الجهاد الدائم للأئمة عليهم السلام
إنّ هؤلاء العظماء كانوا دومًا في حالة جهاد، جهادٌ روحُه سياسيّة، وذلك لأنّ من يجلس على مسند الحكم، كان يدّعي الدّين، وكان يراعي ظواهر الدّين، حتّى أنّه كان يتقبّل في بعض الأوقات، رأي الإمام الدينيّ، كتلك المسائل عن حياة المأمون، حيث كان يقبل رأي الإمام عليه السلام علنًا، فلم يكن يأبى أبدًا أن يقبل الرأي الفقهيّ أحيانًا. فالشيء الّذي كان يؤدّي إلى وجود مثل هذه المواجهة والمعارضة ضدّ أهل البيت هو أنّ أهل البيت كانوا يعدّون أنفسهم الأئمّة، وكانوا يقولون نحن أئمّةٌ. وفي الأساس، إنّ هذا كان يُعدّ أكبر مواجهةٍ للحكّام، لأنّ الّذي صار حاكمًا، وكان يُعدّ نفسه إمامًا للنّاس، كان يرى الشّواهد والقرائن المطلوبة في الإمام موجودة فيهم عليهم السلام، وليست موجودة فيه، وكان يعتبر هذا الإمام خطراً على حكومته لأنّه ليس إلّا مدّعٍ. وقد كان الحكّام يُحاربون بمثل هذه الرّوحيّة العدائيّة، وكان الأئمّة عليهم السلام يقفون كالطّود الشامخ. من البديهيّ في مثل هذه المواجهة أن يكون للمعارف والأحكام الفقهيّة والأخلاق، الّتي كان الأئمّة يروّجون لها مكانها الطبيعيّ، وكانت تربية المزيد من التلامذة والأتباع، وتوسعة الروابط الشيعية تزداد يوماً بعد يوم.
الإمام الجواد، والجهاد السياسيّ
إنّ الإمام الجواد عليه السلام، وكغيره من المعصومين، هو قدوةٌ وأسوةٌ ونموذجٌ لنا، وإنّ الحياة القصيرة لهذا العبد الصالح لله، انقضت بالجهاد ضدّ الكفر والطّغيان. وقد أضحى في موقع قيادة الأمّة الإسلاميّة في حداثة عمره، وقد جاهد مجاهدةً مركّزة ضدّ العدوّ في هذه السّنوات القصيرة، حيث إنّه كان ما زال في مقتبل عمره، في عمر الـ 25 سنة، عندما لم يعد أعداء الله يتحمّلون وجوده، فقتلوه بالسمّ واستُهشد. ومِثْلُ الأئمّة الأطهار عليهم السلام الّذي أضاف كلّ واحدٍ منهم بجهاده صفحةً على تاريخ الإسلام المليء بالمفاخر، فإنّ هذا الإمام العظيم قد أضاف بعمله إلى الإسلام دعامة مهمّة من الجهاد الشّامل، وقدّم لنا درسًا عظيمًا، وذاك الدّرس العظيم هو أنّه عندما نكون في مواجهة القوى المنافقة والمرائية، يجب أن نسعى جهدنا من أجل أن نستنهض وعي النّاس لمواجهة هذه القوى. فلو أنّ العدوّ يُظهِر عداءه بنحوٍ صريحٍ وعلنيّ، ولا يرائي، فإنّ التّعامل معه أسهل. ولكن عندما يكون العدوّ كالمأمون العبّاسيّ الّذي يتظاهر بالقداسة والدّفاع عن الإسلام، فإنّ التعرّف عليه سيكون صعبًا بالنّسبة للنّاس. كان المتسلّطون، في عصرنا هذا، وفي جميع عصور التاريخ، يسعون دائمًا للتوسّل بالحيلة والرّياء والنّفاق عندما يعجزون عن مواجهة النّاس وجهاً لوجه... وقد بذل الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام والإمام الجواد عليه السلام الهمّة من أجل كشف قناع التزوير والرّياء هذا، عن وجه المأمون، ونجحوا في ذلك.
