في كل يوم من أيام الدنيا آباء يموتون، وبناتهم يُفجعن بهم، ويبكين في مصابهم، ويحزنَّ لفقدهم إلاَّ أن نسبة الحزن والبكاء وألم المصيبة تختلف باختلاف الآباء والبنات، وباختلاف العلاقات الودية بين الأب وابنته، فهناك العدد الكثير من البنات اللاتي لا نصيب لهن من الآباء إلاّ الأبوة، فلا عطف ولا حنان ولا عطف، فكأنه لا معرفة بينهما ولا صلة.
وهناك آباء يمطرون بناتهم بالعطف والدلال والاحترام والمحافظة على البنت لئلا تنخدش عواطفها. ولئلا يحدث شيء يمس بكرامتها، ويجد الأب من ابنته نفس الشعور المتبادل والاحترام والتقدير، وفي هذه الصورة تكون العلاقات الودية بين الأب وابنته وثيقة جداً، وعلى هذا تكون مصيبة الأب على قلب ابنته أليمة وعميقة.
وقد مر عليك موقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ابنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وسوف يسهل عليك أن تدرك علاقة السيدة فاطمة الزهراء بأبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) ومحبتها إياه لم تكن بدافع الأبوة والنبوة فقط، بل كانت السيدة فاطمة تعتبره أباً عطوفاً، ووالداً رؤوفاً، شفيقاً رحيماً، وفي الوقت نفسه تعتبره رسول الله، وسيد الأنبياء والمرسلين، فهي تحترم أباها كما تحترم المرأة المسلمة العارفة نبيّها، وتعظّمه أقصى أنواع التعظيم، وأعلى درجات التفخيم والتجليل.
والسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أعلم امرأة في الإسلام، وأعرف أنثى بعظمة نبي الإسلام.
وبعد هذه المقدمة يتضح لنا أن مصيبة وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) سلبت عن ابنته البّارة كل قرار واستقرار، وكل هدوء وسكون.
فالزهراء تعرف عِظم المصاب، ومدى تأثير الواقعة في الموجودات كلها.
وهنا تحدثنا فضّة خادمة الزهراء عن الحزن المسيطر على السيدة فاطمة بسبب وفاة أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) قالت:
(ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء، وعظُم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب، والغرباء والأنساب.
ولن تلق إلاّ كل باكٍ وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب والأقرباء والأحباب أشدّ حزناً وأعظم بكاءً وانتحاباً من السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد، فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، وكل يوم كان بكاؤها أكثر من اليوم الذي قبله.
فلما كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبراً، إذ خرجت وصرخت، وضجَّ الناس بالبكاء، فتبادرت النسوة، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين وجوه النساء.
كانت السيدة فاطمة تنادي وتندب أباها قائلة:
وا أبتاه! واصفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه! وا ربيع الأرامل واليتامى!
مَن للقبلة والمصلّى؟
ومَن لابنتك الوالهة الثكلى؟
ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئاً من عبرتها، ومن تواتر دمعتها، حتى دنت من قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المئذنة أغمي عليها، فتبادرت النسوة، فنضحن الماء عليها وعلى صدرها، وجبينها حتى أفاقت، فقامت وهي تقول:
رُفعت قوتي، وخانني جَلَدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي.
يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة.
فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغَّص عيشي، وتكدَّر دهري.
فما أجد - يا أبتاه - بعدك أنيساً لوحشتي، ولا راداً لدمعتي، ولا معيناً لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل.
انقلبت - بعدك - يا أبتاه الأسباب.
وتغلَّقت دوني الأبواب.
فأما الدنيا بعدك قالية، وعليك ما تردّدت أنفاسي باكية.
لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك.
إنّ حــــــزني علـــــــيك حزن جديد وفــــــــؤادي والله صــــــــبّ عنيد
كل يوم يزيد فــــــــيه شجــــــونــي واكتــــــئابي علـــــــــيك ليس يبيد
جلّ خطبي، فبان عـــــــني عــزائي فبكائي فــــــــي كـــــــل وقت جديد
إن قلبٌ علــــــــيك يألـــــــف صبراً أو عــــــــــــزاء فإنــــــــــــه لجليد
ثم نادت:
يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة.
يا أبتاه! لا زلت آسفة عليك إلى التلاق.
يا ابتاه! زال غمضي منذ حقَّ الفراق.
يا أبتاه! مَن للأرامل والمساكين؟
ومَن للأمة إلى يوم الدين؟
يا أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين!
يا أبتاه! أصبحت الناس عنا معرضين!
ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين!
فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟
وأي حزن بعدك لا يتصل؟
وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل؟
وأنت ربيع الدين، ونور النبيين.
فكيف بالجبال لا تمور؟ وللبحار بعدك لا تغور؟
والأرض كيف لم تتزلزل؟
رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل.
ولم تكن الرزية بالقليل.
وطُرِقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.
