في تلك الليلة.. كان سلام الله عليه يتفقّد النائمين في المسجد ويقول للنائم: الصلاة يرحمك الله الصلاة، قم إلى الصلاة المكتوبة عليك، ثم يتلو (عليه السلام): {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } (العنكبوت: 45) ففعل ذلك كما كان يفعله على مجاري عادته مع النائمين في المسجد، حتى إذا بلغ إلى الملعون ابن ملجم فرآه نائماً على وجهه قال له: يا هذا قم من نومك هذا؛ فإنها نومةٌ يمقتها الله، وهي نومة الشيطان ونومة أهل النار، بل نم على يمينك فإنّها نومة العلماء أو على يسارك فإنها نومة الحكماء، ولا تنم على ظهرك فإنها نومة الأنبياء.
قال: فتحرّك الملعون كأنه يريد أن يقوم وهو من مكانه لا يبرح، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): لقد هممت بشيءٍ تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك، ثم تركه وعدل عنه إلى محرابه، وقام قائماً يصلي، وكان (عليه السلام) يطيل الركوع والسجود في الصلاة كعادته في الفرائض والنوافل حاضراً قلبه، فلمّا أحسّ به فنهض الملعون مسرعاً وأقبل يمشي حتى وقف بإزاء الأسطوانة التي كان الإمام (عليه السلام) يصلّي عليها، فأمهله حتى صلّى الركعة الأولى وركع وسجد السجدة الأولى منها ورفع رأسه، فعند ذلك أخذ السيف و هزّه، ثم ضربه على رأسه المكرم الشريف، فوقعت الضربة على الضربة التي ضربه عمرو بن عبد ود العامري، ثم أخذت الضربة إلى مفرق رأسه إلى موضع السجود، فلمّا أحسّ الامام بالضرب لم يتأوّه وصبر واحتسب، ووقع على وجهه وليس عنده أحدٌ قائلاً: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، ثم صاح وقال: قتلني ابن ملجم قتلني اللعين ابن اليهوديّة ورب الكعبة، أيها الناس لا يفوتنكم ابن ملجم، وسار السم في رأسه وبدنه، وثار جميع من في المسجد في طلب الملعون، وماجوا بالسلاح، فما كنت أرى إلا صفق الأيدي على الهامات وعلوا الصرخات، وكان ابن ملجم ضربه ضربةَ خائفٍ مرعوبٍ، ثم ولى هارباً وخرج من المسجد، وأحاط الناس بأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في محرابه يشد الضربة ويأخذ التراب ويضعه عليها، ثم تلا قوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: 55).
ثم قال (عليه السلام): جاء أمر الله وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم إنّه لما ضربه الملعون ارتجت الأرض وماجت البحار والسماوات، واصطفقت أبواب الجامع، قال: وضربه اللعين شبيب بن بجرة فأخطأه ووقعت الضربة في الطاق.
قال الراوي: فلما سمع الناس الضجة ثار إليه كل من كان في المسجد، وصاروا يدورون ولا يدرون أين يذهبون من شدة الصدمة والدهشة، ثم أحاطوا بأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يشد رأسه بمئزره، والدم يجري على وجهه ولحيته، وقد خضبت بدمائه وهو يقول: هذا ما وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله.
فلما سمع الحسن والحسين (عليهما السلام) صرخات الناس ناديا: "وا أبتاه وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة، فلما وصلا الجامع ودخلا وجدا أبا جعدة بن هبيرة ومعه جماعةٌ من الناس، وهم يجتهدون أن يقيموا الإمام في المحراب ليصلي بالناس، فلم يطق على النهوض، وتأخّر عن الصف وتقدم الحسن (عليه السلام)، فصلى بالناس وأمير المؤمنين (عليه السلام) يصلي إيماءً من جلوسٍ، وهو يمسح الدم عن وجهه وكريمه الشريف، يميل تارةً ويسكن أخرى، والحسن (عليه السلام) ينادي: وا انقطاع ظهراه يعز والله علي أن أراك هكذا، ففتح عينه وقال: يا بني لا جزع على أبيك بعد اليوم، هذا جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك فاطمة الزهراء والحور العين محدقون منتظرون قدوم أبيك، فطب نفساً، وقر عيناً، وكف عن البكاء، فإن الملائكة قد ارتفعت أصواتهم إلى السماء.
قال: ثم إن الخبر شاع في جوانب الكوفة وانحشر الناس حتى المخدرات خرجن من خدرهن إلى الجامع ينظرن إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فدخل الناس الجامع فوجدوا الحسن ورأس أبيه في حجره، وقد غسل الدم عنه وشد الضربة وهي بعدها تشخب دماً، ووجهه قد زاد بياضاً بصفرةٍ، وهو يرمق السماء بطرفه ولسانه يسبّح الله ويوحّده، وهو يقول: "أسألك يا رب الرفيع الأعلى" فأخذ الحسن (عليه السلام) رأسه في حجره فوجده مغشيّاً عليه. فعندها بكى بكاءً شديداً وجعل يقبّل وجه أبيه وما بين عينيه وموضع سجوده، فسقط من دموعه قطراتٌ على وجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، ففتح عينيه فرآه باكياً، فقال له: يا بني يا حسن ما هذا البكاء؟ ... يا بني أتجزع على أبيك وغدا تقتل بعدي مسموماً مظلوماً؟ ويُقتل أخوك بالسيف هكذا، وتلحقان بجدكما وأبيكما وأمكما، فقال له الحسن (عليه السلام): يا أبتاه ما تعرفنا من قتلك ومن فعل بك هذا؟
قال: قتلني ابن اليهوديّة عبد الرحمن بن ملجم المراديّ، فقال: يا أباه من أي طريقٍ مضى؟ قال: لا يمضي أحدٌ في طلبه، فإنه سيطّلع عليكم من هذا الباب - وأشار بيده الشريفة إلى باب كندة - قال: ولم يزل السم يسري في رأسه وبدنه، ثم أغمي عليه ساعةً، والناس ينتظرون قدوم الملعون من باب كندة، فاشتغل الناس بالنظر إلى الباب، ويرتقبون قدوم الملعون، وقد غصّ المسجد بالعالم ما بين باكٍ ومحزونٍ، فما كان إلا ساعةً وإذا بالصيحة قد ارتفعت وزمرةٌ من الناس وقد جاؤوا بعدو الله ابن ملجم مكتوفاً، وهذا يلعنه وهذا يضربه، قال: فوقع الناس بعضهم على بعض ينظرون إليه، فأقبلوا باللعين مكتوفاً وهذا يلعنه وهذا يضربه، وهم ينهشون لحمه بأسنانهم ويقولون له: يا عدو الله ما فعلت؟ أهلكت أمة محمد وقتلت خير الناس، وإنه لصامتٌ وبين يديه رجلٌ يقال له حذيفة النخعي، بيده سيفٌ مشهورٌ، وهو يرد الناس عن قتله، وهو يقول: هذا قاتل الإمام علي (عليه السلام) حتى أدخلوه المسجد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المجلسي: بحار الأنوار، ج42، ص 280 – 284. (بتصرف).