نصّ الوصيّة
من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب الكوفي أن حكى له وصيّة السيّد المسيح عليه السلام لأصحابه عندما حذّرهم قائلاً: "وإيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه، لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب، وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إنّما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية"1.
مقدّمة
صاحب الموعظة والوصيّة التي سنتشرّف بخدمتها هو روح الله وكلمته التي ألقاها إلى البتول العذراء مريم ابنة عمران عليهما السلام، ورابع أولي العزم من الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم سيّدنا المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام الذي جاء داعياً إلى الله تعالى من لحظة إطلالته على الوجود حين نادى2 أمّه المصطفاة الطاهرة: ﴿مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّ﴾3، وكان عليه السلام يسير في سبيل الدعوة إلى الله سيراً حثيثاً "يتوسّد الحجر ويلبس الخشن ويأكل الجشِبَ، وكان إدامُهُ الجوع، وسِراجُهُ بالليل القَمَر، وظِلالُهُ في الشتاء مشارِقُ الأرضِ ومغارِبُها، وفاكهتُهُ وريْحانُهُ بالليل ما تُنْبِتُ الأرضُ للبهائم، ولم تكن له زوجة ٌ تَفْتِنُهُ، ولا وَلَدٌ يُحْزِنُهُ، ولا مالٌ يَلْفِتُهُ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دابَّتُهُ رجْلاه، وخادمهُ يداه"4.
وأمّا وصيّته المباركة، فكانت للحواريّين الذين قال لهم: ﴿مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ﴾5، أوصاهم بها كي يأخذوا العبرة من مضامينها، ومن ثم ينقلوها إلى سائر الأمم، فيُخاطبوا بها ذوي القلوب الواعية، والنفوس المتطلّعة إلى ما عند الله، في أن يبذلوا جهودهم من أجل تحرير عقولهم، وتطهير نفوسهم، وقد وصلت إلينا هذه الوصيّة المباركة عبر الرجل النجيب عبد الله بن جندب، وهو قد نقلها لنا عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق، وهو الذي إذا أردنا أن نُسلّم عليه أو على أحد من آبائه الطيّبين الطاهرين قلنا السلام عليك يا وارث عيسى روح الله.
إيّاكم والنظرة
لقد زوّد الله تعالى الإنسان بالعين ليعرف طريقه إلى العالم المحيط به، وهي من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الخلائق، ولكن قد يُسيء الإنسان الاستفادة من هذه العين، فيقع في ظلمات كفران النعم، وذلك حين يُصرّ على أن يُبصر بهذه العين ما يُغضب الجبّار جلّ جلاله، فيعصيه بنعمه بدل أن يشكره عليها. وربما يتغافل أو يغيب عنه أنّ الله تعالى يقول وقوله الحق: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً﴾6.
فمن يفتح عينه في الحرام يُعمي الله بصيرته عن الحقّ، لأنّ الجزاء من جنس العمل، ومَن غضّ بصره فتح الله بصيرته، ومن أطلق بصره أغلق الله بصيرته، وطمس على قلبه والعياذ بالله، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾7. نعم إنَّ الله خبير بما يصنعون يرى أعمالهم مهما دقّت وصغُرت، ويعلم حركاتهم وسكناتهم، ومطَّلع عليها لا يغيب عنه شيء منها: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾8.
وقد روي عن حكيم الأمّة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته"9. هذا من كرمت عليه نفسه، وأمّا من هانت عليه نفسه، وكانت بدايته اتباع الهوى، فسوف تكون نهايته الذلّ والبلاء المتبوع بحسب ما أتبَع هواه، ويصير له ذلك عذاباً يُلازم قلبه، وقديماً قد قيل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها*** عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
ومن المأثور من سيرة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ترحّمه على من يُسيطر على شهوته، ويقمع نفسه، فيقول عليه السلام: "فرحم اللّه رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شيء منزعاً، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى"10.
مصحف البصر
إنّنا نتحدّث عن موضوع مهمّ قد ابتُلي به الكثير من الناس، وهو مَدّ العين بالنظر إلى ما حرّم الله تعالى، وقد ارتأينا أن نبدء هذا الفصل الهام بما روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "القلب مصحف البصر"11، وقد سُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن12، وأصبح علماً على القرآن الكريم، فيُقال قرأتُ المصحف ...
وأحد وجوه معنى قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "القلب مصحف البصر" هو: أنّ القلب صحيفة ينتقش فيه ما يُدرك بالبصر، فالإدراك البصري يقع بالقلب والبصر آلية له، فكأنّ البصر قلم يرسم المحسوسات في صحيفة القلب13.
