تمهيد
عاصر الإمام الرضا عليه السلام خلال فترة إمامته المباركة التي استمرت عشرين سنة عدداً من خلفاء بني العباس وهم هارون الرشيد لمدة عشر سنوات (193 183هـ) ومن بعده ولديه الأمين والمأمون، وسوف نركز في هذا البحث على عهد المأمون العباسي لأنه في عهده تم تسليم ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام .
الإمام في عصر هارون الرشيد
بعد استشهاد الإمام الكاظم عليه السلام سنة 183هـ وتسلم الإمام الرضا عليه السلام الإمامة عانى الكثير من ظلم هارون، ولكن لم يظهر منه أي تصدي علني لمنصب الإمامة، ولم يسجل له أي حضور في المجالس والمحافل العامة.
وذلك لأسباب متعددة منها الوصية التي ركز فيها الإمام الكاظم عليه السلام على أن اظهار ابنه الإمام عليه السلام للإمامة سيكون بعد أربع سنوات من استشهاده أي سنة 178هـ. وذلك لإدراك الإمام الظروف القاسية التي ستمر بها الأمة في ذلك الوقت.
وبالفعل في سنة 187هـ تصدى الإمام لمنصب الإمامة علناً ولذلك قال له "محمد بن سنان" لقد شهرت بهذا الأمر الإمامة وجلست في مكان أبيك بينما سيف هارون يقطر دماً. فقال الإمام عليه السلام :"إن الذي جراني على هذا الفعل قول الرسول صلى الله عليه وآله لو استطاع أبو جهل أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأني لست نبياً" وأنا أقول "لو استطاع هارون أن ينقص شعرة من رأسي فاشهدوا بأني لست إماماً"1.وبالفعل توفي هارون سنة 193هـ. ودفن في مدينة طوس.
الإمام في عصر الأمين
إن شخصية الأمين كما تصفها بعض الكتب كانت شخصية مستهترة، لذلك يقول بعض الكُتّاب "قد كان قبيح السيرة ضعيف الرأي، سفاكاً للدماء يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الأمور على غيره،".وقد احتدم الصراع بين الأمين والمأمون والذي أدى في نهاية المطاف إلى الإطاحة بحكم الأمين وقتله.
وقد استغل الإمام هذه الأوضاع، وصب جهوده على بناء الجماعة الصالحة ونشر المفاهيم الإسلامية الصحيحة في المجتمع الذي عانى الكثير من المجون والفساد والإنحراف الفكري.
الإمام في عصر المأمون
المأمون رجل ذكي، وهذا ما يمكن أن نفهمه من إسناد ولاية العهد للإمام عليه السلام ، وحقاً يجب القول أن سياسة المأمون كانت تتمتع بتجربة وعمق لا نظير له، لكن الطرف الاخر الذي كان في ساحة الصراع كان الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وهو نفسه الذي كان يحول أعمال وخطط المأمون الذكية والممزوجة بالشيطنة إلى أعمال بدون فائدة ولا تأثير لها وإلى حركات صبيانية كما سنرى في الكلام عن ولاية العهد وهناك عدة شواهد على هذه الشيطنة، ففي عصره كان يتم ترويج العلم والمعرفة بحسب الظاهر، وكان العلماء يدعون إلى مركز الخلافة، ويبذل المأمون الهبات والمشجعّات للباحثين وذلك لإعداد الأرضية لانجذابهم نحوه، وعلاوة على هذا فقد حاول جذب الشيعة وأتباع الإمام إليه من خلال القيام ببعض الأعمال، فمثلاً كان يتحدّث عن عدة أمور منها:
- أن علياً عليه السلام أكثر أهلية وأولى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله .
- جعل لعن معاوية وسبه أمراً رسمياً.
- أعاد للعلويين ما غصب من حق السيدة الزهراء عليها السلام في فدك.
وبالنتيجة كان يبذل قصارى جهده لإرضاء الناس حتى يستطيع بسهولة الاستقرار على مركب الخلافة.2
ولاية العهد أهدافها، أسبابها ونتائجها:
بعد مقتل الأمين استلم المأمون الخلافة سنة 198هـ، وأسند ولاية العهد للإمام عليه السلام سنة 201 للهجرة، وكان وراء هذا العمل عدة أهداف منها:
الأهداف
1- التهدئة للأوضاع الداخلية:
بعد استلام المأمون الخلافة بسنة واحدة أي 199هـ، اندلعت ثورات عظيمة وحركات تمرد واسعة قادها العلويون، حيث خرج أبو السرايا السري بن منصور الشيباني بالعراق ومعه محمد بن إبراهيم ابن إسماعيل الحسني، فضرب الدارهم بالكوفة بغير سكة العباسييّن، وسير جيوشه إلى البصرة وقد توزعت الثورة على عدة جبهات:
جبهة البصرة بقيادة العباس بن محمد بن عيسى الجعفري.
وجبهة مكة بقيادة الحسين بن الحسن الأفطس.
