إنّ أهمّ انجاز للإمام العسكري(ع) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي(عج) من الوقوع بأيدي العتاة العابثين الذين كانوا يتربصون به الدوائر منذ عقود قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام(ع) بفضل جهود آبائه السابقين (ع) وتحذيراتهم تنصب أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام(ع)، الى جانب إتمام الحجّة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.
ففي مجال كتمان أمر الإمام المهدي(عج) عن عيون أعدائه أشارت نصوص أهل البيت(ع) الى أنّه ابن سيدة الإماء وأنّه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه. وفي هذه النصوص ثلاثة إرشادات أساسية تحقق هذا الكتمان، أوّلها أنّ اُمّه أمة وهي سيدة الإماء، وقد مهّد الإمام الهادي(ع) لهذه المهمّة باختيار زوجة من سبايا الروم للإمام الحسن العسكري(ع) ولم تكن للزواج أية مراسم ولا أية علامة بل كل ما تحقق قد تحقق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين.
وقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام، فإنّ عمّة الإمام(ع) لم تتعرّف على حمل اُم الإمام المهدي(ع) فضلاً عن غيرها، ومن هنا كانت الولادة في ظروف سرّية جداً وبعد منتصف الليل، وعند طلوع الفجر وهو وقت لا يستيقظ فيه إلاّ الخواصّ من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.
وقد خطّط الإمام العسكري(ع) ليبقى الإمام المهدي(عج) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية ولم يطّلع عليه إلاّ الخواص أو أخصّ الخواص من شيعته.
وأما كيفية إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة.
الخطوة الأُولى: النصوص المبشّرة بولادة المهدي (عج)
لقد جاءت النصوص المبشّرة بولادة المهدي(عج) عن أبيه الإمام الحسن العسكري(ع) تالية لنصوص الإمام الهادي(ع) وبقيّة أئمة أهل البيت(ع) التي ركّزت على أنّه حفيد الهادي(ع) وأنّه ابن الحسن العسكري(ع) وأنّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه، وأنّه الذي يقول الناس عنه أنّه لم يولد بعد، وأنّه الذي يغيب عنهم ويرفع من بين أظهرهم وأنّه الذي ستختلف شيعته الى أن يقوم، وعلى الشيعة أن تلتفّ حول العلماء الذين ينوبون عنه وينتظرون قيامه ودولته ويتمسّكون بأهل البيت(ع) ويظهرون لهم الولاء بالدعاء والزيارة وانه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين.
الخطوة الثانية: الإشهاد على ولادة الإمام المهدي (عج)
لقد قام الإمام الحسن(ع) بالإشهاد على الولادة فضلاً عن إخباره وإقراره بولادته وذلك إتماماً للحجّة بالرغم من حراجة الظروف وضرورة الكتمان التام عن أعين الجواسيس، الذين كانوا يرصدون دار الإمام وجواريه قبل الولادة وبعدها.
إنّ السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد واُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام الحسن العسكري (ع) قد تولّت أمر نرجس اُم الإمام المهدي(عج) في ساعة الولادة.
وصرّحت بمشاهدة الإمام المهدي بعد مولده كما شاهد الإمام حين الولادة بعض النسوة مثل جارية أبي عليّ الخيزراني التي أهداها الى الإمام العسكري(ع) ومارية ونسيم خادمة الإمام العسكري.
الخطوة الثالثة: الإخبار بولادة المهدي (عج)
وتمثّلت هذه الخطوة بإخبار الإمام(ع) شيعته بأنّ المهدي المنتظر(عج) قد وُلد، وحاول نشر هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ.
ولدينا ثمانية عشر حديثاً يتضمّن كلّ منها سعي الإمام(ع) لنشر خبر الولادة بين شيعته وأوليائه.
فمنها الخبر الذي صرّح فيه الإمام الحسن(ع) بعلّتين لوضع بني العباس سيوفهم على أهل البيت (ع) واغتيالهم من دون أن يكونوا قد تصدّوا للثورة العلنية عليهم حيث جاء فيه:
“فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله(ص) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولّد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون”.
وحين قتل الزبيري قال الإمام(ع) في توقيع خرج عنه: «هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنّه يقتلني وليس لي عَقب، فكيف رأى قدرة الله فيه”؟!.
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد أنّه قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن عليّ العسكري(ص)يقول: «الحمدلله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله(ص) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يُظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظُلماً”.
وقد أمر الإمام(ع) بعض وكلائه بأن يعقّوا عن ولده المهدي(عج) ويطعموا شيعته، والعقيقة له إخبار ضمني بولادته(ع). بل جاء التصريح في بعضها بالولادة حيث كتب لبعضهم ما نصّه: «عقّ هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك”.
الخطوة الرابعة:
وتمثّلت في الإشهاد على ولادة الإمام المهدي(عج) ووجوده وحياته.
فعن أبي غانم الخادم أنّه ولد لأبي محمّد ولد فسمّاه محمّداً فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: “هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالإنتظار، فإذا إمتلأت الأرض جوراً وظلماً فملأها قِسطاً وعدلا”.
وعن عمرو الأهوازي أنّ أبا محمّد أراه ابنه وقال: “هذا صاحبكم من بعدي”.
وعن معاوية بن حكيم ومحمّد بن أيّوب بن نوح ومحمّد بن عثمان العمري أنّهم قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ(ع) ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً فقال:
“هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا» قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى مضى أبو محمّد(ع)”.
الخطوة الخامسة:
وتمثّلت في النصوص التي هيّأت أتباع أهل البيت(ع) لاستقبال الوضع الجديد الذي سيحلّ بهم عند غيبة الإمام المهدي(ع) لئلاّ يفاجأوا باُمور لا يعرفون كيفية التعامل معها مثل ما يحصل بعد الغيبة من الحيرة والاختلاف بين الشيعة، وما ينبغي لهم من الصبر والانتظار للفرج والثبات على الإيمان والدعاء للإمام(ع) ولتعجيل فرجه الشريف.