وممّا يجدر الإشارة إليه مطلوب منّا أن نتدبّر المصحف الشريف القرآن الكريم"، وما يحتويه من آيات، وكذلك يتوجّب علينا أن نُراقب ما يرِد عليه من أفكار ومفاهيم في كلّ زمان، فإمّا أن نوافق عليها ونتبنّاها، أو نردّها ونُفندها، فلماذا لا نُكلّف أنفسنا بتدبّر ما احتواه القلب من صور، وبمراقبة ما يرد عليه من أفكار وواردات وصور جديدة، وبالتّالي الرضى بها أو ردّها من حيث أتت. وإنّ أيّ شخص قادر بما آتاه الله تعالى على أن يقوم بمفرده بعمليّات مراقبة وفرز، وتنظيم وتقويم للأفكار الواردة على القلب، وبالتّالي إلغاء موافقات قديمة على استخدام أفكار قلبية14 سابقة، وكلّ ذلك دون أن يُطلع أو يَطلِع أحد على ما يُجريه في داخله، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل، فقد دخل في ديوان المتنبّهين"15.
النظرة تزرع في القلب الشهوة
ممّا تسالم عليه العقلاء في كلّ زمان أنّ النظر الحرام أصل كثير من المصائب التي يقع فيها الناس، وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "عمى البصر خير من كثير النظر"16.
وأنت تعلم أيّها القارئ الكريم أنّ أيّ معصية من اللمم قد يفعلها الإنسان، وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام ليست كذلك، فلا ينتهي أثرها، إذ ليست القضية أنّك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو عندما تنظر الفتاة إلى ذاك الشاب تكتب عليهما سيّئة وينتهي الأمر عند هذا الحد، نعم هي سيّئة تُكتب عليهما وسيُحاسبان عليها، فإنْ شاء الله عفا عنهما بكرمه، أو عاقبهما بعدله لكن هناك ثمّة سؤال يطرح نفسه، وهو: هل تقف القضية عند هذا الحد؟
الجواب لا، فإنّ هذه النظرة يعقبها ما بعدها، فأنت تنظر النظرة ويزول أمامك من قد نظرت إليه، وفيما بعد يبدأ الشيطان بتحريك هذه الصورة في الذهن ويُزيّن صورة المنظور، ويجعله صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعِدهُ ويُمنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوات، ويُلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصّل إليها بدون تلك الصورة، ومن ثم تتدرّج الحالة إلى التفكير الطويل الذي يأسر لُبّ هذا الشاب أو تلك الفتاة، فيوصلهم إلى مرحلة تستولي فيها عليهم الشهوات، فيبحثوا عن سُبل قضائها، فإنْ قضوها فيما حرّم الله، وقعوا في المعصية التي تُغضب الباري سبحانه وتعالى، ووقوعهم في هذه المعصية يُسهّل لهم ما بعدها، ثم بعد ذلك يتدرّج بهم الأمر أكثر من السابق حتى يهويان في وادٍ سحيق، كان بدء السقوط فيه تلك النظرة العابرة التي كانت باباً عريضاً لمعصية الله عزَّ وجلَّ، وأعمت القلب عن الإبصار الحقيقي، ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "العيون طلائع القلوب".
كلّ الحوادث مبداها من النَّظَر***ومعظمُ النار مِن مستصغَر الشَّرَرِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها*** فَتْكَ السهامِ بِلا قوسٍ ولا وَتَر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في*** أعين الغيد موقوف على الخطرِ
يَسُرُّ مقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه لا*** مرحباً بسرور جاء بالضَّرَرِ
كفى بها لصاحبها فتنة
إنّ غلبة الشهوة على عقل الإنسان، وقلبه تجعله يتخبّط في مستنقع آسن يصعب الخروج منه، وقد أطلق الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وصفاً غير محمود على ذلك الإنسان الذي حَمّلَ قلبه دوام الحسرات، وأتعب عقله إلى يوم الممات عندما أذن لتلك الصورة التي التقطتها النظرة الحرام أن تنطبع في عقله وقلبه، وبالتّالي أضحت فكرة - شهوة - تُبنى عليها جملة من الأفكار السلبية، وذلك من اللحظة التي جعلها صاحبها جزءاً من منظومته الفكرية. وقد نَبَّه الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى خطورة هذا الأمر، وذلك فيما روي عنه عليه السلام: "من أطلق ناظره أتعب حاضره، ومن تتابعت لحظاته دامت حسراته"17.