الإمام الجواد، وبنيان الحرّيّة
إنّ هذا العظيم هو مظهر المقاومة وعلامتها. إنسانٌ عظيمٌ أمضى كلّ عمره القصير في مواجهة ومعارضة السّلطة المزوّرة والمرائيّة للخليفة العبّاسيّ المأمون، ولم يتراجع خطوةً واحدةً، وتحمّل الظروف الصّعبة جميعها وجاهد بكلّ الأساليب الجهاديّة الممكنة، وكان أوّل من أشاد بنيان بحث الحرّية بصورةٍ علنيّة، وكان يُباحث العلماء والدعاة والمدّعين ومختلقي الأعذار في محضر المأمون العبّاسيّ بشأن أدقّ القضايا، ويستدلّ ويثبت أفضليّته وحقّانيّة كلامه. إنّ بحث الحرّيّة هو من تراثنا الإسلاميّ، وقد راج هذا البحث في زمان أئمّة الهدى، وقد تطرّق الإمام الجواد عليه السلام، هذا الإمام الجليل، إليه في زمانه، وتعرّض له بصورةٍ صافية ونقيّة.
الإمام الهادي، وحادثة الطفولة
يوجد حديثٌ حول طفولة الإمام الهادي عليه السلام، عندما أحضر المعتصمُ الإمام الجواد عليه السلام من المدينة إلى بغداد، في العام 218 هجريّة، أي قبل شهادته بسنتين، وبقي الإمام الهادي عليه السلام حينها مع أهله في المدينة، حيث كان له من العمر وقتها ست سنوات، وبعد أن أُحضر الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد، سأل المعتصم عن أسرته وأهله، وعندما سمع أنّ ابنه البكر عليّ بن محمّد، ابن ست سنوات، قال إنّه خطرٌ، ويجب أن نُفكّر بحلٍّ له. وقد أمر المعتصم رجلًا من أقاربه أن يذهب من بغداد إلى المدينة، وأن يجد فيها من هو عدوّ لأهل البيت، فيودع عنده هذا الطفل، ليكون معلّمًا له، ويربّيه ليصبح عدوًّا لأسرته، ومنسجمًا مع الجهاز الحاكم. فجاء هذا الشّخص من بغداد إلى المدينة، واختار أحد علمائها المدعوّ الجنيديّ الّذي كان من أشدّ المخالفين والمعاندين لأهل البيت - وكان في المدينة عددٌ من أمثال هؤلاء العلماء ــ لينهض بهذا العمل، وقال له: إنّني مأمورٌ أن أجعلك مربّيًا ومؤدِّبًا لهذا الطفل، ولا ينبغي أن تسمح لأيّ شخصٍ بالتّواصل معه أو الارتباط به، وأُريدك أن تُربّيه بهذه الطّريقة وبهذا الشكل. وقد سجّل التاريخ اسم هذا الشّخص. وكان الإمام الهادي عليه السلام - كما ذكرت - بعمر ست سنوات في ذلك الوقت، وكان الأمر أمر الحكومة، فمن الّذي يستطيع أن يعترض على مثل هذا الأمر؟!
وبعد مدّةٍ جاء أحد المقرَّبين من الجهاز الحاكم ليطّلع على الجنيديّ، ويسأل عن أحوال ذلك الطفل الّذي أودعه إيّاه، فقال الجنيديّ: أيّ طفلٍ هذا؟ أهذا هو الطفل؟ إنّني أُبيّن له مسألةً في الأدب، فيُبيّن لي أبوابًا من الأدب، حيث أتعلّم منه! فأين درس هذا الطفل وتعلّم؟! وأطلب منه أحيانًا عندما يدخل إلى الحجرة أن يقرأ سورةً من القرآن، وعندما يدخل - وهو يريد أذيّته - يسأل: أيّ سورةٍ أقرأ، فأقول له: اقرأ سورة كبيرة، كسورة آل عمران مثلًا، فيقرأها عليّ، ويبيّن لي مواضع الإشكال في قراءتها. إنّهم علماءُ وحفّاظٌ للقرآن، وعلماء بالتأويل والتفسير، أيّ طفلٍ هذا؟!. وقد استمرّ ارتباط هذا الطّفل ــ الّذي كان في الظّاهر طفلًا، ولكنّه وليّ الله، ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾1 - بهذا الأستاذ لمدّة، إلى أن أصبح هذا الأستاذ من الشّيعة المخلصين لأهل البيت2.
