التفّ حول الإمام الكاظم عليه السلام في المدينة المنوّرة جمع غفير من كبار الرواة والعلماء ممّن تتلمذوا في جامعة الإمام الصادق عليه السلام الكبرى، حيث قام الإمام بعد أبيه عليهما السلام بإدارة شؤون تلك المدرسة التي أعزّت العلم ورفعت مناره، فأصبح بعد أبيه عميداً وزعيماً للحركة العلميّة والنهضة الفكريّة في عصره. وكان العلماء والرواة ملازمون لمجلسه عليه السلام ولا يفترقون عنه، حتّى بلغ من احتفائهم به وإقبالهم عليه أنّه إذا نطق بكلمة أو أفتى بفتوى سارعوا إلى تدوين ذلك. روى ابن طاووس: أنّ أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام وخواصّه من شيعته وأهل بيته كانوا يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح (من الخشب)، فإذا نطق بكلمة أو أفتى في نازلة بادروا إلى تسجيل ذلك.
لقد روى العلماء والفقهاء من أحاديثه عليه السلام الكثير ودوّنوها في كتبهم ومسانيدهم، وفي شتّى العلوم التي تلقّوها منه، على اختلاف آرائهم وتباين نزعاتهم، من الحكمة والتفسير والفقه والحديث، حتّى طبقت آراؤه الخافقين، وضربت لأجل ذلك آباط الإبل، للاستماع إلى حديثه والانتهال من علومه2.
وكانت أيّامه أيّام شدّة وضيق وبلاء ولا سيّما في عهد هارون الملقّب بالرشيد فلذلك كانت الرواية عنه أقل من أبيه الصادق ومع ذلك فقد روى عنه الناس فأكثروا وروى عنه من علوم الدين الشيء الكثير وكان أفقه أهل زمانه وأجلّهم وروى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما دوّن وملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلّفات الكثيرة وكان عليه السلام يعرف بين الرواة بـ "العالم".
وقال في المناقب: أخذ عنه العلماء ما لا يحصى كثرة وذكر عنه الخطيب في تاريخ بغداد والسمعانيّ في الرسالة القواميّة وأبو صالح أحمد المؤذّن في الأربعين وأبو عبد الله بن بطّة في الإبانة والثعلبيّ في الكشف والبيان. وكان أحمد بن حنبل إذا روى عنه قال: حدّثني موسى بن جعفر, حدّثني أبي جعفر بن محمّد, حدّثني أبي محمّد بن عليّ, حدّثني أبي عليّ بن الحسين, حدّثني أبي الحسين بن عليّ, حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ثمّ قال أحمد: وهذا إسناد لو قرئ على المجنون لأفاق الخ..
وكانت مدرسته في داره بالمدينة وفي المسجد كما كان آباؤه عليه وعليهم السلام وكانت ترد إليه المسائل وهو في السجن ببغداد فيجيب عنها3.
من ذلك جوابه على كتاب لعليّ بن سويد السائيّ- أحد أصحابه- كان سأله فيه عن حاله وعن مسائل, فاحتبس الجواب أشهراً ثمّ أجابه عليه السلام من السجن بكتاب أرسله إليه4.
وقد قام الإمام عليه السلام بتربية نخبة من الأصحاب تميّزوا بتخصّصهم في حقول المعرفة المختلفة, والعلوم الدينيّة المتنوّعة من فقه وكلام وتفسير وغيرها, ومن بين هؤلاء مجموعة من تلامذته الفقهاء, قال الشيخ الكشّي في تسمية الفقهاء من أصحاب أبي إبراهيم وأبي الحسن الرضا عليهما السلام: أجمع أصحابنا على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء وتصديقهم, وأقرّوا لهم بالفقه والعلم, وهم ستّة نفر... منهم يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى بيّاع السابريّ، ومحمّد بن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، وأحمد بن محمّد بن أبي نصر. وقال بعضهم مكان الحسن بن محبوب الحسن بن عليّ بن فضّال وفضالة بن أيوب، وقال بعضهم مكان ابن فضّال عثمان بن عيسى، وأفقه هؤلاء يونس بن عبد الرحمن، وصفوان بن يحيى5.
1- أنظر: الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليهم السلام للإمام الخامنئيّ, فصل عنصر الجهاد في حياة الأئمّة عليهم السلام ص 63, بتصرّف وتلخيص.
2- الشاكريّ الحاج حسين: موسوعة المصطفى والعترة ج 11 ص 229- 230.
3- الأمين السيّد محسن: أعيان الشيعة ج 1 ص 100- 101.
4- الكلينيّ: الكافي ج 8 ص 124.
5- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 830, الرقم 1050.