأسه فقال: أنت الذي يبايعك الناس؟ قال : "نعم, أنا إمام القلوب, وأنت إمام الجسوم"13.
ومنها: ما عن محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاريّ قال: كان ممّا قال هارون لأبي الحسن عليه السلام حين أُدخل عليه: ما هذه الدار؟ فقال: "هذه دار الفاسقين, قال الله تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾ الآية"14. فقال له هارون : فدار من هي؟ قال : "هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة"، قال فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال: "أُخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة", قال: فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه السلام: "﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّى تأتيهم البيّنة﴾15, قال: فقال له فنحن كفّار؟ قال: "لا ولكن كما قال الله: ﴿الذين بدّلوا نعمة الله كفراً وأحلّوا قومهم دار البوار﴾", فغضب عند ذلك وغلظ عليه، فقد لقيه أبو الحسن عليه السلام بمثل هذه المقالة وما رهبه, وهذا خلاف قول من زعم أنّه هرب منه من الخوف16.
ومنها: المطالبة بفدك, بما ترمز إليه من حقّ الإمامة, فقد روي أنّ موسى الكاظم عليه السلام ورد على المهديّ محمّد، فرآه يردّ المظالم، فقال: "يا أمير المؤمنين ما بال مظلمتنا لا تردّ"، فقال له: وما ذاك يا أبا الحسن؟ فذكر له الإمام عليه السلام أمر فدك وحدودها- كما سيأتي- فقال له المهديّ: هذا كثير وأنظر فيه17.
وتكرّر هذا المشهد مرّة أخرى مع الرشيد, فروي أنّه كان يقول لموسى بن جعفر عليهما السلام: خذ فدكاً حتّى أردها إليك، فيأبى حتّى ألحّ عليه فقال عليه السلام: "لا آخذها إلّا بحدودها" قال: وما حدودها؟ قال: "إن حددتها لم تردّها؟" قال: بحقّ جدّك إلّا فعلت، قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعدن"، فتغيّر وجه الرشيد وقال: إيهاً! قال: "والحدّ الثاني سمرقند"، فاربدّ وجهه. "والحدّ الثالث إفريقية"، فاسودّ وجهه وقال: هيه! قال: "والرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية"، قال الرشيد : فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي, قال موسى: "قد أعلمتك أنّني إن حددتها لم تردّها", فعند ذلك عزم على قتله.
وفي رواية ابن أسباط أنّه قال: "أمّا الحدّ الأوّل فعريش مصر، والثاني دومة الجندل، والثالث أحد، والرابع سيف البحر". فقال: هذا كلّه؟ هذه الدنيا! فقال: "هذا كان في أيدي اليهود بعد موت أبي هالة فأفاءه الله على رسوله بلا خيل ولا ركاب فأمره الله أن يدفعه إلى فاطمة عليها السلام"18.
ويرى الإمام الخامنائيّ قدس سره أنّ هذا الطرح من الإمام الكاظم عليه السلام كان يدلّ على استراتيجيّة الإمامة, وأنّ هارون كان هدفه من وراء هذا العمل أن يسلب تأثير هذا الرمز "فدك" الذي كان أهل البيت عليهم السلام يطرحونه دائماً كدليل وشاهد على مظلوميّتهم التاريخيّة, فبإرجاعه لفدك يسحب هذا السلاح من أيديهم, والإمام عليه السلام وبعد إصرار هارون على بيان هذا الأمر أظهر هذا الأمر الأهمّ الذي يرسم استراتيجيّة الإمامة, والذي كان كافياً حتّى يقرّر هارون الرشيد قتله19.
6- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.
7- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 234.
8- مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323.
9- وهو مروان بن أبي حفصة.
10- وهو جعفر بن عفّان الطائي.
11- مجلة تراثنا ص 90- 91, ج 55, العدد الثالث السنة الرابعة عشرة رجب 1419 هـ.
12- الصدوق: عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص 80- 81.
13- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ, ج 19 ص 543. وانظر: مرتضى السيّد جعفر: الحياة السياسيّة للإمام الرضا عليه السلام ص 323, وفيه: أنت الذي تبايعك الناس سرّاً.
14- سورة الأعراف 146.
15- سورة البيّنة الآية1.
16- المفيد: الاختصاص ص 262.
17- القاضي التستريّ: شرح إحقاق الحقّ ج 12 ص 340.
18- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 320- 321.
19- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ, فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 96- 97, بتصرّف وتلخيص.