تولي الإمام الجواد (ع) القيادة في سن الطفولة ظاهرة إعجازية على إمتداد خط الإمامة ومن الظواهر الإعجازية التي وجدت مع الإمام الجواد عليه السلام، والتي كان لها أثرها الكبير على واقع الحكام انذاك : ظاهرة توليه مرجعية الإمامة والقيادة وهو في سن الطفولة.
وقد أجمعت المصادر التاريخية أن الإمام الجواد توفي أبوه الرضا عليه السلام وعمره "ثماني سنين أو سبع سنين وأربعة أشهر"1، وتولى الإمامة بعد أبيه وهو في سن الطفولة. هذه الظاهرة تواجدت لأول مرة في حياة أئمة عليهم السلام في شخص الإمام الجواد عليه السلام وكان تحدياً صارخاً للحكام المنحرفين ورهاناً أكيداً وإعجازياً على حقيقة امتداد خط إمامة ومرجعية أئمة عليهم السلام الذي يمثله الإمام الجوادعليه السلام.
ولو اعتمدنا حساب الإحتمالات لوجدنا أن صغر سن الإمام عليه السلام وحده سبباً كافياً للاقتناع بحقيقة إمامته وتمثيله لخط إمامة أهل البيت. وإلا كيف نفسر توليه للزعامة الشيعية في كل المجالات النظرية والعملية. ولربما يتبادر إلى الأذهان بعض الإفتراضات التي يحاول أصحابها إنكار إمامة الإمام الجواد لصغر سنه:
الإفتراض الأول يقول: إن الطائفة الإسلامية الشيعية ربما لم ينكشف لديها بوضوح إمامة وزعامة هذا الصبي لأهل البيت. ولربما زادوا هذا الإفتراض زعماً اخر كما جاء على لسان الباحث أحمد أمين "باختفاء الأئمة عن الأعين، واكتفائهم بالدعوة سراً، ليبقى العطف عليهم في الناس"2 .
وردنا على هذا الإفتراض والزعم، هو أن زعامة الإمام الجواد عليه السلام كانت زعامة مكشوفة وعلنية أمام كل الجماهير ولم تكن زعامته عليه السلام زعامة دعوة سرية من قبيل الدعوات الصوفية والفاطمية، كي تحجب بين قائد الدعوة وبين قواعده الشعبية، بل كان الإمام عليه السلام يمارس زعامة مكشوفة إلى حد ما. وكانت القواعد الشعبية المؤمنة بزعامته وإمامته تتفاعل معه مباشرة في مسائلها الدينية وقضاياها الإجتماعية والأخلاقية. فالجواد عليه السلام كان يتحرك بفاعلية ونشاط على المسرح الإجتماعي وهو مكشوف أمام كل المسلمين بما فيهم الشيعة الذين يؤمنون بزعامته وإمامته.
حتى أن المعتصم تضايق من نشاطه وتحركه، فطلبه وأحضره إلى بغداد، ولما حضر أبو جعفر عليه السلام إلى العراق لم يزل المعتصم وجعفر بن المأمون يدبرون ويعملون الحيلة في قتله ويقول المفيد: "فورد بغداد لليلتين بقيتا من المحرم سنة 220 هجرية وتوفي بها في ذي القعدة من هذه السنة". وفي روضة الواعظين "مات ببغداد قتيلاً مسموماً"3.
كذلك فأن المأمون قد سلط الأضواء على إمامة الجواد وعلمه. فقد عرّضه إلى امتحان من أجل إفحامه وفض الناس عنه.فكان يجمع بينه وبين كبار العلماء أمام العباسيين فيتبيّن تفوق الجواد عليه السلام العلمي والفكري على صغر سنه4. فقد طلب المأمون من يحيى بن أكثم، وهو من كبار المفكرين انذاك أن يطرح على الإمام مسألة يقطعه فيها.
فقال له: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة.
فقال له أبو جعفر: سل إن شئت.
قال يحيى: ما تقول في محرم قتل صيداً؟
فقال له الإمام عليه السلام: "قتله في حلٍّ أو حَرَم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصراً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاره؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرماً؟". فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره5. وعلى ضوء هذه الحقائق تسقط دعوى الفرض الذي يقول بأن الجواد عليه السلام لم تكن زعامته مكشوفة أمام المسلمين عامة وأمام شيعته خاصة، خلافاً لطبيعة العلاقة التي نشأت منذ البداية بين قادة أهل البيت وقواعدهم الشعبية.
