كلمة ممثّل المصطفى (ص) في لبنان سماحة الشيخ الدكتور علي رضا بي نياز التي ألقاها في المؤتمر المنعقد في بيروت تحت عنوان "الملتقى العلمائي العالمي من أجل فلسطين"، والذي حضره لفيف من العلماء من جميع أنحاء العالم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين
أصحاب الفضيلة والسماحة العلماء الأعلام
الأساتذة الكرام
السادة الأفاضل والسيدات الفُضلَيات
أحيّيكم بتحيّة الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أمّا بعد
يقول تعالى في محكم كتابه الكريم وقرآنه العظيم:
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"
ويقول سبحانه:
"سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"
في البداية، يُسعِدُني ويشرّفني أن أتقدّم منكم جميعاً بأحرّ التهاني وأسمى التبريكات بذكرى ليلة الإسراء والمعراج، والمبعث النبويّ، سائلاً الباريَ عزّ وجلّ أن يُعيدَ علينا هذه المناسبات وأمثالها باليُمن والخير والبركة والنصر، وقد رَفرَفَت رايةُ الحقّ خفّاقةً على رُبى القدس الشريف بعد تطهيرها من رِجسِ الصهاينة الغاصبين.
إنّ مبادرة جامعة المصطفى (ص) العالميّة لمشاركة أخواتها من الجهات الإسلاميّة الأخرى في تنظيم فعاليّات "الملتقى العلمائيّ العالميّ من أجل فلسطين"، نابعةٌ من عمق إيمانها وتمسّكها بقضيّة المسلمين الأولى، استلهاماً من مبادئ الثورة الإسلاميّة المباركة التي فجّرها الإمام الخمينيّ (ره)، ويقودها بكلّ حكمةٍ ودِرايةٍ خَلَفُه الصالح سماحة وليّ أمر المسلمين الإمام القائد السّيّد الخامنئيّ (دام ظلّه).
فبِاسمِ رئيس هذه الجامعة سماحة آية الله الشيخ الأعرافيّ (حفظه الباري)، والعاملين في فرع ذلك الصرح العلميّ في لبنان، والذي أفخر بالخدمة فيه كمديرٍ عامٍّ، أحيّيكم أيّها الحضورُ الكريم، راجياً أن تُكَلَّلَ أعمال هذا الملتقى بالنجاح والتوفيق لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
أيّها الحضور الكريم
من وحي المناسبة، أجد من المناسب التذكير بكلام سماحة قائد الثورة الإسلاميّة حين يقول: " إنّ تركيزنا كمسلمين على دراسة شخصيّة الرسول الأعظم (ص) وسبر أغوارها واستلهام الدروس من مختلف أبعادها، كفيلٌ بتحقيق خير الدنيا وفلاح الآخرة، وكافٍ لاستعادة عزّتنا وسُؤدَدِنا"، فقد اجتاز (ص) امتحاناتٍ إلهيّةً صعبةً حتى بلغ تلك المرتبةَ الرفيعةَ، ولعلّ أشقّها ما واجهه (ص) من حملاتٍ استهدفت شخصيّته المباركة بالإهانة والاتّهام بمختلف النعوت غير اللّائقة، فخاطبوه بالساحر والمجنون، لتثبيط همّته ودفعه للتخلّي عن رسالته، وهي من تحدّيات العمل الدّعَويّ والتبليغيّ التي يواجهها أيّ سائرٍ في هذا الطريق الإلهيّ.
لقد كان (ص) يتمتّع بخُلُقٍ رفيعٍ وإحساسٍ مُرهَف، يُراعي مشاعرَ الآخَرين، فيؤذيه توجيه الأذى لهم، فتصوّروا مقدار الأذى الذي يمكن أن تُلحِقَه مثل تلك السلوكيّات على شخصٍ مثلِه!
ولأهمّيّة ذلك الموضوع، حذَّرَ الله رسولَه من خطر تحوّل الخشية من كلام الناس إلى هاجسٍ يتحكّم بقرارات الإنسان المصيريّة، يقول تعالى: " مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا"، فدعاه لاتّخاذ رضى ربِّه بوصلةً وحيدةً يسير وِفقَها، متجاوزاً كلّ المعايير الدنيويّة الأخرى، من مالٍ وجاهٍ ومقاطعةٍ وحصارٍ وتهديدٍ وحروبٍ وإغراءاتٍ، فقال تعالى:
" الّذين يبلّغون رسالات اللَّه و يخشونه و لا يخشون احداً الّا اللَّه "
وسيتولّى الله أمر العاملين في سبيله بإخلاصٍ، بإصلاح أعمالهم وتصويبها وخلق الظروف الملائمة لبيان صحّة مواقفهم، يقول تعالى:
" وَالَّذينَ جاهَدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ".
