نصّ الوصيّة
من جملة ما أوصى به مولانا الإمام أبو عبد الله جعفر بن مُحمد الصادق عليهما السلام صاحبه النجيب عبد الله بن جندب أن قال له: "يا ابن جندب، صل من قطعك، وأعط من حرمك، وأحسن الى من أساء إليك، وسلّم على من سبّك، وأنصف من خاصمك، واعف عمّن ظلمك كما أنّك تُحبّ أن يعفي عنك، فاعتبر بعفو الله عنك، ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين"1.
الأسوة الحسنة
إنّ مكارم الأخلاق في دين الله عظيم شأنها عالية مكانتها، ولذلك دعا الله تعالى أهل الإسلام إلى التحلّي بها وتنميتها في نفوسهم، وقد نالت العناية الفائقة الكبرى، والمنزلة العالية الرفيعة في كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة النبيّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام، وإنّ المتأمّل في التعاليم التي جاء بها الإسلام يجد أنّ القسم الأكبر منها يهدف إلى تنظيم علاقة الناس بعضهم ببعض، ووضع الأطر لهذه العلاقة، وفي ذلك دلالة واضحة على أنّ هذه العلاقة بذاتها قيمة سامية في الشريعة الإسلامية، وتنظيم هذه العلاقة على أسس متينة وقواعد رصينة، يدخل ضمن مصاديق هذه القيمة، ولأنّ أنبياء الله تعالى من أوّلهم إلى خاتمهم المصطفى محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل بيته عليهم السلام أفضل من دعا إلى الله تعالى بأخلاقهم الكريمة الحميدة وصفاتهم الحسنة، فحاجة المؤمن إلى الاقتداء بهم أعظم من حاجته للطعام والشراب والهواء، قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرً﴾2.
ولقد استخدم أنبياء الله تعالى وصفوة رسله وأئمّة الهدى المعصومون عليهم السلام كلّ ما هيّئهم بارئهم به لتربية وتزكية نفوس أهليهم وأصحابهم، وأتباعهم ومريديهم في السير والسلوك لنيل مقام القرب، ورضا الرب، وإنَّ من أهمّ الطرق التي استخدموها في هذا الشأن العظيم تربية الفضائل في النفوس، والإرشاد إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ومعالي الأمور، وسُبل التقوى لما لذلك من آثار جليلة في الدنيا والآخرة أكَّدتها الآيات القرآنية الكريمة، والروايات الشريفة كما أسلفنا، فضلاً عن أنّ الأخلاق الكريمة تدعو إليها أصحاب الفطر السليمة، والعقلاء يُجمعون على أنّ الصدق في كلّ المواطن والوفاء بالعهد، والجود والصبر والشجاعة، ونصرة المظلوم وبذل المعروف أخلاق كريمة فاضلة يستحقّ صاحبها الثناء والتكريم والتبجيل، وأنّ الكذب والعُجب والكِبر، والغدر والجبن والبخل أخلاق سيّئة يُذمّ صاحبها ويُنبذ.
صلاح ذات البين هو الأصل
في كلّ زمان من الأزمنة يوجد أناس يتصوّرون، ويصوّرون لأهل الإسلام أنّ الأخلاق الحميدة محصورة في الكلمة الطيّبة والمعاملة الحسنة فقط. ولبيان خطأ هؤلاء القوم لا بد من توضيح الأمر عبر استشارة أئمّة العترة3 النبويّة الطاهرة الذين بيّنوا أنّ مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أوسع من ذلك بكثير.
فهي تعني إضافة إلى الكلمة الطيّبة والمعاملة الحسنة، التواضع وعدم التكبّر ولين الجانب، واحترام الكبير، ورحمة الصغير، ودوام البشر، وحسن المصاحبة، وصدق الحديث وأداء الأمانة وإصلاح ذات البين، والصبر والحلم والصدق والوفاء، ... وغير ذلك من الأخلاق الحسنة، والأفعال الحميدة التي حثّ عليها الإسلام ورغب فيها، والإمام الصادق عليه السلام وكونه إمام المسلمين ووراث النبيّ الأمين صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يكون صلاح ذات البين هو الشائع داخل المجتمع الإسلامي، ويريد من المؤمن الذي يتحلّى بما ذكرناه من مكارم الأخلاق أن يفوز بكرائم الدنيا والآخرة لذلك بادر بإيصائه في أن "يصِل من قطعه، ويُعطي من حرمه، ويُحسن إلى من أساء إليه، ويُسلّم على من سبّه، ويُنصف من خاصمه، ويعف عمّن ظلمه".