وجبهة اليمن بقيادة إبراهيم بن موسى بن جعفر عليه السلام .
وجبهة فارس بقيادة إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السلام .
وجبهة الأهواز بقيادة زيد بن موسى.
وجبهة المدائن بقيادة محمد بن سليمان3.
ولذلك كان الهدف الأول من دعوة الإمام عليه السلام إلى خراسان تحويل ساحة المواجهة العنيفة والملتهبة إلى ساحة مواجهة سياسية هادئة.
2- سلب القداسة والمظلومية عن الثورة:
الشيعة لم يكونوا يعرفون التعب أو الملل في المواجهة ولم تكن ثورتهم لتقف عند حد. وهذه المواجهات كان لها خاصيتين:
الأولى: المظلومية.
الثانية: القداسة4.
المظلومية التي كانت تتمثل بانتزاع الخلافة والاضطهاد والقتل الذي تعرض له أئمة أهل البيت عليهم السلام من عهد مولانا الإمام علي عليه السلام إلى عهد مولانا الرضا عليه السلام وما بعده.
أما القداسة: فهي التي يمثلها الإمام المعصوم من خلال ابتعاده عن أجهزة الحكم وقيادة الناس وفقاً لمنهج الإسلام المحمدي الأصيل.
إن المأمون العباسي حاول من خلال ولاية العهد أن يسلب هذه القداسة والمظلومية اللتان تشكلان عامل النفوذ الثوري في المجتمع الإسلامي.
لأن الإمام عندما يصبح ولي عهد سينضم حسب تصور المأمون إلى أجهزة الحكم وينفذ أوامر الملك في التصرف بالبلاد إذن فهو لم يعد لا مظلوماً ولا مقدساً.
3- إضفاء المشروعية على الخلافة العباسية:
إنَّ بيعة المأمون عليه السلام وقبول الإمام بذلك يعني حصول المأمون على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية وقد صرح هو بذلك " فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا".
لأن هذه البيعة تعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم ولذلك إن حصول المأمون على هذا الاعتراف ومن الإمام عليه السلام خاصة، يعتبر أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم، من قتلهم وتشريدهم، وسلب أموالهم5.
وهناك أهداف كثيرة ذكرت في الكتب للبيعة كأن يكسب المأمون سمعة معنوية وصيتاً بالوقار والتقوى، وأن يتحول الإمام إلى حامي ومرشد للنظام إلى غيرها من الأهداف التي سنذكر بعضها ولكن السؤال المهم ما هي الإجراءات التي قام بها الإمام عليه السلام في سبيل مواجهة هذه الخطوة السياسية الدقيقة؟
ولكن قبل الإجالة عن هذا السؤال لا بد لنا من معرفة الأسباب لقبول هذه البيعة، وإن كان هناك أسباباً متعددة ولكننا نقتصر على أهم سبب في هذا المجال وهو:
الإكراه على البيعة
أول أمر قام به الإمام أنه رفض هذا الطرح، حتى انتشر هذا الرفض في كل مكان حتى أن الفضل بن سهل صرح في جمع من العاملين بهذا الأمر، وبيّن الإمام في كل فرصة أتيحت له أنه مجبر على القيام بهذا الأمر وهذا الأمر يعتبر أيضاً إجراء من قبل الإمام في مواجهة الولاية من قبل المأمون قال الريان بن الصلت: "دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام ، فقلت له: يا ابن رسول اللّه الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدنيا، فقال عليه السلام : قد علم اللّه كراهتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف عليه السلام كان نبياً ورسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه فإلى اللّه المشتكى وهو المستعان"6.
طبعاً هذا لا يعني أن الإمام لأنه هدد بالقتل قبِل بولاية العهد من دون النظر إلى النتائج المترتبة على ذلك. ومن النصوص التي يظهر فيها التهديد للإمام عليه السلام هو قول المأمون له: "إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي عليه السلام وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه ولا بد من قبولك ما أريده منك فإنني لا أجد محيصاً عنه"7.
الإجراءات التي قام بها الإمام متعددة منها:
1 - إعلان التهديد.
وهذا الإجراء تقدم الكلام عنه وقد ساعد أعوان السلطة لعدم تدبيرهم ودرايتهم بالسياسة على نشر هذا الخبر.
2 - عدم التدخل في الشؤون السياسية.
رغم كل التهديدات التي مورست على الإمام عليه السلام قَبِلَ ولاية العهد بشرط الموافقة على عدم تدخله في أي شأن من شؤون الحكومة من حرب أو سلم من عزل أو نصب الخ...
فقد قال عليه السلام عندما هدده المأمون:"فإني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد على أنني لا امر ولا أنهى ولا أفتي ولا أقضي ولا أولّي ولا أعزل ولا أغير شيئاً مما هو قائم فأجابه المأمون إلى ذلك كله"8.إلى غيرها من الأجراءات التي قام بها الإمام الرضا عليه السلام في مواجهة هذه السياسة التي قام بها المأمون التي لا يستوعبها هذا البحث.