لقد وجدتُ أنّ تسليط الضوء على هذه الحقيقة القرآنيّة- المحمّديّة ضروريٌّ لفهم حقيقة موقف الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة قيادةً وشعباً تجاه فلسطين.
أيّها الحضور الكريم
منذ انطلاق الثورة الإسلاميّة المباركة على النظام الشاهنشاهيّ البائد، وحتى لحظة إعلان انتصارها وقيام نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ما بَرِحَت القضيّة الفلسطينيّة ودعم الشعب الفلسطينيّ وحركة المقاومة في مواجهة الكيان الصهيونيّ المُصطَنَع، تحتلُّ رأس أولويّات السياسة الخارجيّة، كما أنّ أغلبَ، بل جميع المشاكل العالقة بين الجمهوريّة الإسلاميّة والقوى الاستكباريّة، من المسألة النوويّة واتّهام إيران بالتدخّل في شؤون دول المنطقة وغيرها من الأكاذيب، تعود بجذورها لمواقفها الثابتة من تلك القضيّة وعدم اعترافها بالكيان الصهيونيّ ورفضها أيّ مساومةٍ حول حقوق الشعب الفلسطينيّ العادلة، يقول سماحة الإمام القائد في هذا الخصوص:
" إنّنا لا نتعامل مع قضيّة فلسطين كمسألةٍ تكتيكيّة، أو كإستراتيجيّةٍ سياسيّةٍ، بل هي مسألةٌ عقائديّة وإيمانيّة نابعة من صميم القلب" مضيفاً: "من أين نستمدّ تلك المواقف والتحليلات والرؤى؟ من أين تنشأ مواقفنا التي نتّخذها كقيادةٍ ونظامٍ وجهاتٍ تنفيذيّةٍ في هذه الجمهوريّة؟ هل هي نابعةٌ من مُقاربةٍ سياسيّةٍ بحتةٍ؟ بالتأكيد لا. لأنّها منبثقةٌ من صميم الدين وتعاليمه"
إنّ الإسلام هو المعيار في حلّ تلك القضيّة، أمّا مشاريع الحلول الأخرى القائمة على ما تسمّى بمبادرات التسوية والحلول السلميّة، فلم تؤدِّ إلا إلى مزيد الغطرسة الصهيونيّة وتفاقم أوضاع أصحاب الأرض الحقيقيّين، يقول سماحة الإمام القائد: " نحن مع تحرير فلسطين. نحن مع كَفِّ أيدي المعتدين. نحن نقول بأنّ الفلسطينيّين غير آمنين في بيوتهم، الأمر الذي يرفضه الإسلام، ونحن بدورنا نرفضه أيضاً. ولو اجتمعت سائر الدول الأخرى حول طاولة المفاوضات لبيع فلسطين كما تذهب إليه أهواؤهم المريضة، فعليهم أن يعلموا بأنّ الشعوب المسلمة والشعبَ الفلسطينيّ لن يتنازل عن بلده للعدوّ" .
وقد أثبتت الجمهوريّة الإسلاميّة جدّيّتها في التمسّك بتلك المبادئ قولاً وفعلاً، من خلال دعمها لحركات المقاومة الفلسطينيّة وتجهيزها بما تحتاج في صراعها مع العدوّ، رافضةً أيّ اعتبارٍ مذهبيٍ يسعى العدوّ لإثارته، فأثمر ذلك انتصاراتٍ في غزّة المحاصَرة، في الوقت الذي لم يكتفِ المتشدّقون بالشعارات المذهبيّة في المنطقة بالسكوت والخنوع كما هو دَيدَنُهم، بل سارعوا للتواطؤ مع العدوّ وحِياكة المؤامرات وبثّ سموم الفِتَن الطائفيّة وتوجيه السلاح نحو دول المقاومة عبر أدواتهم التكفيريّة، وقد أشار سماحة قائد الثورة إلى ذلك لدى استقباله قبل أيّام الرئيس العراقيّ:
" إنّ تواجد الزُمَرِ التكفيريّة- الإرهابيّة في سورية تحت عناوين وشعاراتٍ مختلفةٍ، لا تخدمُ في الواقع سوى الكيان الصهيونيّ والساعين للإخلال باستقرار المنطقة بهدف فرض إرادتهم عليها "