بكتك - يا أبتاه - الأملاك.
ووقفتِ الأفلاك.
فمنبرك بعدك مستوحش.
ومحرابك خال من مناجاتك.
وقبرك فرِحٌ بمواراتك.
والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.
يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك!!
فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك.
وأُثكل أبو الحسن المؤتمن، أبو ولديك الحسن والحسين وأخوك ووليك، وحبيبك، ومن ربيّته صغيراً وآخيته كبيراً.
وأحلى أحبابك وأصحابك إليك.
من كان منهم سابقاً ومهاجراً وناصراً.
والثكل شاملنا! والبكاء قاتلنا! والأسى لازمنا.
ثم زفرت، وأنَّت أنيناً يخدش القلوب ثم قالت:
قلَّ صبــــــــري وبــان عني عزائي بعـــــــد فـقــــــــــدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين اسكــــــبي الدمع سحاً ويك لا تبخــــــلي بفـــــيض الدماء
يا رســــــــول الإله يا خـــــيرة الله وكهــف الأيـــــــــتام والضـــــــعفاء
قد بكتك الجـــــــبال والوحش جمعاً والطير والأرض بعـــد بكي السماء
وبكاك الحــــــجون والركن والمشـ ـعر - يا سـيدي - مـــــــــع البطحاء
وبكاك المحــــــــراب والـــــــدرس للقرآن في الصبــــح معلناً والمساء
وبكاك الإســــــــلام إذ صار في النا س غريباً مــــن ســــــــائر الغرباء
لو ترى المــــــــنبر الذي كنت تعلو ه علاه الظـــــــــلام بعـــــد الـضياء
يا إلهي عجّــــــــل وفــــاتي سريعاً فقـــــلد عِفْتُ الحـــــــياة يا مــولائي
وأخذت فاطمة الزهراء (عليها السلام) شيئاً من تراب قبر أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعلت تشمّه وهي تقول:
ماذا علـــــى مـــــن شمّ تربة أحمد إن لا يشــــــــمّ مدى الزمان غواليا
قل للمغيّب تحـــــــــت أطباق الثرى إن كنت تســــــمع صرختي وندائيا
صُبَّت عليَّ مصائـــــب لــــــــو أنها صُبَّت علـــى الأيــــــام صرن لياليا
قد كنت ذات حـــــــــمى بظلّ محمد لا أخش مــــن ضيم وكان حمىً ليا
فاليوم أخــــــضع للــــــذليل وأتّقي ضيمي، وأدفــــــع ظالـــمي بردائيا
فإذا بكت قمــــــرية فــــــي لـــيلها شجناً على غصــــــن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحــزن بعــــــدك مؤنسي ولأجعلن الدمـــــــع فــــيك وِشاحيا
وروى زيني دحلان في السيرة النبوية هذه الأبيات لها في رثاء أبيها بعد دفنه (صلى الله عليه وآله):
اغبرَّ آفــــــاق الســــــماء وكوّرت شمـــــــــس النهار وأظلم العصران
والأرض من بعــــــد النــــبي كئيبة أسفةٍ علــــــــيه كثــــــيرة الرجفان
فليبكه شــــرق البــــــــلاد وغربها وليبـــــــكه مــــــضر وكـــل يماني
وليبكه الطـــــــود المعــــــظم جوّه والبـــــــيت ذو الأســــتار والأركان
يا خاتم الرسل المــــــــبارك ضوؤه صلّى علـــــــيك مـــــــــنزّل القرآن
ثم رجعت إلى منزلها، وأخذت بالبكاء والعويل، وكانت (سلام الله عليها) معصبة الرأس، ناحلة الجسم منهدّة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، وتقول لولديها: أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة؟ أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما، فلا يدعكما تمشيان على الأرض، لا أراه يفتح هذا الباب أبداً، ولا يحملكما على عاتقه، كما لم يزل يفعل بكما!!
ولما توفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإن فاطمة (عليها السلام) قالت ذات يوم: إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي (صلى الله عليه وآله) بالأذان. فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال: الله أكبر الله أكبر ذكرت أباها وأيامه، فلم تتمالك من البكاء، فلما بلغ إلى قوله: أشهد أن محمداً رسول الله شهقت فاطمة (عليها السلام) وسقطت لوجهها وغشي عليها، فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الدنيا، وظنوا أنها قد ماتت؟ فقطع أذانه، ولم يتمّه، فأفاقت فاطمة (عليها السلام) وسألته أن يتمّ الأذان فلم يفعل وقال لها: يا سيدة النسوان إني أخشى عليك مما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان. فأعفته عن ذلك(1).
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): غسلت النبي (صلى الله عليه وآله) في قميصه. فكانت فاطمة تقول: أرني القميص. فإذا شمّته غشي عليها. فلما رأيت ذلك غيّبته(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 - العاشر من بحار الأنوار عن من لا يحضره الفقيه.
2 - مقتل الحسين للخوارزمي.