لمّا استتب الأمر للمأمون أخذ الجلاوزة والوشاة يُهوّلون عليه خطر الإمام الرِّضا (عليه السّلام) وهو في المدينة ، ولم يكُنْ الإمام (عليه السّلام) بصدد القيام بثورة ضدّه ؛ لكون تلك الاُمور مرهونة بأوقاتها وأوامرها الإلهيّة ، ولكن مع هذا كلِّه ذكروا له أنّه لا راحة لبالك إلاّ أنْ تأتي بعليِّ بن موسى الرِّضا إلى مدينة خراسان ليكون تحت نظرك وقريب منك ؛ تعلم بشرِّه وخيره .
فاستجاب لهم ، وأُتي بالإمام (عليه السّلام) مع بعض أهل بيته وعياله ، وبعد عناء السّفر الطويل وصل الإمام (عليه السّلام) لمدينة ( مرو ) ، وقد عرض المأمون على الإمام (عليه السّلام) ولاية العهد إلاّ أنَّ الإمام (عليه السّلام) رفضها بأشدّ الرفض ، قائلاً له : (( أتُريدُ أنْ يُقال : إنّ الرِّضا ما كان زاهداً في الدُّنيا ، وإنَّما هي زاهدةٌ فيه ؟! )) .
ولذا عندما عُرضت عليه ولاية العهد قبلها مُكرَهاً ، وهو ما يبيّنه بقوله (عليه السّلام) : (( لا والله ، ما كنتُ راضياً بذلك من تلقاء نفسي أبداً )) . وكذلك قال (عليه السّلام) : (( لقد نهانِي اللهُ أنْ اُلقي نفسي بالتَّهلكة )) . وقبلها بشرطِ أنّه لا يأمر ولا ينهى ، ولا يعزل ولا يُولّي ، ولا يتكلّم بين اثنين في حكومة ، ولا يُغيّر شيئاً ممّا هو قائم على أصله , فأجابه المأمون على ذلك .
ثم إنَّ المأمون جلس مجلساً خاصّاً لخواصِّ أهل دولته من الاُمراء والوزراء ، والحُجّاب والكُتّاب ، وأهل الحلِّ والعقدِ ، وكان ذلك في يوم الخميس لخمس خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومئتين(1) .
وبعد فترة لم يرقَ للمأمون ما صنعه للإمام الرِّضا (عليه السّلام) من ولاية العهد ، وندم على فعلته هذه ، وإنّ حبَّ النّاس ما زال يزداد يوماً بعد يوم للإمام (عليه السّلام) ؛ ممّا دعاه أنْ يُفكر بالقضاء على أبي الحسن الرِّضا (عليه السّلام) ، وبالفعل صمّم على قتل الإمام (عليه السّلام) .
روى الشبلنجي في ( نور الأبصار ) عن هرثمة بن أعين ـ وكان من رجال المأمون ، والقائمين على خدمة الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ـ قال : طلبني سيّدي أبو الحسن الرِّضا (عليه السّلام) في يوم من الأيّام ، وقال لي : (( يا هرثمة ، إنّي مُطلعُكَ على أمرٍ يكونُ سرّاً عندك ، لا تُظهرُهُ لأحدٍ مُدّةَ حياتي ، فإذا أظهرته مُدّةَ حياتي كُنتُ خصماً لك عند الله )) .
فحلفت له أنّي لا أتفوه بما يقوله لي لأحد مدّة حياته .
فقال لي : (( اعلم يا هرثمة أنّه قد دنا رحيلي ولحوقي بآبائي وأجدادي ، وقد بلغ الكتابُ أجلَهُ ، وإنّي اُطعَم عِنباً ورُمّاناً مفتوتاً فأموت ، ويقصد الخليفة أنْ يجعلَ قبري خلف قبر أبيه هارون الرشيد ، وإنّ الله لا يُقدره على ذلك ، وإنّ الأرض تشدُّ عليهم ؛ فلا تُعمل فيها المعاول ، ولا يستطيعونَ حفرها ))(2) .
وهكذا حصل ما أخبر به الإمام الرِّضا (عليه السّلام) ، فما مرّت الأيّام إلاّ وقد فعل الظالمُ فعلته العظيمة بخليفة الله في الأرض ، وإمام الإنس والجنّ معاً ، عليِّ بن موسى الرِّضا (عليه السّلام) .
قال أبو الصّلت الهروي : دعاني سيدي ومولاي الرِّضا (عليه السّلام) ، فلمّا حضرت عنده قال لي : (( يا أبا الصّلت ، غداً يبعثُ عليَّ هذا الفاجرُ فاُدخل عليه ؛ فإنْ أنا خرجتُ مكشوفَ الرَّأسِ كلّمني ، وإنْ أنا خرجتُ وأنا مُغطّى الرأس فلا تُكلّمني )) .