ولأنّ العلاقة بين الشهوة والنظرة علاقة مترابطة متينة لا تنفكّ أبداً كان أخطر شيء على القلب إطلاق العنان للنظر؟! فالنظرة تُكلّم القلب كلماً بليغاً، وأكثر ما تدخل المعاصي على العبد من هذا الباب، وقد روي عن مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه جلّ وعزّ إيماناً يجد حلاوته في قلبه"18، والنكتة في إطلاق لفظ السهم على النظر هي تأثيره في قلب الناظر وإيمانه، كتأثير السهم الخارجي في الغرض، ومن هنا أُطلق عليه زنا العين19.
فيا طرف قد حذّرتك النظرة التي*** خلست فما راقبت نهياً ولا زجراً
ويا قلب قد أرداك طرفي مرة*** فويحك لم طاوعته مرّة أخرى
ومن تأمّل كيف تزرع النظرة في القلب الشهوة، عَرف كيف ستُشغل القلب وتُنسيه مصالحه، فتُفسد الإيمان وتُنسي الآخرة والحساب، فينفرط على صاحب ذلك القلب أمرُه، ويقع في مرديات اتباع الهوى والغفلة، والحسرات، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطً﴾20.
روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "إذا أبصرتْ العين الشهوة عمي القلب عن العاقبة"21، ولا يغيبنّ عنكم قول سيّدنا المسيح عليه السلام: "وإيّاكم والنظرة فإنّها تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة، .."، ونختم هذا الفصل بما رواه الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد لم يره"22.
مضغة الجسد
القلب معدن المعرفة، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾23، وقال عزّت آلاؤه: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾24، والقلب لغة: خالص الشيء وشريفه، قلب الإنسان وغيره، سُمّي به لأنّه أخلص شيء فيه وأرفعه. وخالص كلّ شيء وأشرفه قلبه25.
وجاء في وصيّة النبيّ الأكرم مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم لأبي ذرّ الغفاري رضي الله عنه: "إنّ الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"26، وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "قلوب العباد الطاهرة مواضع نظر الله سبحانه، فمن طهّر قلبه نظر الله إليه"27.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: "اعلم: أنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس الواجب الطاعة عليهم، ألا ترى أنّ جميع جوارح الجسد شرط للقلب وتراجمة له مؤدّية عنه"28.
لأجل ما تقدّم يُمكننا القول إنّ الله تعالى قد جعل مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا لم يتعهّده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإنّ الشهوات سرعان ما تتسرّب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب ويفسد، وإذا فسد صار مهبط الظلم الذي يحدث صاحبه بباطلات يغيب عنها الرشد، وينتفي معها السعد، وقد ورد في الحديث النبويّ المرويّ عن النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدَت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب"29، وقال أمير المؤمنين علي عليه السلام: "أشدّ من مرض البدن مرض القلب، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب"30.
القلب البصير
إذا مُلئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله، ومراد الذين عصمهم الله عليهم السلام صار القلب مهبط الوحي والأسرار والأنوار، وأخبر صاحبه بما وراءه وأمامه، ونبّهه على أمور لم يكن ليعلمها بشيء دونه يعرف ذلك صاحب كل قلب صالح ذكي ألهمه الله صحة الفراسة الناتجة عن استنارة القلب، والتي يصير القلب فيها بمنزلة المرآة المجلوة حيث تظهر فيها المعلومات كما هي، هذا وقد روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح عيني قلبه، فيُشاهد بها ما كان غائباً عنه"31، وقال حفيده الإمام زين العابدين علي بن الحُسين عليهما السلام: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب في أمر آخرته، وإذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه"32.
وهذا ما يُطلق عليه نور عين البصيرة، والذي يتّصل بقضاء الغيب اتصال الشعاع بالزجاجة الصافية حال مقابلتها إلى فيضه، ثم ينصرف نوره منعكساً بضوئه على صفاء القلب، ثم يترقّى ساطعاً إلى عالم العقل فيتّصل به اتصالاً معنوياً له عظيم الأثر في استفاضة نور العقل على ساحة القلب، فيُشرق القلب، وعندها يرى ما خفي عن الأبصار موضعه، ودقّ عن الأفهام تصوّره، واستتر عن الأغيار مرآه، ولا غرابة فإنّ الأمر كما روى مولانا الإمام الصادق عليه السلام عن جدّه أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "وأنّ قلوب المؤمنين مطوية بالإيمان طيّاً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي، فزرع فيها الحكمة زارعها وحاصدها"33، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾34، وقال تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾35.
