واقعة حنين
كانت هذه الغزوة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وحنين وادٍ بينه وبين مكَّة ثلاث ليال1.
وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ هوازن قد جمعت بحنين جمعاً كبيراً تريد غزو المسلمين وقتالهم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش عظيم عدَّتهم اثنا عشر ألفاً، فقال بعضهم: ما نُؤتى من قلَّة، فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك من قولهم.
وكان لواء المهاجرين مع عليِّ بن أبي طالب عليه السلام2، ووزَّع بقية الرايات على قادة الجيش وزعماء القبائل.
يروى عن جابر بن عبدالله الأنصاري، أنَّه قال: "لمَّا استقبلنا وادي حُنين، انحدرنا في وادٍ أجوف حَطُوطٍ، إنّما ننحدر فيه انحداراً في عماية الصبح، وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي، فكمنوا لنا في شعابه ومضايقه، قد أجمعوا وتهيّأوا وأعدّوا، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون إلّا والكتائب قد شدَّت علينا شدَّة رجل واحد، فانهزم الناس أجمعون لا يلوي أحد على أحد.. إلّا أنَّه قد بقي مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته عليهم السلام"3.
وعلى أيِّ الأحوال فلقد اتَّفق المؤرِّخون على أنَّ عليَّاً عليه السلام وأكثر بني هاشم ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الأزمة4، كان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام يذبُّ الناس بسيفه ويفرِّقهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما كانت أكثر مواقفه في الحروب التي مضت، فلم يستطع أحد أن يدنو من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إلّا جدله بسيفه.
وكان رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء أمام الناس، فإذا أدرك رجلاً طعنه، ثُمَّ رفع رايته لمن وراءه فاتَّبعوه، فحمل عليه عليٌّ عليه السلام فقتله5، فكانت الهزيمة،فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعبَّاس: "صِحْ للأنصار" وكان صيِّتاً، فنادى: يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمُرة، يا أصحاب سورة البقرة! فأقبلوا كأنَّهم الإبل إذا حنَّت على أولادها، يقولون: يا لبَّيك يا لبَّيك! فحملوا على المشركين، فأشرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إلى قتالهم فقال: "الآن حمي الوطيس"! وهو أول من قالها، ثُمَّ قال:6 "أنا النبيُّ لا كذبْ أنا ابن عبد المطَّلب".
واقتتل الناس قتالاً شديداً.
وأخذ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حفنة من تراب فرمى بها في وجوههم، فكانت الهزيمة.7 وقيل: إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام قد قتل منهم أربعين رجلاً8، واستشهد من المسلمين أيمن ابن أمِّ أيمن، ويزيد بن زَمعَة بن الأسود بن المطَّلب بن عبد العُزَّى وغيرهما9.
تبوك والاستخلاف
ثمَّ كانت غزوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في رجب سنة تسع من مُهاجره10.
لمَّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام. لغزو المسلمين في ديارهم، لم يتردَّد في مواجهة تلك الجيوش، فأمر الناس بالتجهُّز لغزو الروم، وأعلم الناس مقصدهم، لبعد الطريق وشدَّة الحر وقوَّة العدو.. لذلك يسمى بجيش العسرة، وهي آخر غزوات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في أصحابه، حتى قدم تبوك في ثلاثين ألفاً من الناس، والخيل عشرة آلاف. واستعمل على المدينة علياً عليه السلام وقال له: (تقيم أو أقيم) "إنَّه لابدَّ للمدينة منِّي أو منّك"11، "إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك"12.
وهذه هي الغزوة الوحيدة من الغزوات التي لم يشترك فيها عليُّ بن أبي طالب عليه السلام مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان بقاؤه عليه السلام في المدينة أمراً تفرضه مصلحة الإسلام، بعدما ظهر للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم من أمر المنافقين، فإنَّ بقاءهم بالمدينة يشكِّل خطراً على الدعوة.