الإمام الهادي عليه السلام، ومواجهته للسلطة
في المواجهة الّتي جرت بين الإمام الهادي عليه السلام وبين حكّام زمانه، فإنّ الّذي انتصر في الظّاهر والباطن هو هذا الإمام عليه السلام. ففي زمن إمامته، حكم ستّةٌ من الخلفاء، واحدًا تلو الآخر، وهلكوا جميعًا، واحدًا تلو الآخر. وكان آخرهم المعتزّ الّذي قتل الإمام عليه السلام، ولم يلبث من بعده إلّا قليلًا. وهؤلاء الخلفاء ماتوا أذلّاء في الغالب، أحدهم قتله ابنه، والآخر على يد ابن أخيه. وبهذه الطّريقة تشتّت العبّاسيّون وانقرضوا، بعكس الشّيعة.
الإمام الهادي، ونشر التشيّع
إنَّ الشّيعة في زمن الإمام الهادي والإمام العسكريّ عليهما السلام، ورغم ما فيه من عنفٍ وقمعٍ، كانوا يزدادون انتشاراً وقوّةً يومًا بعد يوم. لقد عاش الإمام الهادي عليه السلام42 سنة، قضى 20 سنة منها في سامرّاء، حيث كان يعمل ويعيش ويمتلك مزرعةً. وكانت سامرّاء في الواقع بمثابة معسكر بناه المعتصم لغلمانه التّرك المقرّبين له، وهؤلاء التّرك هم غير الأتراك الّذين يعيشون في إيران أو في آذربايجان أو سائر النقاط، والّذين أحضرهم من تركستان وسمرقند، ومن منطقة مانغوليا وآسيا الشرقية، واحتفظ بهم في سامرّاء. وهؤلاء الأتراك، ولحداثة إسلامهم، لم يكونوا يعرفون الأئمّة ولا المؤمنين، ولا يفهمون عن الإسلام شيئًا، لهذا صاروا يُضايقون النّاس، وأوجدوا بينهم وبين العرب - أهالي بغداد - النّزاعات والمشاجرات. وفي مدينة سامرّاء نفسها، اجتمع عددٌ ملحوظٌ من كبراء الشّيعة في زمن الإمام الهادي عليه السلام، وتمكّن الإمام عليه السلام من إدارتهم، وإيصال رسالة الإمامة من خلالهم إلى مختلف مناطق العالم الإسلاميّ. فالرّسائل وهذه الشّبكات الشيعيّة، في قم وخراسان والريّ والمدينة واليمن، وفي المناطق البعيدة، وفي أقطار العالم جميعها، هي الّتي استطاعت أن تروّج وتنشر وتزيد من المؤمنين في هذا المذهب، يوماً بعد يوم. وقد استطاع الإمام الهادي عليه السلام أن يقوم بكلّ هذه الأعمال، تحت ظلّ بريق السّيوف الحادّة والدمويّة لأولئك الخلفاء الستّة، ورغمًا عن أنوفهم.
ويوجد حديثٌ معروفٌ حول وفاة الإمام الهادي عليه السلام، يُعلم من عباراته تواجد جمعٍ ملحوظٍ من الشّيعة في سامرّاء، لم يكن الجهاز الحاكم يعرف عنهم شيئًا، لأنّه لو كان يعلم بهم، لكان قضى عليهم عن بكرة أبيهم، لكنّ هذه الجماعة، ولأنّها استطاعت أن توجد شبكة قويّة، فإنّ الجهاز الحاكم لم يتمكّن من الوصول إليها.