فطوبى لمن جعل بصره في قلبه، فإنّه من الذين عناهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾36، على عكس من جعل بصره في عينه، فإنّه يُصيب به حلالاً وحراماً، وقد يعوّده على الحرام والعياذ بالله، وعندها تطبع مرآة بصيرة قلبه بتراكم صدأ الغفلة عن الربّ عزّت آلاؤه، فتتوارى وجوه الحقائق عن بواطن الإفهام، ويمتنع عنها آنذاك إنفاذ نور الإلهام، ولمثل هذا والله أعلم قال السيد المسيح عليه السلام: "طوبى لمن جعل بصره في قلبه، ولم يجعل بصره في عينه" هذا كلامه عليه السلامبعين لفظه، فأمعن النظر فيه، وفيما تلوناه عليك من كلام النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام تجده قد صدر من مشكاة واحدة: ﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُزَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾37.
النظر في عيوب الناس
"لا تنظروا في عيوب الناس كالأرباب"، تحذير أطلقه روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم عليها السلام، ومن الملاحظ أنّ السيّد المسيح عليه السلام قد استخدم في هذه الفقرة من وصيّته لفظ "الأرباب"، وكأنّه يريد الذين نزعت أرواحهم إلى دعوى الربوبية بسبب محبّتهم للعلوّ على غيرهم من الخلق، أو أنّه عليه السلام أراد أصحاب العبيد الذين ملكوهم بالاسترقاق أو عبر النخاسة، والله تعالى أعلم بمراد السيّد المسيح عليه السلام، ولكنّنا ذكرنا هذين الاحتمالين لأنّنا نعلم أنّ السيّد المسيح وإخوانه الكرام من أنبياء الله ورسله عليه السلام قد أخبرونا أنّ الله كتب على نفسه الرحمة، وقد روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لمّا رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض: أشرف على رجل على معصية من معاصي الله، فدعا عليه فهلك، ثم أشرف على آخر، فذهب يدعو عليه، فأوحى الله إليه: أن يا إبراهيم إنّك رجل مستجاب الدعوة، فلا تدع على عبادي، فإنّهم منّي على ثلاث: إمّا أن يتوب فأتوب عليه، وإمّا أن أُخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح، وإمّا أن أقبضه إليّ، فإنْ شئتُ عفوتْ، وإن شئتُ عاقبتْ"38.
إنّ الله تعالى قد كتب على نفسه الرحمة للمبتلى والمعافى من خلقه، وهو جلّ شأنه يُمهل ولا يُهمل، على عكس الذين يُراقبون الناس ويحصون عليهم عيوبهم، ويستعلون ويتكبّرون عليهم، ولا يُقيمون وزناً للآخرين، ويُسارعون إلى محاكمتهم ومحاسبتهم، فهؤلاء هم من حذّرنا ونهانا السيّد المسيح عليه السلام أن لا ننظر إلى عيوب الناس كنظرتهم حيث إنّ نظرهم هذا مزلّة قدم لا ينزلق فيها إلا جاهل، وخذ إليك مثالاً ما جرى مع سحرة فرعون، وأمرهم لم يكن غائباً عن سيّدنا المسيح عليه السلام عندما أوصى بهذه الوصيّة، فإنّهم قبل لحظات من مواجهتهم وتحدّيهم لكليم الله موسى عليه السلام كانوا لا همّ لهم إلا المال: ﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾39، فماذا يقول من يتسرّع في الحكم عليهم؟ سيقول هؤلاء كذا وكذا، وينعتهم بأبشع الأوصاف، ويصدر عليهم أقسى الأحكام، والحقّ أنّهم ما إنْ عرفوا الحقّ حتى وقعوا سجّداً، وهم يقولون: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى﴾40، فتأمّل قولهم لما تهدّدهم وتوعّدهم فرعون قائلاً: ﴿فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾41، ردّ عليه هؤلاء الأولياء بقولهم: ﴿لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾42.
الناس مبتلى ومعافى
ثم وجّهنا السيّد المسيح عليه السلام قائلاً: "وانظروا في عيوبهم كهيئة العبيد، إنّما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا المبتلى، واحمدوا الله على العافية"، والنظر في عيوب الناس كهيئة العبيد يوجب الستر عليهم، ورحمتهم، والاستفادة من هذا النظر بأخذ العبرة ممّا ابتلوا به، فبعد أنْ نحمد الله تعالى على أنْ عافانا ممّا ابتلى به غيرنا، يجب علينا أن نسعى لإصلاح عيوب أنفسنا، وقد رُوي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "طوبى لمَن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين"43، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك"44، أي: ليمنعك عن أذى الناس والنظر في عيوبهم. ما تعلمه من نقصك في حقّ نفسك، وأنّك في حاجة إلى إصلاحها، فعليك أنْ تشتغل بهذا عن النظر إلى عيوب الناس، وقد أجاد القائل:
إذا شئتَ أن تحيا ودينك سالم*** وحظُّك موفور وعرضك صَيِّنُ
لسانك لا تذكُرْ به عورة امرئ*** فكلُّك عورات وللناس ألسُنُ
وعينك إن أبدتْ إليك مساوئاً*** فصُنْها وقل يا عينُ للناس أعينُ
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.