فأُرجِفَ المنافقون بعلي عليه السلام وقالوا: ما خلَّفه إلّا استثقالاً له! فلمَّا سمع عليٌّ عليه السلام ذلك أخذ سلاحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره ما قال المنافقون، فقال: "كذبوا، وإنَّما خلفتك لما ورائي، أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلّا أنَّه لا نبيَّ بعدي"13. فقال: "قد رضيت، قد رضيت"14. ثُمَّ رجع إلى المدينة وسار رسول الله بجيشه.
وفي رواية الشيخ المفيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: "ارجع يا أخي إلى مكانك، فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي ودار هجرتي وقومي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي"15.
معركة الجمل
رسم الإمام في سياسته الجديدة خطوط الحكم العريضة، وكان وسامها: "لا فضل لعربيّ على أعجميّ". أثارت هذه السياسة غضب المتمرِّدين على الحكم، وكان منهم ما كان من الخروج عليه، فلمَّا أدرك طلحة والزبير رَفَضَ الإمام أن يجعل لهما ميزة على غيرهما، فلا ينالان إلّا ما ينال المسكين والفقير بعطاء متساوٍ.. سكتا على مضضٍ، وأخذا يعملان للثورة ضدَّه، فانضمَّا إلى الحزب الأُموي، وبدأوا بالتخطيط لشن الحرب على أمير المؤمنين علي عليه السلام، وهكذا كانت شرارة حرب الجمل.
حيث كانت الواقعة خارج البصرة، عند قصر عبيد الله بن زياد.16 وكان عسكر الإمام عليه السلام عشرين ألفاً، والعسكر المقابل ثلاثين ألفاً17.
ولمَّا التقى الجمعان قال الإمام لأصحابه: "لا تبدأوا القوم بقتال، وإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم فلا تتَّبعوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثِّلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا من أموالهم شيئاً.. ولا تهيجوا امرأةً بأذى وإن شتمن أعراضكم، وسَبَبنَ أمراءكم وصلحاءكم"18.
وقيل: إنَّ أوَّل قتيل كان يومئذٍ مسلم الجُهني، أمره عليٌّ عليه السلام فحمل مصحفاً، فطاف به على القوم يدعوهم إلى كتاب الله، فقُتل19.
ثمَّ أخذ أصحاب الجمل يرمون عسكر الإمام بالنبال، حتى قُتل منهم جماعة، فقال أصحاب الإمام: عقرتنا سهامهم، وهذه القتلى بين يديك..
عند ذلك استرجع الإمام وقال: "اللَّهمَّ اشهد"، ثُمَّ لبس درع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقلَّد سيفه ورفع راية رسول الله السوداء المسمَّاة بالعقاب، فدفعها إلى ولده محمَّد ابن الحنفية.
وتقابل الفريقان للقتال، فخرج الزبير، وخرج طلحة بين الصفَّين، فخرج إليهما عليٌّ، حتى اختلفت أعناق دوابِّهم، فقال عليٌّ عليه السلام: "لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتَّقيا الله، ولا تكونا ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثً﴾20، ألم أكن أخاكما في دينكما؟ تُحرِّمان دمي، وأُحرِّم دمكما، فهل من حدثٍ أحلَّ لكما دمي" ؟!
قال طلحة: ألَّبت على عُثمان.
قال عليٌّ: "﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾، يا طلحة، تطلب بدم عُثمان؟! فلعن الله قتلة عُثمان، يا طلحة، أجئت بِعرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقاتل بها، وخبَّأتَ عرسك في البيت؟ أما بايعتني؟!".
قال: بايعتك والسيف على عنقي!
فقال عليٌّ عليه السلام للزبير: "يا زبير، ما أخرجك؟ قد كنَّا نعدُّك من بني عبدالمطَّلب حتى بلغ ابنك ابن السوء21، ففرَّق بيننا" وذكَّره أشياء، فقال: "أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني غنم، فنظر إليَّ، فضحك، وضحكت إليه، فقلتَ له: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك: ليس به زهوٌ، لتقاتلنَّه وأنت ظالم له؟".