المواجهة بين الإمام العسكريّ والمتوكل
حدثت تلك المواجهة عندما أمر المتوكّل أن يُحضر الإمام عليه السلام إلى مجلسه، الّذي هو مجلس خمرٍ وسكرٍ، لكي ينتشر الخبر في كلّ مكان، أنّ عليَّ بن محمد كان نديمًا للمتوكّل، وقد جالسه في مجلس الخمر واللهو! فانظروا أنتم أيّ تأثيرٍ تركه هذا الخبر. لقد نظر الإمام عليه السلام إلى القضيّة من زاوية الإنسان المجاهد، ووقف مقابل هذه المؤامرة، فذهب الإمام عليه السلام إلى بلاط المتوكّل، واستطاع أن يُبدّل مجلس سكره إلى مجلسٍ عابقٍ بالمعنويّات. فبذكر الحقائق وإنشاد تلك الأشعار الشامتة، هزم المتوكّل، بحيث إنّ هذا المتوكّل، وبمجرّد أن انتهى الإمام من كلماته، نهض من مكانه، وأحضر للإمام الغالية (عطر مركّب من المسك والعنبر)، وشيّعه بكلّ أدبٍ واحترام، فقال له الإمام: هل تتصوّر أنّك إذا جلست هنا فإنّك ستهرب من قبضة الموت؟! وهكذا بيّن للمتوكّل كلّ ما يجري عند الموت، وما بعده، حتّى أكل الديدان له. فاستطاع الإمام أن يُبدّل المجلس تبديلًا تامًّا، ويقلبه رأسًا على عقب، وأن يخرج من البلاط3.
باتوا على قللِ الأجبال تحرسُهم
واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم
ناداهمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا
أيـن الوجوه الّتي كانتْ منعّمةً
فـأفـصـحَ القبرُ حين ساءلهم
قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا
أضـحـت منازلُهم قفراً معطّلةً
سـل الـخـليفةَ إذ وافت منيتهُ
وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا
غُـلْب الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ
وأودعوا حفراً يـابئس ما نزلوا
أين الأسرّةُ والتيجانُ والحللُ
من دونها تُضربُ الأستارُ والكللُ
تـلك الوجوه عليها الدودُ يقتتلُ
وطالما عمّروا دوراً لتُحصنهم
فأصبحوا بعد طول الأكلِ قد أُكلوا
ففارقوا الدورَ والأهلينَ وارتحلوا
فـخلّفوها على الأعداء وانتقلوا
أين الحماة وأين الخيلُ والخولُ
هذه المواجهة الّتي ابتدأها الخليفة المتسلّط والمتعجرف، في قبال شابٍّ لا دفاع له، ويبدو في الظاهر هو الأضعف، قد تحوّلت إلى حربٍ نفسيّة لم يكن فيها الحربة والسيف. فلو كنّا نحن هناك، لما استطعنا أن نفعل ما فعله الإمام عليه السلام. إنّ الإمام عليه السلام هو الّذي استطاع أن يُشخّص هذه الوضعيّة، ويتحدّث بطريقة لا تُغضب الخليفة. كان من الممكن مثلًا أن ينتفض الإمام عليه السلام فجأةً، ويرمي بكلّ كؤوس الشّراب أرضًا، ولكن لم يكن هذا ليكون ردّة فعلٍ جيّدة، وما كان ليؤتي ثماره، لكنّ الإمام عليه السلام تصرّف بطريقةٍ أخرى. وهذا البعد في القضيّة مهمٌّ جداً.