قال الهروي : فلمّا أصبحنا من الغدِ لبس الإمامُ (عليه السّلام) ثيابَهُ ، وجلس في محرابه كأنه ينتظر ، فبينما هو كذلك إذ دخل عليه غلامُ المأمون ، وقال : أجب أمير المؤمنين .
فلبس نعله ورداءه ، وقام يمشي ـ وأنا أتبعه ـ حتى دخل على المأمون ، وبين يديه طبق عنب وأطباق الفاكهة ، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه وبقي بعضه ، فلمّا أبصر الرِّضا (عليه السّلام) وثبَ إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه معه ، ثم ناوله العنقود وقال : يابنَ رسول الله ، ما رأيتُ عِنباً أحسن من هذا ! فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( رُبما كان عنبٌ أحسنَ مِنْ هذا في الجنّةِ )) .
فقال له : كُلْ منه . فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( اعفني من ذلك )) .
فقال : لا بدّ من ذلك ، وما يمنعك منه ؟ لعلّك تتهمنا بشيء ؟
فتناول الإمام (عليه السّلام) العنقودَ وأكل منه ثلاث حبّات ، ثم رمى به وقام ، فقال المأمون : إلى أين ؟ فقال الرِّضا (عليه السّلام) : (( إلى حيثُ وجّهتني إليه )) .
قال أبو الصّلت : وخرج سيدي الرِّضا (عليه السّلام) وهو مُغطّى الرَّأس فلم اُكلّمه حتّى دخل الدار ، وأمر أنْ يُغلقَ الباب فغُلق ، ثم اضطجع على فراشه وراح يتقلّب ويضطرب ، ومكثتُ واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً ، فبينا أنا كذلك إذا بشابٍّ حَسن الوجه ، قطط الشعر ، أشبه النّاس بإمامي الرِّضا (عليه السّلام) ، فبادرت إليه وقلتُ له : منْ أين دخلت والباب مُغلق ؟!
فقال : (( يا أبا الصّلت ، الذي جاء بِي مِنَ المدينةِ إلى طوس هو الذي أدخلني الدَّارَ والبابُ مُغلقٌ )) .
فقلتُ له : مَن أنت ؟
فقال : (( أنا إمامُك الجواد )) .
ثم مضى نحو أبيه ، فدخل وأمرني بالدخول معه ، فلمّا نظر إليه الرِّضا (عليه السّلام) وثب إليه فعانقه ، وضمّه إلى صدره ، وقبّل ما بين عينيه ، وصار يُوصيه بجميع ما أهمّه .
ثم إنّ الإمام الرِّضا (عليه السّلام) مدّد يديه ، وأسبل رجليه ، وغمّض عينيه ، وقضى نحبه صابراً مُحتسباً مسموماً , فالتفت إليّ الجواد (عليه السّلام) وقال : (( يا أبا الصّلت ، قُمْ فائتني بالمُغتسل والماء من الخزانة )) .
فقلت : ما في الخزانة مغتسل ولا ماء !
فقال لي : (( انتهِ لما أمرتُكَ بهِ )) .
فدخلتُ الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء فأخرجته ، وشمّرت ثيابي لأغسله ، فقال لي : (( تنحّ يا أبا الصّلت ؛ فإنَّ مَن يُعينني غيرك )) . فغسّله ثم قال : (( ادخُل الخزانة فأخرج لي السّفطَ الذي فيه كفنُهُ وحنوطُهُ )) .
فدخلت ، فإذا أنا بسفط لم أرهُ في تلك الخزانة قط ، فحملته إليه ، فكفّنه وصلّى عليه ، ثم قال : (( ائتني بالتَّابوت )) .
فقلتُ : أمضِ إلى النجّار حتى يصلح التابوت .
قال : (( قم ، فإنَّ في الخزانة تابوتاً )) .
فدخلتُ الخزانة فوجدتُ تابوتاً لم أرَه قط ، فأتيته به ، فأخذ الرِّضا (عليه السّلام) بعد ما صلّى عليه فوضعه في التابوت ، وصفّ قدميه وصلّى عليه(3) .
فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وسيعلم الذين ظلموا آل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله) أيّ منقلب ينقلبون ، والعاقبةُ للمُتَّقين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بحار الأنوار 49 / 11 .
(2) نور الأبصار / 176 .
(3) عيون أخبار الرِّضا (عليه السّلام) 1 / 273 .