ومن سُخرِيات القدر في هذا السياق، أن تضلّ بعض طائرات الأعراب طريقها لتقصفَ دولةً مسلمةً مظلومةً كاليمن، وتنشُرَ في الأيّام الماضية كلٌّ من صحيفتَي "الحياة" و"الشرق الأوسط" السعوديّتَين الصادرتَين من لندن، و"عكاظ" الصادرة من السعوديّة، مقالاتٍ تتوسّل فيها إيران، ولا سيّما سماحة قائد الثورة، المساعدة لحلّ الأزمة اليمنيّة، متذرِّعةً بوجود عدوٍّ مشترك وهو الكيان الصهيونيّ، كما ذكر أحد الكتّاب في عدد الاثنين (بتاريخ 11 أيار 2015) بجريدة الحياة في مقالٍ له تحت عنوان "يا قادة إيران تعالوا إلى كلمة سواء"، مع أنّ تلك الدولة أعلنت عبر وزير خارجيّتها في الأيّام الأولى للعدوان على الشعب اليمنيّ رفضها وساطة إيران باعتبار القضيّة شأناً عربيّاً على حدّ قوله! وهذا التناقض مثالٌ صريحٌ على كيفيّة استغلال تلك الجهات للقضيّة الفلسطينيّة لخدمة مصالحها الشخصيّة. في المقابل، سارعت إيران في مختلف الظروف لتقديم يد العون والمساعدة لإخوانها في العراق وسورية ولبنان وفلسطين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم العرقيّة والمذهبيّة، لمواجهة الحركات الإرهابيّة والصهيونيّة، لا من خلال التدخّل العسكريّ، بل عبر مستشارين وأدوية وأغذية وأسلحة و.. دون مَنٍّ على أحد، باعتراف مسؤولي تلك الدول.
أيّها الحضور الكريم
إنّ أخطر تحدٍّ يواجه عالمنا الإسلاميّ، يتمثّل بحالة الفُرقة والشِقاق بين أبنائه، ما يُبرِز الحاجة لقيام العلماء بأدوارهم البنّاءة ومدّ جسور التواصل بين مختلف المذاهب والتأكيد على نقاط الالتقاء، وهي كثيرة ولله الحمد، والحوار العلميّ حول نقاط الاختلاف، وهي طبيعيّة، واحترام تعدّديّة الآراء، مع التركيز على القضيّة الفلسطينيّة معياراً للتمييز بين الحقّ والباطل، والتي اكتسبت أهمّيّةً مضاعفةً مع بدء الصحوة الإسلاميّة، وسعي القوى الاستكباريّة لركوب مَوجَتِها وحرفها عن مسارها، لأنّها رأت فيها خطراً داهماً يهدّد مصالحها ويقضي على ربيبتها الكيان الصهيونيّ، وقد نجحت، للأسف الشديد، في تحقيق مآربها جزئيّاً، عبرَ خلق مجموعاتٍ متحجّرةٍ وتكفيريّةٍ ألحَقَت أشدّ الأذى بالإسلام وحوّلت مسار الصراع الحقيقيّ نحو ميادين أخرى يُسفَك فيها الدم المسلم والعربيّ، وتُشَوَّه فيها صورة الإسلام.
رغم ذلك كلّه، فإنّنا متفائلون بالمستقبل، والوعد الإلهيّ بنصر عباده الصالحين، فقد كان الإمام الخمينيّ (ره) في أحلك الظروف التي كانت تمرّ بها الثورة من حصار وحربٍ مفروضةٍ وفِتَنٍ، يبشّر بالفتح قائلاً:
" إن شاء الله ستتحرّر فلسطين، وستعود القدس كما كانت ملاذاً للمسلمين، وسيتخلّص المسلمون من شرّ الظالمين... وليس لجهادنا نتيجةٌ سوى فتح فلسطين" وقد أكّد الإمام القائد (دام ظلّه) تلك الحقيقة بقوله: " لقد توهّم أعداء الإسلام في إحدى فترات صدر الإسلام، بأنّهم سيقضون على الإسلام بمحاصرة المسلمين في شِعب أبي طالب، فخابوا. أمّا اليوم فنحن نعيش ظروف بدر وخيبر، لا شعب أبي طالب"
في الختام
أجدّد شكري وترحيبي بكم جميعاً، كما أقدّر عالياً تلك الجهود المبذولة في سبيل عقد هذا المهرجان وتنظيم سائر فعاليّات "الملتقى العلمائيّ العالميّ من أجل فلسطين"، وأستميح أساتذتي من أصحاب الفضيلة والسماحة العلماء عذراً على الإطالة في محضرهم.
"وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.