قال: اللَّهمَّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أُقاتلك أبداً...
واحتدمت المعركة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالاً لم يشهد تاريخ البصرة أشدَّ منه، ثُمَّ إنَّ مروان بن الحكم رمى طلحة بسهمٍ وهو يقاتل معه ضدَّ عليٍّ عليه السلام! يرميه فيرديه ويقول: لا أطلب بثأري بعد اليوم22.
واستمرَّ الحال في أشدِّ صراعٍ، لم يرَ سوى الغبرة وتناثر الرؤوس والأيدي، فتتهاوى أجساد المسلمين على الأرض.
ولمَّا رأى الإمام هذا الموقف الرهيب من كلا الطرفين، وعلم أنَّ المعركة لا تنتهي أبداً ما دام الجمل واقفاً على قوائمه قال: "ارشقوا الجمل بالنبل، واعقروه والا فنيت العرب، ولا يزال السيف قائماً حتى يهوي هذا البعير إلى الأرض". فقطعوا قوائمه، ثُمَّ ضربوا عجز الجمل بالسيف، فهوى إلى الأرض وعجَّ عجيجاً لم يُسمع بأشدِّ منه. فتفرَّق من كان حوله كالجراد المبثوث. وانتهت المعركة بهزيمة أصحاب الجمل.
ثمَّ أمر عليٌّ عليه السلام نفراً أن يحملوا هودج السيّدة عائشة من بين القتلى، وأمر أخاها محمَّد بن أبي بكر أن يضرب عليها قُبَّةً، وقال: "انظر هل وصل إليها شيء من جراحة"؟ فلمَّا كان الليل أدخلها أخوها محمَّد بن أبي بكر البصرة، في دار صفية بنت الحارث، ثمَّ دخل الإمام عليه السلام البصرة فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة..
ثمَّ جهَّز عليٌّ عليه السلام السيّدة عائشة بكلِّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبعث معها كلَّ من نجا، ممَّن خرج معها، إلّا من أحبَّ المقام، واختار لها أربعين امرأةً من نساء البصرة المعروفات، وسيَّر معها أخاها محمَّد بن أبي بكر23.
* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- ابن سعد في طبقاته، ج 2، ص 114.
2- طبقات ابن سعد، ج 2، ص 114.
3- انظر الكامل في التاريخ، ج 2، ص 136.
4- انظر: طبقات ابن سعد، ج 2، ص 115 - ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 136 - تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 62 - إعلام الورى، ج 1، ص 368.
5- ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 137.
6- طبقات ابن سعد، ج 2، ص 115، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 137.
7- ابن الأثير في تاريخه، ج 2، ص 137.
8- إعلام الورى، ج 1، ص 387، وروى ذلك المفيد في الارشاد، ج 1، ص 144.
9- الكامل في التاريخ، ج 2، ص 139.
10- الطبقات الكبرى، ج 2، ص 125.
11- إعلام الورى، ج 1، ص 243.
12- الارشاد، ج 1، ص 155
13- الكامل في التاريخ، ج 2، ص 150، وانظر الاصابة في تمييز الصحابة، ج 2، ص 507 ترجمة الامام علي، وسير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 229، وأخرجه الترمذي 2999 و3724 وقال: صحيح غريب.وانظر طرق الحديث عن الصحابة في تاريخ ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي، ج 1، ص 306 ـ 390.
14- إعلام الورى، ج 1، ص 244.
15- الارشاد، ج 1، ص 156.
16- سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 254.
17- الكامل في التاريخ، ج 3، ص 241 ـ 242.
18- الكامل في التاريخ، ج 3، ص 242 ـ 243.
19- سير أعلام النبلاء (سيرة الخلفاء الراشدين)، ص 259.
20- سورة النحل، الآية 92.
21- يريد ابنه عبدالله.
22- سير أعلام النبلاء (ترجمة الإمام عليٍّ): 255، وانظر، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 128.
23- م. ن، ج 2، ص 144.