قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه (صلّى الله عليه وآله)، نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً، ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ، وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ، ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا، يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا، أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَه كَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللَّه صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ، وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ".
لقد وضع الله عز وجل على هذه الأمة الجهاد، وجعله زينة وفخرا، وجعله بابا لخاصة الأولياء، ومن أهم ما يتميز به أهل الجهاد صِدْقهم في المواطن، فلا تتبدل النيات مهما اشتدت الفتن ومهما كثر الأعداء.
والصدق يرقى ليكون قيمة بحد ذاته سواء كتب للصادقين النصر أو كتبت لهم الشهادة، ولذا عندما يتعرض الإمام لشعب الجهاد يقول:"والْجِهَادُ عَلَى أَرْبَعِ شُعَبٍ: عَلَى الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ والصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِنِ وشَنَآنِ الْفَاسِقِينَ، فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظَهْرَ الْمُؤْمِنِ، ومَنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أَنْفَ الْمُنَافِقِ وأَمِنَ كَيْدَه، ومَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ قَضَى الَّذِي عَلَيْه".
والصدق التام هو الذي يكون شاملا لكل من يكون له سهمه في صنع النصر، فالنية الصادقة المخلصة في التوجه إلى الله عز وجل، والقضية الصادقة المتمثلة بأنها الحق، والقيادة الصادقة التي تفي بما تلتزم به من نصرة الحق، والطاعة الصادقة من الأنصار والموالين إذا اجتمعت أنتجت نصرا إلهيا مظفرا، وكتب لها التوفيق في أن تكون النموذج الصالح الذي يقتدي به الآخرون.
أما النية الصادقة فيقول عنها أمير المؤمنين مخاطبا أصحابه:"انْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ، ولْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ".
والقضية الصادقة هي التي تعتمد على الحق ولا تعطي بالا لمن يكون عدوها، يقول الإمام (عليه السلام) مخاطبا أصحابه في صفين:"وقَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، ولَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ والصَّبْرِ، والْعِلْمِ بِمَوَاضِعِ الْحَقِّ، فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِه وقِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْه".
والقيادة الصادقة هي التي تتبع الحق مع امتلاكها المعرفة والعلم، يقول الإمام (عليه السلام) لأصحابه:"واعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ ومَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ".
وأما الطاعة الصادقة فهي أعظم ما يملكه المجاهدون أصحاب العزم والهمم، الذين لا يبالون بما يقول الناس لأن ثقتهم بقائدهم لا تنال، يقول (عليه السلام):"وجَاهِدْ فِي اللَّه حَقَّ جِهَادِه، ولَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّه لَوْمَةُ لَائِمٍ، وخُضِ الْغَمَرَاتِ لِلْحَقِّ حَيْثُ كَانَ".
وهم أهل الثبات الذين لا يتراجعون أبدا، يقول الإمام (عليه السلام):"فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ، وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ والله مَعَكُمْ ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ".
وهم أهل تحمل المتاعب والشدائد الذين ينظرون إلى الله عز وجل في كل ما يجري عليهم، يقول الإمام (عليه السلام) في وصفه لهم:"وطَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ ، فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّه صَادِقِينَ".
ونختم الحديث بدعاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما كان يلقى عدوا محاربا يقول:"اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ ومُدَّتِ الأَعْنَاقُ، وشَخَصَتِ الأَبْصَارُ ونُقِلَتِ الأَقْدَامُ وأُنْضِيَتِ الأَبْدَانُ، اللَّهُمَّ قَدْ صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ، وجَاشَتْ مَرَاجِلُ الأَضْغَانِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنَا، وكَثْرَةَ عَدُوِّنَا وتَشَتُّتَ أَهْوَائِنَا (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ*وأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ)".