في ظروف ولادة الإمام المهدي عليه السلام:
تزوج الإمام العسكري عليه السلام أمة مملوكة جلبت بواسطة الفتح الإسلامي وكانت تسمى بأسماء مختلفة من قبل الإمام عليه السلام1.
وقد عاشت تخطيطاً خاصاً في تبديل اسمها بين اونة وأخرى! وذلك لمعرفة العسكري عليه السلام بأنها ستصبح أماً للمهدي عليه السلام وسترى المطاردة والإضطهاد من قبل السلطات وستعيش في السجن مدة من الزمن.
ومن هنا جاء تخطيط الإمام عليه السلام تجاهها إمعاناً في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها، ولأجل أن يلتبس أمرها في ذهن السلطات، إن صاحبة أيٍّ من هذه الأسماء هي المسجونة، وأي منها هي الحامل وأي منها هي الوالدة، حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساء كثيرات ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة.
ولادته:
ولد الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف في يوم النصف من شعبان عام 552 هجرية2 وعاصر من حياة أبيه خمس سنوات، وانصب نشاط أبيه عليه السلام الرئيسي خلال ذلك على أمرين مهمين:
أحدهما: الحذر التام من السلطات الحاكمة.
ثانيهما: تعريف خواص الشيعة بالإمام عليه السلام.
وتولى الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف مسؤولية الإمامة بعد وفاة أبيه عليه السلام وهو ابن خمس سنين سنة 260 هجرية، وصغر سن الإمام ليس ظاهرة غريبة كما هو مبين في بحثنا عن الجواد عليه السلام فالإمامة هبة يمنحها الله تعالى من يشاء من عباده، فيمن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها شأنها في ذلك شأن النبوة، فقد أوتي النبي يحيى عليه السلام الحكم صبياً" وقام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين3.
مسؤولية الإمام العسكري عليه السلام تجاه ولده:
بعد ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف واجه الإمام الأب وظيفتين مزدوجتين تجاه ولده عليه السلام:
1- إثبات وجود المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلامية وتجاه قواعده ومواليه، مع الحذر من السلطة، دون أن يبلغ به الحذر والكتمان إلى إخفائه الكامل، بحيث يؤدي إلى انطماس اسمه وإنكار وجوده، وإقامة الحجة في وجوده على الموالين خاصة، والمسلمين عامة، داحضاً بها المزاعم التي تزعم بعدم وجوده أو أنه ليس للإمام العسكري من ولد.
2- التخطيط لحماية المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من محاولات قتله ومطاردته من قبل السلطات، التي أبدت اهتمامها الشديد والمركز، ومحاولاتها المستميتة للقضاء عليه وتجنيد كل قواها وعيونها من أجله لأن ولادته عليه السلام تعني الحكم على نظامهم بالموت المحتم وفضح مخططاتهم وانحرافهم عن أوامر الإسلام.
ومما زاد في دقة وحرج موقف الإمام العسكري عليه السلام في تحقيقه لهذين الهدفين أو الوظيفتين المزدوجتين تجاه ولده عليه السلام تعرضه لأضواء السلطة ومراقبتهم الدائمة له، وباعتباره القائد الإسلامي لقواعد شعبية واسعة من المسلمين، وتمثيله لجبهة الرفض المعارضة والمناوئة للسلطة الحاكمة انذاك.
ومن هنا كان تخطيط الإمام عليه السلام في اجتياز هذا المأزق بسلام هو ترك الإعلان أو الكشف عن ولادة ابنه عليه السلام وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق "حتى أن الخادم في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً"4.
ومما ساعد الإمام العسكري وأعانه على نجاح خطة إخفاء الولادة احتجابه عن أصحابه ومواليه إلا بواسطة المراسلات، وتعود قواعده ومواليه على فكرة الإحتجاب والإتصال بقيادة الإمام عن طريق نظام الوكلاء وتسلسله الهرمي، وانشغال الدولة وأجهزتها بحركة صاحب الزنج عام 552هـ.
وإلى هنا استطاع العسكري عليه السلام أن يضمن حماية ولده عليه السلام من بطش السلطة وكل من يدور في فلكهم. وكان الإمام عليه السلام يلزم كل من يطلع على أمر ولادة ولده المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بوجوب الكتمان. وقد كتب الإمام العسكري عليه السلام لأحمد بن إسحاق: "وُلِدَ لنا مولود، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً"5.
وكان يؤكد عليه السلام أيضا على حرمة إطلاع أحدٍ على اسمه عليه السلام وكان عثمان بن سعيد العمري يقول لمن يسأل عن اسم الإمام عليه السلام: "إياك أن تبحث عن هذا"6.
وكان الإمام عليه السلام يحتاط كثيراً من التصريح باسمه لأحد ويكتفي بالقول لهم: "هذا صاحبكم" ويقتصر في التصريح باسمه على أقل القليل من أصحابه.
وكان يكفي في علم الإمام هذا القدر من الإطلاع وإن كان الاسم مجهولاً، بل يكفيهم الإيمان بوجود إمامٍ يرجعون إليه في الأحكام والمشاكل، ولا يتوقف ذلك على معرفة اسمه بعد معرفة شخصه وإمكان الإتصال به عن طريق سفرائه.
