لا شكّ أنّ المدرسة الأولى للإنسان ، هي واقع الاسرة ، فمنها يتعلم الإنسان الدّروس الاولى للفضيلة أو الرذيلة. وإذا ما تناولنا مفهوم التربية بشكله العام : «التكوين والتشريع» ، فإنّ أوّل مدرسةٍ يدخلها الإنسان ، هي رحم الام وصلب الأب ، والّتي تؤتي معطيّاتها بصورةٍ غير مباشرةٍ على الطفل ، وتهيىء الأرضيّة للفضيلة ، أو الرّذيلة في حركته المستقبليّة.
وقد ورد في الأحاديث الإسلاميّة ، تعبيراتٌ لطيفةٌ ودقيقةٌ جدّاً في هذا المجال ، نشير إلى قسم منها :
١ ـ قال عليٌّ عليه السلام : «حُسْنُ الأَخلاق بُرهانُ كَرَمِ الأَعراقِ» (١).
وبناءً عليه فإنّ الاسر الفاضلة ، غالباً ما تقدّم للمجتمع أفراداً متمّيزين على مستوى الأخلاق الحسنة ، وبالعكس فإنّ الأفراد الطالحين ، ينشؤون غالباً من عوائل فاسدة.
٢ ـ ورد في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال :
«عَلَيكُم فِي طَلبِ الحَوائِجِ بأشراف النُّفُوسِ وَذَوي الاصُولِ الطَّيِّبَةِ ، فإِنَّها عِنْدَهُم أَقضى ، وَهِي لَدَيهِم أَزكَى» (٢).
٣ ـ وفي عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر رحمهالله ، ووصاياه له في إختيار الضّباط للجيش الإسلامي ، قال له :
«ثُمَّ الصَقْ بِذَوي المُروُءاتِ والأَحسابِ وَأَهلِ البُيُوتاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوابِقِ الحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجدَةِ وَالشَّجَاعَةِ والسَّخاءِ وَالسَّمَاحَةِ فإِنَّهُم جِماعُ مِنَ الكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ العُرفِ» (٣).
٤ ـ وورد عن الإمام الصادق عليه السلام ، حديث يُبيّن تأثير الآباء الفاسدين على شخصية الأطفالِ وسلوكهم الأخلاقي ، فقال : «أَيَّما إِمرَأَةٍ أَطاعَتْ زَوجَها وَهُوَ شارِبٌ لِلخَمْرِ ، كَانَ لَها مِنَ الخَطايا بِعَدَدِ نُجُومِ السَّماءِ وَكُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ مِنْهُ فَهُوَ نَجِسٌ» (٤).
وقد ورد النّهي الأكيد ، في رواياتٍ اخرى كثيرةٍ عن تزويج الشّارب للخمر ، والسّيء الأخلاق (5).
٥ ـ وقد ورد في الحديث النبوي المشهور ، بالنّسبة إلى تأثير تربية الأب والام على الأولاد ، أنّه قال :
«كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ حتى يَكُونَ أَبواهُ هُمَا اللَّذانِ يُهِوِّدانِهِ وَيُنَصِّرانِهِ» (6).
فالتربية التي تعمل على تغيير إيمان وعقيدة الطّفل ، كيف لا تعمل على تغيير سلوكه الأخلاقي في الدّائرة الإجتماعية؟
٦ ـ وهذا الأمر جعل مسألة التربية الصّالحة ، من أهم حقوق الطّفل على الوالدين ، فنقرأ في الحديث النبوي الشّريف :
«حَقُّ الوَلَدِ عَلى الوَالِدِ أَنْ يُحْسِنَ إسمَهُ وَيُحْسِنَ أَدَبَهُ» (7).
فمن الواضح أنّ مداليل الأسماء ، لها أثرها الأكيد على نفسيّة وروحيّة الطّفل ، فأسماء الشّخصيات الكبيرة من أهل التّقوى والفضيلة ، تجذب الإنسان المُسمّى بأسمائهم إليهم ، وتدعوه للتّقرب إليهم ، وبالعكس ، فإنّ أسماء الفسقة والكفّار ، تقرّب من يتسمى بأسمائهم منهم أيضاً (8).
٧ ـ ونقرأ في النبوي الشريف أيضاً : «ما نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدَهُ أَفضَلَ مِنْ أَدبٍ حَسَنٍ» (9).
٨ ـ وقال الإمام السجّاد عليه السلام ، بتعبيرٍ أوضح :
«وَإِنَّكَ مَسؤولٌ عَمَّا وَلِّيتَهُ بِهِ مِنْ حَسَنِ الأَدبِ وَالدَّلالَةِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالمَعُونَةَ لَهُ عَلَى طَاعَتِهِ» (10).
٩ ـ وقال الإمام علي عليه السلام ، بأنّ أخلاق الأبوين ، هي عبارةٌ عن ميراث الأبناء منهما ،
فيقول عليهالسلام : «خَيرُ ما وَرَّثَ الآباءُ الأَبناءَ الأَدَبَ» (1).
١٠ ـ ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام على عليه السلام ، حيث بيّن الإمام عليه السلام ، شخصيته للجهّال الذين يقيسونه بغيره ، فقال :
«وَقَدْ عَلِمْتُم مَوضِعي مِنْ رَسُولِ اللهِ بِالقَرابَةِ القَريبَةِ وَالمَنزِلَةِ الخَصِيَّةِ ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدرِهِ ... يَرفَعُ لِي كُلَّ يَومٍ عَلَماً مِنْ أَخلاقِهِ وَيَأَمُرُنِي بِالإِقتِداءِ ..».
واللطيف في الأمر ، أنّ الإمام عليهالسلام وفي أثناء حديثه ، بيّن قسماً من أخلاق الرّسول صلىاللهعليه وآله ، فقال :
«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلىاللهعليهوآله مِن لَدُنْ أَن كانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مَنْ مَلائِكَتِهِ يَسلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخلاقِ العالَمِ لَيلَهُ ونَهارَهُ» (12).
وصحيح أنّ الصفات النفسية والأخلاقيّة ، سواء كانت سيئة أم حسنة ، فهي تنبع من باطن الإنسان وإرادته ، ولكن لا يمكن إنكار معطيات البيئة وأجواء المحيط ، في تكوين وترشيد الأخلاق الحسنة والسّيئة ، وكذلك عنصر الوراثة من الوالدين والاسرة بصورة أعم ، وتوجد شواهد عينيّة كثيرة ، وأدلة قطعيّة على ذلك ، ترفع الشّك والترديد في المسألة.
وبناءً على ذلك ، ولأجل بناء مجتمعٍ صالحٍ وأفرادٍ سالمين ، علينا الإهتمام بتربية الطّفل تربيةً سليمةً ، والإنتباه لعوامل الوراثة وأخذها بنظر الإعتبار ، في واقع الحياة الفرديّة والإجتماعيّة.
* الأخلاق في القرآن: ج1 الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
1 ـ غُرر الحِكم.
2 ـ المصدر السابق.
3 ـ نهج البلاغة.
4 ـ لئالي الأخبار.
5 ـ وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٣ و ٥٤.
6 ـ تفسير مجمع البيان ، ذيل الآية ٣٠ من سورة الروم.
7 ـ كنز العمّال ، ٤٥١٩٢.
8 ـ وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٢٢ و ١٣٢.
9 ـ كنز العمّال ، ح ٤٥٤١١.
10 ـ بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٦ (جوامع الحقوق).
11ـ غُرر الحِكم.
12 ـ نهج البلاغة ، الخطبة ١٩٢ ، (الخطبة القاصعة).