1- الفقيه المُحدث أبن شعبة الحراني، تحف العقول، ص305، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
2- يقول أكثر المفسِّرين إنّ الذي ناداها من تحتها هو عيسى المسيح أو جبريل عليهما السلام، وعلّل بعضهم هذا القول بأن الفاعل مستتر، وقال آخرون إنّ الذي نادها هو جبرائيل عليه السلام لأنّ العذراء عليه السلام لحظة ولادتها كانت أعلى الأكمة، وجبريل عليه السلام كان تحتها أسفل الأكمة، ولكن من تأمّل الآيات الواردة في هذا الشأن العظيم يعلم أنّ كلام جبريل قد خُتم بما نقله الله تعالى عنه: ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّ﴾، وجاء بعده قول الله سبحانه: ﴿فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّ﴾ ومن استنطق سياق الآيات التي أتت بعد هذه الآية المباركة، وأعاد الضمائر إلى الآية السالفة الذكر يجزم أنّ الذي نادى البتول العذراء من تحتها هو ولدها العظيم عيسى المسيح عليه السلام.
3- سورة مريم، الآية 24.
4- من كلام مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، يراجع شرح نهج البلاغة، ج9، ص229، ومن خطبة له عليه السلام رقم 161.
5- سورة الصف، الآية 14.
6- سورة الإسراء، الآية 36.
7- سورة النور، الآية 30.
8- سورة الحديد، الآية 4.
9- عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص637، طبعة: دار الكتاب الإسلامي، قم، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج20، ص99، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص13.
10- ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج10، ص16.
11- م.ن، الحكمة 409، الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الحكم، ج1، ص273، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص328 .
12- الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، العين، ج2، ص120، طبعة دار ومكتبة الهلال.
13- حبيب الله الهاشمي الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج21، ص489، طبعة المكتبة الإسلامية، طهران.
14- قال مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء.." يراجع محمد بن علي أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص200، الطبعة 1: دار الذخائر، قم.
15- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص68 .
16- الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص464، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج74، ص284.
17- محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص93، الفصل الحادي والخمسون في النظر.
18- محمد بن محمد الشعيري، جامع الأخبار، ص145، الفصل السابع والمائة، والحاكم في المستدرك، ج4، ص249.
19- السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، ج1، ص214، المطبعة الحيدرية، النجف.
20- سورة الكهف، الآية 28.
21- الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص285.
22- الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان، الإختصاص، ص233.
23- سورة ق، الآية 37.
24- سورة الحج، الآية 32.
25- أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج5، ص 17، طبعة دار الفكر 1979 م.
26- الشيخ الطوسي أعلى الله مقامه، الأمالي، ص 536، الطبعة 1: دار الثقافة، قم.
27- الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 501، طبعة دار الكتاب الإسلامي، قم.
28- الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه، علل الشرائع، ج1، ص109، باب علة الطبائع والشهوات والمحبات.
29- أحمد بن الحسين بن علي الخرساني البيهقي، السنن الصغير، ج2، ص237، طبعة:1، جامعة الدراسات الإسلامية، كراتشي، باكستان، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج58، ص23، باب حقيقة النفس والروح وأحوالهما.
30- ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج19، ص337، طبعة 1 : مكتبة المرعشي النجفي، قم.
31- محمد بن زين الدين بن أبي جمهور، عوالي اللئالي، ج4، ص116، حديث 183، طبعة:1، دار سيد الشهداء للنشر، قم.
32- الشيخ الصدوق محمد بن علي، الخصال، ج1، ص240، حديث رقم 90، طبعة:1، جماعة المدرسين، قم.
33- عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، ص34-35، طبعة:1، مؤسسة آل البيت عليهم السلام، قم.
34- سورة محمد، الآية 17.
35- سورة آل عمران، الآية 198.
36- سورة الرعد، الآية 29.
37- سورة النور، الآية 35.
38- جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج3، ص302، طبعة دار الفكر، بيروت.
39- سورة الأعراف، الآيتان113-114.
40- سورة طه، الآية 70.
41- سورة طه، الآية 71.
42- سورة طه، الآيتان 72-73.
43- الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص169.
44- الشيخ الصدوق، الخصال، ج2، ص526، والشيخ الطوسي، في الأمالي، ص541.