وقال عليه السلام: "إنّ اللّه تبارك وتعالى أوجب عليكم حبّنا وموالاتنا، وفرض عليكم طاعتنا. ألا ، فمن كان منّا فليقتد بنا، وإنّ من شأننا الورع والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وصلة الرحم وإقراء الضيف، والعفو عن المسيء، ومن لم يقتدِ بنا فليس منّا، وقال: لا تسفهوا فإنّ أئمّتكم ليسوا بسفهاء"4.
صِل من قطعك
إنّ تهذيب المسلمين وتربيتهم تربية صالحة كما يريدها الله تعالى كان همّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام. فكانوا يبذلون قصارى جهدهم في تعليم أهل الإسلام أحكامه الشرعية، وتلقينهم المعارف المحمّدية، وكانوا يُعرّفون المسلم المؤمن ما له وما عليه كي يبقى في ساحة رحمة الله تعالى، وألا يخرج منها إلى ساحة الشيطان. وهذا الإمام الصادق عليه السلام يوجّه كلّ مسلم، فيقول له بقول مطلق: "صِل من قطعك"، مع أنّ الذي يتبادر إلى أذهان أكثر الناس أنّ الصلة تكون تلقائياً لمن وصلك، وتكون أيضاً للأرحام لأنّها تُزكّي الأعمال وتُنمّي الأموال وتدفع البلوى وتُيسّر الحساب وتُنسئ في الأجل، فلماذا طلب حفيد الرسالة في قوله هذا أن نصل كلّ من قطعنا سواء كان من الأقارب أو الأباعد؟
طلب منّا ذلك كي نبقى في ساحة رحمة الله تعالى، وألّا نخرج منها إلى ساحة الفاسقين الخاسرين كما تقدّم. وبيان ذلك في ما قاله الله سبحانه، فتأمّله وتدبّره، فإنّه عزّت آلاؤه يقول: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾5، ويقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾6، وإنّ من تأمّل هذه الآيات يجد أنّ القطيعة صفة من صفات الفاسقين، ومصاحبة لنقض عهد الله وميثاقه، وقرينة الفساد في الأرض لا تفترق عنه. وأنّ عاقبة من يعمل بها الخسران واللعنة وسوء الدار. بينما نجد الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل قد وصفهم الباري بأجمل صفات أهل الإيمان وأوجبَ لهم سكنى الجِنان، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار﴾7، ولأهمّية هذه الوصيّة تركها مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في قائم سيفه، وقد وجدها الإمام لمّا ضمّ إليه سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم، روى ذلك الحسين ذو الدمعة8 ابن حليف القرآن زيد الشهيد، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه، عن علي عليهم السلام قال: وجدتُ في ذؤابة أو علاقة سيفه صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أحرف: "صِل من قطعك، وقل الحق ولو على نفسك، وأحسن إلى من أساء إليك"9.
وأعطِ من حرمك
هذه الكلمة دعوة من الله ورسوله نقلها لنا الإمام الصادق عليه السلام، يوجهنا بها إلى الإحسان لأن الإحسان هو الدين كله، وتكليفنا يكمن في أن نحسن عبادتنا، ونحسن صنعتنا، ونحسن علاقاتنا، ونحسن إلى كل من حولنا نحسن كما أحسن الله إلينا، فإذا أحسنت إلى أحد، ولم يقابل إحسانك بإحسان، أو لم يشكرك أو أساء إليك. لا ترغب عن الإحسان إليه وإلى غيره بسبب الكفران، فإنه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره، ولو لم يشكرك أحد، فأنت تعد أحد المحسنين، والله تعالى يحب المحسنين كما نطق بذلك الكتاب المبين، فأنت ممن يحبهم الله تعالى، وكفي بذلك شرفاً وفضلاً على عملك بخير خلائق الدنيا، فقد روى الإمام الصادق عليه السلام فقال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة. العفو عمن ظلمك، وأن تصل من قطعك، والإحسان إلى من أساء إليك، وإعطاء من حرمك، وفي التباغض الحالقة10 لا أعني حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين"11.
روى أحمد بن عيسى العلوي، قال قال لي جعفر بن محمد عليه السلام: "إنّه ليعرض لي صاحب الحاجة، فأُبادر إلى قضائها، مخافة أن يستغني عنها صاحبها، ألا وإنّ مكارم الدنيا والآخرة في ثلاثة أحرف من كتاب الله عزّ وجلّ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْعَنِ الْجَاهِلِينَ﴾12، وتفسيره أن تصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك، وتُعطي من حرمك"13.
عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: سمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم يُنادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كُنّا نصل من قطعنا ونُعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة"14.
وأحسن إلى من أساء إليك
إنّ من أسباب السعادة أن تعفو عمّن ظلمك، وتُعطي من حرمك، وتُحسن إلى من أساء إليك، فإنّ العفو والصفح يُنقّي القلب من الغيظ والحقد والعداوة، كذلك الصفح والتجاوز يُطهّر القلب، ويجلب له السعادة والمسرّات، فلا يُسَرّ الإنسان وقلبه ممتلئ غيظاً وحقداً، والله تعالى يقول في مُحكم كتابه: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾15. فتأمّل كيف أعطاهم شرف النسبة إليه سبحانه مثلما قال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾16، وَقُلْ ﴿لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن﴾.
فإذا جاءك إنسان، فقال لك: فلان قد أساء إليك ويقول فيك كذا وكذا، فهناك حسن، وهناك أحسن، ولم يقل الله: قولوا حسنى، بل أمر: بأن يقولوا التي هي أحسن "أفعل التفضيل"، وهذا ممّا يدلّ على أنّ عباد الله حقّاً لا يُبادلون الإساءة بالإساءة، مع أنّ الحقّ لك إذا أساء الغير، أن تردّ الإساءة بالإساءة، ولكن الأحسن أنّ ترد الإساءة بالإحسان: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾17 .
هذا ويُعلّمنا مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درساً عظيماً في ردّ الإساءة بالإحسان، وذلك في اليوم العصيب الذي شخبت فيه جراحاته وكسرت رباعيته، وقُتل عمّه سيّد الشهداء حمزة رضوان الله عليه، ومع كلّ ما أصابه من الأذى لم يزد على أن قال: "اللهم اغفر لقومي، فإنّهم لا يعلمون"18، فتأمّل كيف لم يمنعه سوء صنيعهم به عن إرادته الخير وطلب المغفرة لهم.
وإليك نموذج من عباد الله الذين أدّبهم هذا النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، فكان من الرجال الذين لا تهزّهم إساءة، ولا تستفزّهم جهالة، لأنّ لغو السفهاء يتلاشى فى رحابهم كما تتلاشى الأحجار في أغوار البحر المحيط، عنيتُ أبا ذر الغفاري رضي الله عنه، فقد شتمه رجل ذات يوم، فقال له أبو ذر: "يا هذا لا تغرق في شتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإنّا لا نُكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه"19.
إنّ المؤمن ذو قلب رحيم، عطوف حنون يُسامح ويكظم الغيظ، ويعفو عن الناس وإن أساؤوا، ويحترمهم وإن أهانوا، والمؤمن أسمى من أن يصدر عن غيظ، وينطلق عن غضب أو حقد، وكيف يعرف قلبه الأحقاد، وقد تمكّنت فيه هداية الله وحبّ المؤمنين؟
وسلّم على من سبّك
لقد ضرَب الله لنا فى كتابه العزيز نماذج مِن حلم رسله الكرام وسعة صدورهم في مواجهة ما لاقوه من سباب وإيذاء وابتلاء من قَومهم، قال تعالى عن نَبيّه هُود عليه السلام: ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾20.
صوَّرت لنا هذه الآيات جزءاً من مقدار الحلم الذى اتصف به نبيّ الله هود عليه السلام، وسعة صدره الشريف، حيث لم يعبأ بهذا السباب، وبهذه السخرية والشتائم، ولم يطش لها حلمه، بل قابل هذه الشتائم والسباب والسخرية بأن دعى أصحابها إلى الله، ووضَّح لهم مهمّة رسالته، ونصحهم وبَيَّن لهم أنَّه أمين على ذلك.
والإمام الصادق عليه السلام عندما أوصى بهذه الوصيّة المباركة "وسلّم على من سبّك" فإنّه كان وما زال يريد منّا أن نكون من عباد الله السالكين مسالك الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولأنّ تبادل السباب ونشوب الخلاف غير المحمود يؤدّي إلى انتشار العداوة بين أهل الإسلام بذلك أخبرنا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عنه حفيده الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام حين قال: إنّ رجلاً من بني تميم أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال له: "لا تسبّوا الناس، فتكتسبوا العداوة بينهم"21، وكي لا يحصل ذلك وَجَّهَنا الإمام الصادق عليه السلام بقوله: "وسلّم على من سبّك" لنكون من العاملين بقول سبحانه: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾22.