ولعل أوسع إعلان قام به العسكري عليه السلام بين أصحابه عن ولادة ابنه من بعده، وذلك قبيل وفاته بأيام، وقد كان غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه منهم محمد بن عثمان ومعاوية بن الحكيم ومحمد بن أيوب... يعرض عليهم ابنه عليه السلام ويقول لهم "هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم... وهو القائم الذي تُمد إليه الأعناق بالإنتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً"7.
جعفر بن علي يخبر الدولة:
جعفر هو ابن الإمام علي الهادي عليه السلام تُترجم لنا كتب التاريخ حياته بالشكل الاتي ترعرع وشب على الإنحراف عن تعاليم الإسلام، واتخذ طريق اللهو وشرب الخمر والمجون، وكان والده عليه السلام يأمر أصحابه بالإبتعاد عن جعفر وعدم مخالطته، ويقول فيه "إنه مني بمنزلة نمرود من نوح الذي قال الله عز وجل فيه: "قال نوح: إن ابني من أهلي. قال الله: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح" "8.
ويستفاد من الأخبار أن لجعفر ثلاث نشاطات منحرفة مضادة وقف معارضاً بها الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وهي:
1- ادعاؤه بالإمامة بعد أخيه الإمام العسكري عليه السلام.
2- إنكاره لوجود أي وريث شرعي للإمام العسكري عليه السلام. وادعاؤه باستحقاقه التركة.
3- وعندما احتج الإمام المهدي، أوعز إلى السلطات باحتمال وجوده، مما جعلها تشن حملة اعتقالات ومطاردات وتفتيش واسعة النطاق، انتهت باضطهاد الموجودين من عائلة الإمام عليه السلام ولكن بالتالي خاب أملهم بالعثور على الإمام المهدي عليه السلام.
ومن هنا نرى أن الخليفة المعتمد عندما أخبره جعفر بوجود المهدي واختفائه، أرسل على الفور رجاله وخيله إلى دار الإمام الحسن العسكري عليه السلام لتفتيشه، وبعد التفتيش الدقيق لكل مرافق البيت. لم يجدوا شيئاً، وعند رجوعهم حاولوا نهب وسلب كل ما وقعت عليه أعينهم من متاع الدار، وبينما هم منشغلون بالنهب والسلب، تحين المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف الفرصة ليخرج من الباب وهو ابن ست سنين، فلم يره أحدٌ منهم حتى اختفى9.
وكانوا لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون وأي شخص سوف يجدون، ففكرتهم عن الإمام غامضة، فلم يكن مستبعداً أنهم لم يلتفتوا وهم في نشوة السلب والنهب إلى وجود صبي يخرج من بين أيديهم بكل بساطة وهدوء ودون أن يثير أي اهتمام.
وبعد الإنتهاء، ألقوا القبض على الجارية صقيل أم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وأخذوها للتحقيق إلى الجهات المسؤولة للإستفسار عن الصبي وجمع المعلومات منها، فأنكرته وادعت أنها لم تلد، وأصرت أن لا تبوح بالسر، وأيقنت ولدها محجوباً مصوناً من الإعتداء.
وقد تحملت أم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وسائل القهر والتعذيب بكل إخلاص وصمود وحاولت أن توهم سلطات التحقيق، فتدعي "أن بها حملاً" ويقع كلامها في ذهن الحكام موقعاً محتملاً، ولربما ظنوا في أنفسهم بأن هذا الحمل الذي تدعيه هو المهدي المطلوب، وخصوصاً أن الدولة كانت تنتظر ولادة المهدي من أيام الإمام العسكري، وها قد انتهت حياته ولم تر له ولداً، وحيث أن الدولة لم تتأكد من ولادته فحسبهم الان أن يراقبوا هذه الجارية إلى حين ولادتها ويتدبروا بعد ذلك أمر وليدها ويتخلصوا منه.
وقد أسرعت السلطات إلى وضع الجارية تحت المراقبة الشديدة والمستمرة، وجعلوها بين نساء المعتمد والموفق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب، ولا زالوا يتعاهدون أمرها.. حتى طالت المدة ولم يحصلوا على شيء وبقيت الجارية محتجزة على هذه الحالة أكثر من عامين، حتى انشغلت الدولة بمشاكل وحروب في عدة جبهات أنستهم أمر هذه الجارية وتمكنت بذلك من الخروج منهم بسلام10.
* الحياة السياسية لأئمة أهل البيت عليهم السلام، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- راجع أسماءها في كتاب تاريخ الغيبة للصدر وغيرها من المعلومات المفصلة فقد اعتمدنا في هذا البحث على كثير من ارائه.
2- الإرشاد، ص623 وأعلام الورى، ص293.
3- ن. م، ص753.
4- تاريخ الغيبة، للصدر، نقلاً عن كتاب، ص372، إكمال الدين مخطوط.
5- تاريخ الغيبة، نقلاً عن إكمال الدين مخطوط، ص672.
6- نفس المصدر، ص872.
7- تاريخ الغيبة، للصدر، ص382، عن إكمال الدين.
8- تاريخ سامراء، ج2، ص152، نقلاً عن كتاب مدينة المعاجز.
9- تاريخ سامراء، ج2، ص152، نقلاً عن كتاب مدينة المعاجز.
10- أنظر الكامل، ج6، ص15، وكذلك تاريخ الطبري.