ثمار جهاد الأئمّة عليهم السلام
1- حفظ الدين الإسلاميّ:
إنّ يومًا من جهاد هؤلاء العظماء - الأئمّة عليهم السلام - يؤثّر بمقدار سنوات. ويومٌ واحدٌ من حياتهم المباركة يساوي سنواتٍ من حياة جماعةٍ تعمل ليل نهار على مستوى التّأثير في المجتمع. هؤلاء العظماء قد حفظوا الدّين بهذه الطّريقة، وإلّا فإنّ دينًا يقع على رأسه المعتزّ والمتوكّل والمعتصم والمأمون، ويكون علماؤه رجالٌ كيحيى بن أكثم - الذي رغم أنّه كان عالم البلاط، فقد كان من الفسّاق والفجّار المتجاهرين من الدّرجة الأولى - لا ينبغي أساسًا أن يبقى، ولكان ينبغي، والحال هذا، أن يُجتثّ من جذوره، وينتهي كلّ شيء. فجهاد الأئمّة عليهم السلام وسعيهم لم يحفظ التشيّع فحسب، بل القرآن والإسلام والمعارف الدينيّة، وهذه هي خاصّية العباد الخالصين والمخلصين، وأولياء الله. فلو لم يكن للإسلام أمثال هؤلاء من أولي العزم، لما استطاع أن يعود غضًّا طريًّا ويوجِد هذه الصّحوة الإسلاميّة بعد 1230 سنة، بل كان ينبغي أن يزول شيئًا فشيئًا. فلو لم يكن للإسلام هؤلاء الّذين جذّروا هذه المعارف العظيمة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الأذهان على مرّ التاريخ الإنسانيّ والإسلامي، لكان ينبغي أن يزول من الوجود، وينتهي كلّ شيء، ولا يبقى منه أيّ شيء. ولو بقي، فلم يكن ليبقى من معارفه شيءٌ، كالمسيحية واليهودية، اللتين لم يبقَ من معارفهم الأساس أيّ شيءٍ تقريبًا. فأن يبقى القرآن سالمًا، والحديث النبويّ، وكلّ هذه الأحكام والمعارف الإسلاميّة، وذلك بعد أكثر من 1000 سنة، وأن تتمكّن من أن تبرز في قمّة المعارف الإنسانيّة، ليس بالأمر الطبيعيّ، بل كان هناك عملٌ غير طبيعيّ يؤدَّى من خلال الجهاد. وبالتأكيد، كان على طريق هذا العمل الكبير الضربُ والسجن والقتل، وكلّ هذه لم تكن بالنسبة لهؤلاء العظماء شيئًا.
2- اتّساع دائرة التشيّع:
لا يوجد أيّ زمانٍ شهدت فيه روابط الشّيعة وانتشار تشكيلاتهم في أرجاء العالم الإسلاميّ كلّه ما شهدته في زمن حضرة الإمام الجواد والإمام الهاديّ والإمام العسكريّ عليهم السلام. فوجود الوكلاء والنوّاب وتلك القصص الّتي تُنقل عن الإمام الهادي عليه السلام والإمام العسكريّ عليه السلام ـ مثلًا عندما كان يُحضر له المال، والإمام يُحدّد ماذا ينبغي أن يُفعل به - دليلٌ على هذا الأمر، أي أنّه بالرغم من الإقامة الجبريّة لهذين الإمامين الجليلين في سامرّاء، وقبلهما الإمام الجواد عليه السلام بنحوٍ ما، فإنّ الارتباط والتواصل مع النّاس كان يتّسع على هذه الشاكلة.
فلو اطّلعنا على حالات هؤلاء الأئمّة الثّلاثة في المناقب4 وغيرها، لوجدنا أنّ شبكة العلاقات الشيعيّة في زمان هؤلاء الثلاثة كانت أكثر وأوسع منها في زمن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام.
فكانت تُرسَل إليهم الكتب والرّسائل من أقصى نقاط العالم، وكذلك الأموال والمسائل، في حين أنّهم كانوا يعيشون ضمن نطاقٍ ضيّق.
وقد أضحى الإمام الهادي عليه السلام في سامرّاء محبوبًا من قِبَل النّاس، وكان الجميع يحترمونه، ولم يكن يتعرّض لأيّ إهانة.