وأنت أيّها القارئ الكريم إذا تأمّلت قول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر23، فإنّك ستجد السباب صورة من صور الظلم الذي يكون باللسان، وهو من أكثر أنواع الظلم شيوعاً، والإمام الصادق عليه السلام عندما وَجَّهَنا بقوله: "وسلّم على من سبّك" لا يريد لأحد من أهل الإسلام أن ينخرط في صفوف الظالمين، وعلاوة على ذلك يريد منّا أن نكون أولى الخلق بالله ورسوله، وفي مقدّمة الحاصلين على الأجر الجزيل والفضل العميم، فإنّه عليه السلام قد قال: "البادئ بالسلام أولى بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم"24.
وأنصف من خاصمك
إنّ الاعتراف بالحقّ وإعلانه أيضاً لا يُنقص من قيمة الإنسان، فكونك تقول ولو في مناظرة، أو محاورة، أو محاضرة: أنا أخطأتُ في كذا، هذا لا يُعيبك، بل بالعكس هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدلّ على شجاعتك وقوّتك، وثقتك بنفسك، والله تعالى يقول: ﴿ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾25. فما أروع أن يكون الإنسان منصفًا لخصمه، فإذا وقع هو في خطأ سهل عليه الاعتراف به، وإذا كان دليله ضعيفًا اعترف بذلك، والرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، والإنصاف أمر عظيم يطلبه الشرع ويحثّ عليه، والإمام الصادق عليه السلام عندما وَجَّهَنا بقوله: "وأنصف من خاصمك" كان يعلم أنّ إنصاف الخصم شيء عزيز بين الناس، فلا يتحلّى به منهم إلا القليل، ولكنّه عليه السلام يريد من كلّ مسلم أن يُجاهد نفسه ليكون المستفيد الأكبر من ذلك، فيستفيد الإنسان المنصف البراءة أمام الله، وكذلك يستفيد من حالة شعوره بأنّه قد أدّى ما عليه، ويستفيد أيضاً فراراً محموداً، وهو الفرار من الظلم والإجحاف بالغير، هذه كلّها مكاسب لا تُقدّر بثمن عند المؤمنين الشرفاء من أبناء الأمة الإسلامية.
ومن الجدير ذكره أنّ للانصاف والايثار دوراً كبيراً في خلق الأجواء الروحية والنفسية لنموّ حركة التربية، حيث يرتبط الناس روحياً وعاطفياً بمن يتّصف بهاتين الصفتين، ويشعرون بأنّ المربّي أو المصلح غاية في الكمال والتسامي، وأنّه عادل في تعامله مع الآخرين وفي تقييمهم، وبهذا الشعور وبهذا الانشداد يجد المربّي لرأيه ولإرشاده قبولاً، وهو مقدّمة أساسية للتربية والإصلاح.
واعف عمّن ظلمك
لا شكّ ولا ريب أنّ من صبر على الأذى وعفى عمّن ظلمه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل، والله تعالى يقول: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾26 أليس لك في هذا عوض؟ فانظر في كتاب الله تعالى وتأمّل الأجر الذي أعدّه الله للمتّقين، فضلاً عن أنّ عفو المظلوم مريحٌ لقلبه في هذه الحياة الدنيا، والله تعالى يقول: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾27، وقد عبّر مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام عن العفو بتعبيرٍ يُبيّن فيه أنّ العفو والصفح له المقام الأسنى بين الفضائل الأخلاقية، فقال عليه السلام: "العفو تاج المكارم"28، والتاج كما هو معلوم علامة العظمة والعزّة، وهو زينة الملوك حيث يوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهو الرأس.
قال الإمام الصادق عليه السلام: "العفو عند القدرة من سنن المرسلين والمتّقين، وتفسير العفو أن لا تلزم صاحبك فيما أجرم ظاهراً، وتنسى من الأصل ما أصبت منه باطناً، وتزيد على الاختيارات إحساناً، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً إلاّ من قد عفى الله عنه، وغفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وزيّنه بكرامته وألبسه من نور بهائه، لأنّ العفو والغفران صفتان من صفات الله عزّ وجلّ أودعهما في أسرار أصفيائه ليتخلقّوا مع الخلق بأخلاق خالقهم وجعلهم كذلك. قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾29، ومن لا يعفو عن بشر مثله، كيف يرجو عفو ملك جبّار"30.
