إن المذهب في عرف أهل الإسلام هو المرجع في أحكام الدين، وهذا لا يقتضي أن يكون الصادق (عليه السلام) دون الأئمّة الاثني عشر مذهباً، لأن الشيعة الإماميّة ترى أن كلّ إمامٍ من أولئك الأئمّة من عليّ أمير المؤمنين إلى الغائب المنتظر يجب الأخذ بقوله والعمل برأيه؛ لأن علمهم - كما يرون - علمٌ واحدٌ موروثٌ من الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) لا يختلفون في أخذه ولا يروون عن غيره، وعلمهم سلسلةٌ واحدةٌ يرثه الابن عن أبيه من دون اجتهادٍ فيه ولا تحريفٍ في أخذه ونقله.
بيدَ أن الفرص لم تسنح لواحدٍ منهم في إظهار ما استودعهم الرسول (صلّى اللّه عليه وآله) وإبلاغ ما استحفظهم عليه، كما سنحت للصادق جعفر (عليه السلام) فإن الذي ساعد على بثّه للمعارف ونشره للعلوم الموروثة لهم من سيّد الرسل (صلّى اللّه عليه وآله) اجتماع عدّة أمور:
1 - إن زمن استقلاله بالإمامة قد طال حتّى جاوز الثلاثين عاماً، ولئن كان جدّه زين العابدين وابنه موسى الكاظم وحفيده عليّ الهادي (عليهم السلام) قد شاركوه في طول الزمن، وكانت أيام إمامتهم تجاوزت الثلاثين عاماً أيضاً، فإنّه لم يتّفق لهم ما اتّفق له ممّا يأتي.
2 - إن أيّامه كانت أيامَ علمٍ وفقهٍ، وكلامٍ ومناظرةٍ، وحديثٍ وروايةٍ، وبدعٍ وضلالةٍ، وآراء ومذاهبَ، وهذه فرصةٌ جديرةٌ بأن يبدي العالم فيها علمه، ليقمع بذلك الأضاليل والأباطيل، ويبطل الآراء والأهواء، ويصدع بالحقّ، وينشر الحقيقة.
3 - إنّه مرّت عليه فترةٌ من الرفاهيّة على بني هاشمَ لم تمر على غيره من الأئمّة، فلم يتّفق له على الأكثر ما كان يحول دون آبائه وأبنائه من الجهر بمعارفهم بالتضييق عليهم، ومنع الناس عنهم، ومنعهم عن الناس من ملوك أيّامهم.
ولم يملك من الأئمّة زمام الأمر سوى أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن كانت أيّامه على قصرها بين حربٍ وكفاحٍ، وبين مناهضةٍ للبدع والضلالات، فحملوه على السير في محجّةٍ لا يجد مناصاً من السلوك فيها، على أنّه لم تكن في أيّامه ما كان في عهد الصادق من انتشار العلم بين طبقات الناس، وظهور الأهواء، والآراء، والنحل، والمذاهب.
أمّا الصادق فقد عاصر الدولتين المروانيّة والعباسيّة، ووجد فترةً لا يخشى فيها سطوة ظالمٍ ولا وعيد جبّارٍ، وتلك الفترة امتزجت من أخريات دولة بني مروان وأوليات دولة بني العبّاس، لأن الأمويين وأهل الشام لمّا أجهزوا على الوليد بن يزيد وقتلوه انتقضت عليهم أطراف البلاد، وتضعضعت أركان سلطانهم، وكانت الدعوة لبني هاشم قد انتشرت في جهات البلاد، فكانت تلك الأمور كلّها صوارفَ لبني مروان عمّا عليه الصادق (عليه السلام) من الحياة العلميّة، ولمّا انكفأ بهم الزمن وسالم بني العبّاس اشتغل بنو العبّاس بتطهير الأرض من أميّة، وبتأسيس الدولة الجديدة، وأنت تعلم بما يحتاجه المُلك الغضّ من الزمن لتأسيسه ورسوخه، فكان انصرافهم لبناء المُلك وإحاطته شاغلاً لهم برهةً من الزمن عن شأن الصادق في بثّه العلوم والمعارف، وإن لم يتناسه السفّاح، ولكن لم يجد عنده ما يخشاه، ولمّا جاء دور المنصور وصفا المُلك له ناصب العداء للصادق، فكان يضيّق عليه مرّةً ويتغاضى عنه أخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الإمام الصادق(عليه السلام): الشيخ محمد حسن المظفر، ج 187 – 189.