نتائج ولاية العهد
يقول السيد القائد قدس سرهم في هذا المجال:" إن السنة التي تسلم فيها الإمام ولاية العهد كانت واحدة من أعظم البركات التاريخية على التشيع حتى أنها نفخت روحاً جديدة في نضال وكفاح العلويين وهذا كان من بركات التدبير الإلهي للإمام الثامن وأسلوبه الحكيم"9.
لذلك سنشير إلى بعض من نتائج ولاية العهد.
1 - اعتراف المأمون بأحقية أهل البيت:
ويكفي للتدليل على هذه الفكرة أن نطلع على بعض الكلمات التي صدرت من الإمام عليه السلام في مراسم التعيين. فعندما طلب المأمون منه أن يخطب أمام الناس فقد خطب موضحاً حقه:"أيها الناس إن لنا عليكم حقاً برسول اللّه صلى الله عليه وآله ولكن علينا حقاً به فإذا أدّيتم إلينا ذلك وجب لكم علينا الحكم والسلام"10.
ثم خطب المأمون فقال: "أيها الناس جاءتكم بيعة علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام واللّه لو قرأت هذه الأسماء على الصمّ البكم لبرئوا بإذن اللّه عزَّ وجلَّ"11.
2- توظيف الإعلام لصالح الإمام عليه السلام وقد تم ذلك خلال عدة خطوات:
أصبح أئمة الجمعة يدعون للإمام الرضا عليه السلام كل جمعة وكل مناسبة.ضربت النقود باسم الإمام الرضا عليه السلام في جميع الأمصار.كثرت الخطب والأشعار المادحة للإمام وأهل البيت عليهم السلام .
حتى أن المأمون نفسه قال:
لا تُقبل التوبة من تائب إلا بحب ابن أبي طالب
أخو رسول اللّه خلف الهدى والأخ فوق الخلّ والصاحب12
3- حرية الإمام في المناظرة:
ويكفي أن نعرف أن مناظرات الإمام كثيرة جداً مع كل المذاهب والأديان حتى لقب عليه السلام ب"غيظ الملحدين".
فقد جمع المأمون للإمام عليه السلام ، الجاثليق وهو رئيس الأساقفة، ورأس الجالوت عالم اليهود، ورؤساء الصابئين، وعظماء الهنود من أبناء المجوس، وأصحاب زرادشت، وعلماء الروم، والمتكلمين، و...
4 - نشر فضائل ومقامات أهل البيت عليه السلام :
فقد نشر الإمام عليه السلام فضائل الإمام علي عليه السلام وكراماته، ويكفي أن نعرف أن نفس المأمون في سنة 211 قد أمر أن ينادي:"برئت الذمة ممن يذكر معاوية بخير، وأن أفضل الخلائق بعد رسول اللّه صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب"13
5- حقن دماء المسلمين:
من مكتسبات هذه الولاية حقن الدماء، فقد أصدر المأمون العفو العام عن قيادة الثورات: كزيد وإبراهيم أخو الإمام عليه السلام، ومحمد بن جعفر.
الخلاصة
عاصر الإمام عدد من خلفاء بني العباس وهم هارون، والأمين، والمأمون.
في عهد المأمون استلم الإمام عليه السلام ولاية العهد.
كان هناك عدة أهداف وراء ولاية العهد منها: التهدئة للأوضاع الداخلية، سلب القداسة والمظلومية عن الثورات، إضفاء المشروعية على الخلافة العباسية.
إن الإمام عليه السلام كان مكره اًعلى البيعة، وعند عرضها عليه وقبوله بها قام بعدة اجراءات منها اعلان التهديد، وعدم تدخله في الشؤون السياسية.
هناك عدة نتائج مترتبة على ولاية العهد منها:
-اعتراف المأمون بأحقية أهل البيت عليهم السلام .
-توظيف الإعلام لصالح الإمام عليه السلام .
-حرية الإمام في المناظرة.
-حقن دماء المسلمين.
*محطات من سيرة اهل البيت، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج8، ص257.
2- راجع: الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام ، التأليف: لجنة التحرير في مؤسسة طريق الحق، ص2423.
3- تاريخ الإسلام، المنظمة العالمية للحوزات، ج3، ص161 160.
4- راجع: الخامئني، السيد علي، الدروس العظيمة من سيرة أهل البيت عليه السلام ، ص 191 190(بتصرف).
5- الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام ،(م. س)، ص 239 238.
6- عيون أخبار الرضا ج2، ص139.
7- المفيد، الإرشاد، ص290.
8-(م.ن)، ص290.
9- الدروس العظيمة من السيرة(م.س)، ص190.
10- الفصول المهمة، ص256 255.
11- عيون أخبار الرضا،(م.س) ج2، ص147.
12- تذكرة الخواص، ص320.
13- تاريخ الخلفاء، ص247.