كلّ مؤمن يعلم أنّ الدنيا هيّنة على الله، ومن هوانه عليه جلّ شأنه أنّها لو كانت تساوي عنده جناح بعوضة لما سقى الكافر شربة ماء، ولكن ألا ترى أنّ شمسه أشرقت على الأبرار والفجّار، وأنّ قطره ينزل على الصالحين والخاطئين، فما الفائدة في أن نجعل هذا القلب الصغير يحمل كلّ ألوان البغضاء والعداوات، ونحن نملك أن نملأه بالذكر والمحبّة والوفاء، وسلامة القلب، وطيب الأنفس، فاعفوا أيّه المؤمن واعتبر بعفو الله عنك.
* طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الفقيه المُحدّث الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، تحف العقول، ص305، طبعة:2، جماعة المدرسين، قم.
2- سورة الأحزاب، الآية 21.
3- أحد معانيها: العين الصافية.
4- الشيخ المفيد، الإختصاص، ص241.
5- سورة الرعد، الآية 25.
6- سورة البقرة، الآيتان 26-27.
7- سورة الرعد، الآيات 19-22.
8- يكنى أبا عبد الله، ويُلقّب ذا الدمعة لكثرة بكائه، وهو من كبار رجالات العترة النبويّة الطاهرة، قد شهد حرب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن ثم توارى، وكان مقيماً في منزل الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، والإمام عليه السلام هو الذي تولّى تربية الحُسين ذي الدمعة منذ شهادة أبيه، وأخذ عن الإمام الصادق عليه السلام علماً كثيراً، فلما لم يذكر فيمن طُلب من قِبل سلطات بني العباس ظهر لمن يأنس به من أهله وإخوانه، ثم ظهر بعد ذلك بالمدينة ظهوراً تامّاً إلّا أنه كان لا يُجالس أحداً، ولا يدخل إليه إلّا من يثق به، يراجع مقاتل الطالبيين لأبو الفرج المرواني الأموي الأصبهاني، ج1، ص331، طبعة: دار المعرفة، بيروت، بتصرف.
9- أبو سعيد أبن الأعرابي أحمد بن محمد بن زياد بن بشر بن درهم البصري، معجم أبن الأعرابي، ج2، ص744، حديث رقم 1507، طبعة: 1، دار ابن الجوزي، وروى هذا الحديث أيضاً حافظ بغداد ومسندها عثمان بن أحمد أبو عمرو بن السماك.
10- قال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في وصيته: "إنّي أُوصيك يا حسن، وجميع أهل بيتي، وولدي، ومن بلغه كتابي بتقوى الله ربّكم ولا تموتُنّ إلّا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام، وأنّ المُبيرة الحالقة للدين . فساد ذات البَيْن، ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم"، يراجع الشيخ الكليني، الكافي، ج7، ص51.
11- الشيخ المفيد، الأمالي، ص181، والشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص15، باختلاف ألفاظ.
12- سورة الأعراف، الآية 199.
13- الشيخ الطوسي، الأمالي، ص644.
14- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص108، والشيخ المُحدث الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي، الزهد، ص93.
15- سورة الإسراء، الآية 53.
16- سورة الفرقان، الآية 63.
17- سورة فصلت, الآية 34.
18- أبو القاسم الطبراني، المعجم الكبير، ج6، ص120، حديث 5694، طبعة:2، مكتبة العلوم والحكم، الموصل.
19- أبو سعد منصور بن الحسين الآبي، نثر الدر، ج2، ص55، طبعة:1، دار الكتب العلمية، بيروت، ومحمد بن مفلح الصالحي الحنبلي، الآداب الشرعيَّة، والمنح المرعيَّة، ج2، ص11، طبعة: عالم الكتب، والتذكرة الحمدونية، وغيرهم.
20- سورة الأعراف، الآيات 66-68.
21- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص360.
22- سورة فصلت، الآية 34.
23- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص360.
24- م.ن، ج2، ص645.
25- سورة المائدة، الآية 8.
26- سورة البقرة، الآية 237.
27- سورة الشورى، الآية 43.
28- التميمي الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص36، وعلي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص19، طبعة:1، دار الحديث، قم.
29- سورة النور، الآية 22.
30- مصباح الشريعة، منسوب للإمام الصادق عليه السلام ص158-159، طبعة:1، مؤسسة الأعلمي، بيروت.