أما الإفتراض الثاني فيزعم أن: الطائفة الشيعية عبر تاريخها المديد لم تكن تملك تصوراً واضحاً لمفهوم الإمام والإمامة. بل كانت تتصور الإمام مجرد رقم في تسلسل نَسَبي. فهي بالتالي تجهل الإمام والشروط اللازمة للإمامة!
نقول إن هذا الإفتراض مردود لأن التشيع ــ كأساس يقوم على المفهوم الإلهي العميق لفكرة الإمامة ــ من أبده وأبسط مفاهيم التشيع، فالإمام في مفهومه الشيعي العام هو ذلك الإنسان الفذ بمعارفه وأقواله وأعماله وأخلاقه. وهذا المفهوم كان واضحاً في معالمه وأبعاده عند الطائفة الشيعية. قد بشّرت به الاف النصوص التي توالت منذ عهد الإمام علي عليه السلام إلى عهد الإمام الرضا عليه السلام. حتى أن كل تفاصيل وخصوصيات التشيع أصبحت واضحة في أذهان الشيعة ووعيهم.
تقول إحدى الروايات بهذا الصدد: "دخلنا المدينة بعد وفاة الرضا عليه السلام نسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا، فقيل: إن الخليفة في قرية قريبة من المدينة. فخرجت إلى تلك القرية فدخلتها، وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر عليه السلام انتقل إلى الإمام الجواد عليه السلام بالوراثة، فرأيت البيت غاصاً بالناس ورأيت أحد أخوة الرضا عليه السلام جالساً متصدراً المجلس، وسمعت الناس يقولون عنه ــ أي أخ الرضا عليه السلام ــ بأنه ليس هو الإمام الرضا. لأنهم سمعوا من الأئمة عليه السلام: "أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين عليه السلام"6. ونستنتج من هذا الحديث، أن كل تفاصيل وخصوصيات التشيع ومفاهيمه كانت واضحة وجلية عندهم، مما يكذب زعم أصحاب هذا الإفتراض.
الإفتراض الثالث والأخير: إن الأمر لا يعدو كونه تفانياً وإصراراً على الغرور والباطل من قبل طائفة الشيعة ومحبيه. ونقول: إن هذه الدعوى باطلة؛ ليس فقط من جهة إيماننا بورع الطائفة الشيعية وقدسيتها، وإنما نؤكد القول، من خلال تلك الظروف الموضوعية التي أحاطت بهذه الطائفة المضطهدة. إذ أنه لم يكن التشيع في يوم من الأيام في حياة هذه الطائفة المؤمنة طريقاً للأمجاد والسلطان أو الإثراء. بل كان التشيع على مدار التاريخ طريقاً إلى التعذيب والحرمان والسجون والإضطهاد؛ بل كان طريقاً لأن يعيش معها إنسان الطائفة، حياة خوف وتضحية ومراقبة دائمة في كل خطوة يخطوها.
يقول الإمام الباقر عليه السلام عن تلك المحن والبلايا التي نزلت بالشيعة وخاصة أيام الحكم الأموي: "وقُتِلت شيعتنا بكل بلدة وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظنة والتهمة، وكل من يُذكر بحبنا أو الإنقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله وهُدمت داره". فافتراض التفاني والإصرار على الباطل، لم يكن في أي وقت من الأوقات من أجل مطمح مادي أو دنيوي.
ولماذا بعد ذلك، كل هذا التفاني والإصرار من قبل علماء وفقهاء الطائفة، على إمامة باطلة زائفة. مع أن تفانيهم للإمام عليه السلام سيكلفهم ألواناً قاسية من الحرمان والعذاب. لذلك لا يمكننا تفسير تفاني الشيعة على الإمامة، إلا أن يكون ذلك ناشئاً عن اعتقاد حقيقي بهذه الإمامة ووعي عميق لشروط انعقادها.
ومن هنا يجب القول أن هذه الإفتراضات لا يمكن قبوله لمن اطلع على حقيقة تاريخ هذه الطائفة وظروفها الموضوعية، وبالخصوص الظروف والملابسات التي أحاطت بإمامة الجواد عليه السلام. وبالتالي فإن الفرض الوحيد المتبقي والمطابق للواقع، هو كون الجواد عليه السلام؛ هو الإمام حقاً.
* من كتاب "خطوط عامة من سيرة الأئمة"
1- نفس المصدر السابق، ص92.
2- المهدي والمهدوية، ص62 ،61
3- نفس المصدر نقلاً عن الإرشاد للمفيد.
4- تذكرة الخواص، ص372 368 وراجع للتفصيل تحف العقول عن ال الرسول ابن صغبة، ص335.
5- البحار، ج50، ص90.
6- شرح النهج، ج3، ص15، لابن أبي حديد.