كفى في امتحان أهل الدين هذا التصارع الدائم بين الدين والدنيا وقلّما ائتلفا في عصرٍ، ولولاه لما كانت التقيّة، ولما كانت تلك الفوادح النازلة بساحة أهل البيت.
ليس الصراع بين أهل البيت وبين أميّة والعبّاس غريباً ما دام أهل البيت مثال الدين، وأولئك مثال الدنيا.
يعلم المروانيّون والعبّاسيّون أن الصادق (عليه السلام) زعيم هذا التصارع ولئن صمت عن مصارعتهم بالحرب فلا يكفيهم أماناً من حربه لهم، ولربما كان الصمت نفسه أداة الصراع أو هو الصراع نفسه، فإن السكوت قد يكون جواباً كما يقولون.
فمن ثمّ تجدهم يوجّهون إليه عوادي المحن كلّ حينٍ، وما كفّهم عن تعاهده بالأذى ذلك الانعزال والانشغال بالعبادة والعلم، فإن هذا الشغل هو سلاح الحرب، لأنّه ظاهرة الدين وبه تتّجه الأنظار إليه، وكلّما ارتفع مقام الصادق قويت شوكة الدين، وإِذا قوي الدين انصرع أهل الدنيا.
ولولا تشاغل الأمويّين بالفتن بينهم لما أبقوا على الصادق (عليه السلام)، كما لم يبقوا على آبائه، أجل كأنّهم تركوا ذلك إلى أبناء عمّه الأقربين، {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}! (الأحزاب: 6).
كانت أيام السفّاح أربع سنين، وهذا الزمن لا يكفي لتطهير الأرض من أُميّة، ولبناء أسّ المُلك وترسيخ دعائمه، فلم يشغله ذلك عن الصادق (عليه السّلام)، فإنّه لم يطمئن بعدُ من أُميّة والروح الموالية لهم، ولم يفرغ من تأسيس ذلك البناء حتّى أرسل على الصادق من المدينة إِلى الحيرة؛ ليفتك به، ولكن كفى بالأجل حارساً.
ولماذا كان الصادق إِحدى شُعب همّه، وهو ابن عمّهم الذي اشتغل بالعبادة والتعليم والإرشاد، والذي أخبرهم بما سيحظون به من المُلك دون بني الحسن، وقد كانوا بأضيقَ من جحر الضب من بني أُميّة، وأقلق من الريشة في مهبّ الريح خوفاً منهم.
ما كان يدفع السفّاح على ذلك العمل الشائن إِلا ذلك الصراع؛ حذراً من أن يتّجه الناس إِلى الصادق (عليه السلام)، ويعرفوا منزلته، والناس إِلى ذلك العهد كانت ترى أن الخلافة مجمع السلطتين الروحيّة والزمنيّة، ولا تراها سلطاناً خالصاً لا علاقة لها بالدين، فلا يصرف الناس عن الصادق أنّه رجل الدين الخالص، بل أن هذا ادعى عند بعض الناس للإمامة، ليكونوا منه في أمانٍ على دنياهم، كما هم في أمانٍ على دينهم.
وبذلك الحذر وقف المنصور بمرصدٍ للصادق (عليه السلام)، فشاهد (عليه السلام) منه ضروب الآلام والمكاره، وما كفّ ولا عفّ عنه حتّى أذاقه السم.
ولا عجب ممّا كان يلاقيه أبو عبد اللّه (عليه السلام) من تلك المكاره، فإنّ محن المرء على قدر ما له من فضيلةٍ وكرامةٍ، وعلى قدر مقامه بين الناس وطموحه إِلى الرتب العالية.
كان بين ولاية المنصور ووفاة الصادق (عليه السلام) اثنتا عشرة سنة لم يجد الصادق فيها راحةً ولا هدوءً على ما بينهما من البُعد الشاسع: الصادق في الحجاز، والمنصور في العراق، وكان يتعاهده بالأذى، كما يتعاهد المحبّ حبيبه بالطرف والتحف.
يقول ابن طاووس أبو القاسم علي (طاب ثراه) في كتاب "مهج الدعوات" في باب دعوات الصادق (عليه السلام): إِن المنصور دعا الصادق سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حجّ المنصور، وبعضها يرسل إليه إِلى الكوفة وبعضها إِلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرّةً إِلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الشيخ محمد حسن المظفر: الإمام الصادق(ع)، ج1، ص 94 ـ 96.