جاء بلال وقد اشتد بالنبي صلى الله عليه وآله المرض عند طلوع الفجر فنادى: الصلاة يرحمكم الله. وروى المفيد في إرشاده، عن أهل البيت عليهم السلام: أنّ النبي... قام مبادراً وهو لا يستطيع النهوض أو يستقل على الأرض من الضعف، فأخذ بيد علي بن أبي طالب، والفضل بن العباس فاعتمد عليهما، ورجلاه تخطّان الأرض من الضعف، فلما دخل المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب، يريد إقامة الصلاة بالمسلمين، فأومأ إليه أن تأخر عنه، فتأخر، وقام مقامه وابتدأ الصلاة وأمّ المسلمين.
ولما انفتل من صلاته رجع إلى منزله، واستدعى أبا بكر وعمر بن الخطاب وجماعة ممن حضروا بالمسجد من المسلمين، وقد أزعجه عدم انضمامهم إلى الجيش على رغم تأكيداته، وهو لا يزال مقيم بالجرف في ضواحي المدينة.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألم آمركم ان تنفذوا إلى جيش1 اسامة؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، فقال: لِمَ تأخرتم عن أمري؟ فقال أبو بكر: إني خرجت ثم رجعت لأجدد بك العهد، وقال عمر: إني لم أخرج لأني لا احب أن أسأل الركب عنك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنفذوا جيش اُسامة: وكرر ذلك ثلاث مرات.
ثم اُغمي عليه من التعب، ومما لحقه من الاذى لتجاهلهم أوامره، ومكث فترة من الزمن مُغمى عليه، فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وابنته فاطمة الزهراء عليها السلام ونساء المؤمنين وجميع من حضر.
التحاق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرفيق الأعلى
بعدما رجع صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة عاوده الضعف واشتدت عليه العلّة، فسُمِعَ يقول: بل الرفيق الأعلى، فعلموا انه اختار لقاء ربّه على هذه الدنيا. وكان علي أمير المؤمنين عليه السلام قد احتضنه حينما رآه يصارع الموت، وهو يناجيه ويلقنه من أسرار الكون وطبيعة الحياة والناس، وأنواع الاحداث والأزمات، حتى فاضت نفسه الزكية وهو على صدره - كما جاء في رواية ابن سعد في طبقاته وغيره.
تجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفنه
يكاد يكون من المتفق عليه والمسلَّم به بين المؤرخين والمحدثين ان علياً عليه السلام مذ أن دبَّ المرض في جسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان منصرفاً هو والهاشميون وبعض المهاجرين والأنصار إلى تمريض النبي، وتجهيزه بعد وفاته واستقبال المعزين والوافدين، ولم يعلم بما كان يجري لإقصائه عن الخلافة، وحتى لو كان يعلم بتلك التدابير والموآمرات التي اتخذها القوم لم يكن ليترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجى في بيته جثةً هامدة وينصرف للمطالبة بحقه في حين ان كل ما تم لم يكن متوقعاً بتلك السرعة الخاطفة.
وقال الشيخ المفيد: فلما أراد أمير المؤمنين تغسيل النبي استدعى الفضل بن العباس وأمره أن يناوله الماء، فلما فرغ من غسله وتحنيطه تقدم وصلى عليه وحده ولم يشرك معه أحداً في الصلاة عليه، والمسلمين في المسجد يخوضون فيمن يؤمهم في الصلاة عليه، وأين يدفن، فخرج اليهم أمير المؤمنين وقال لهم: ان رسول الله إمامنا حياً وميتاً، فليدخل عليه فوج بعد فوج فيصلون عليه بغير إمام وينصرفون، وإن الله لم يقبض نبياً في مكان الا وقد ارتضاه لرمسه فيه، وإني لدافنه في حجرته التي قبض فيها، فلم يعارض أحد في ذلك.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب: انه لما صلى عليه علي وبنو هاشم وخرجوا دخل المهاجرون ثم الأنصار ثم بقية الناس يصلون عليه بدون امام. ولما فرغوا من الصلاة عليه انفذ العباس إلى أبي عبيدة بن الجراح وكان يحفر لأهل مكة ويضرح، وأنفذ إلى زيد بن سهل وكان يحفر لأهل المدينة فقيل له: أحفر لرسول الله، فحفر له لحداً، ودخل أمير المؤمنين والعباس والفضل وأسامة بن زيد ليباشروا دفنه فنادت الأنصار من وراء البيت: يا علي نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله أن يذهب، أدخل منا رجلا يكون لنا به حظ من مواراة رسول الله، فقال: ليدخل أوس بن خولى، وكان بدرياً فاضلا من بني عوف، فلما دخل قال له علي: انزل، ووضع أمير المؤمنين رسول الله على يديه وادلاه في حفرته، فلما وضعه في حفرته، قال له: اخرج، فخرج ونزل علي عليه السلام فكشف عن وجه رسول الله ووضع خده على الأرض ووجهه إلى القبلة، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب ورفع قبره عن وجه الأرض مقدار شبراً واحداً، وقيلأنه قال:
ماذا على من شم تربة احمد أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
وهكذا انتهت سيرة اعظم رجل مما خلق الله تعالى. فإنا لله وإنا إليه راجعون الله اكبر لهذه الرزية، والصلاة والسلام عليه يوم ولد، ويوم بعث رسولا، ويوم بلّغ وجاهد، ويوم التحق بالرفيق الأعلى، ويوم يبعث حياً 2.
1-الجيش الذي إستعدّ بأمر النبي لمواجهة الروم. وكان بقيادة أسامة بن زيد.
2-راجع أعلام الهداية الجزء الأول _ وفاة النبي (ص)