استطاع الإمام الهادي والإمام العسكريّ عليهما السلام في مدينة سامرّاء تلك، الّتي كانت في الواقع بمثابة معسكر كبير ـ لم تكن في ذلك الكبر، بل عاصمةٌ حديثة البناء سرورٌ لكلّ من رأى (سُرَّ مَن رأى)، حيث يجتمع فيها الرؤساء والأعيان ورجال الحكومة وبعض النّاس العاديين الّذين يؤمّنون الحوائج اليوميّة ـ لقد استطاعا أن يُنظّما كلّ هذه الروابط بين أقطار العالم الإسلاميّ جميعها. فعندما ننظر إلى أبعاد حياة الأئمّة، نفهم ماذا كانوا يفعلون. لهذا، لم تنحصر القضيّة في تلك الفتاوى الّتي كانوا يُجيبون بها على أسئلة النّاس حول الصّلاة والصّوم والطّهارة والنّجاسة، بل كانوا ينطلقون من موقعيّة الإمام بذلك المعنى الإسلاميّ الخاصّ، ويتحدّثون وفقه مع النّاس. وبرأيي، يمكن الالتفات إلى هذا البعد، إلى جانب غيره من الأبعاد. أنتم ترون أنّهم عندما أحضروا الإمام الهادي عليه السلام من المدينة إلى سامرّاء، وقتلوه في سنّ الشباب عن عمرٍ يناهز 42 سنة، أو عندما يقتلون الإمام العسكريّ في سنّ الـ 28 سنة، فكلّ ذلك دليلٌ على هذه الحركة العظيمة للأئمّة والشّيعة وأصحابهم الكبار عبر التاريخ. ومع أنّ جهاز الحكم كان نظامًا بوليسيًّا، ويعمل بشدّة، فقد استطاع الأئمّة في مثل هذا الوضع أن يُحقّقوا مثل هذه النجاحات.
المظلومية والنصر في حياة الأئمة
إنّ ما يُقال من أنّ هؤلاء العظماء كانوا في غربةٍ تامّة، هو هكذا في الواقع، فقد كانوا بعيدين عن المدينة، وبعيدين عن أهلهم، وبعيدين عن بيئتهم الّتي ألِفوها. ولكن إلى جانب ذلك، يوجد بشأن هؤلاء الأئمّة الثلاثة - من الإمام الجواد وإلى الإمام العسكريّ - نقطة أخرى، وهي أنّه كلّما اتّجهنا إلى نهاية إمامة الإمام العسكريّ عليه السلام، فإنّ هذه الغربة تزداد. إنّ دائرة نفوذ الأئمّة وسعة دائرة الشّيعة في زمان هؤلاء الأئمّة الثلاثة إذا ما قورنت بزمان الإمام الصادق والإمام الباقر عليهما السلام، نجد أنّها ازدادت عشرة أضعاف عمّا كانت عليه، وهذا شيءٌ عجيب. ولعلّ السّبب في أنّهم قد وُضعوا تحت هذه الضّغوط والتّضييق. مقصودنا أنّه ينبغي مشاهدة هذه العزّة والعظمة إلى جانب تلك الغربة.
إنّ أئمّتنا، وطيلة الـ 250 سنة للإمامة ـ أي منذ رحيل نبيّ الإسلام المكرّم صلى الله عليه وآله وسلم وإلى زمن وفاة الإمام العسكريّ ـ قد لاقوا الكثير من التّعذيب والقتل والظّلم، وحريٌّ بنا أن نبكيهم. إنّ مظلوميّتهم تستحضر القلوب والعواطف، لكنّ هؤلاء المظلومين قد انتصروا، سواءٌ في مقطعٍ من الزمّان أو في كلّ هذا الزّمان وطوله.
* تاريخ النبي وأهل البيت عليهم السلام، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة مريم، الآية 12.2- كلستان سعدي.
3- راجع: العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص211.
4- ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 4، ص 447 - 337.