أقامت حوزة الرسول الأكرم (ص) التابعة لجامعة المصطفى (ص) العالميّة في لبنان مساء الأربعاء في 31/1/2024 ندوة علميّة بعنوان "القرآن الكريم في الدراسات الغربيّة بين الماضي والحاضر"، حاضر فيها الأستاذ الشيخ لبنان حسين الزين، مبيّنًا اهتمام أغلب الباحثين الغربييّن بالقرآن الكريم الذي نشأ في كثير من الأحيان من المخاوف التي استحوذت على عقليّة الإنسان الغربيّ ونظرته إلى الإسلام نظرة المنافس المهدِّد له باستلاب حضارته وثقافته، فظهر الجدل ضدّ القرآن الكريم مبكرًا، منذ القرون الوسطى في الغرب، في الخطاب الدينيّ اليهوديّ والمسيحيّ على لسان يوحنا الدمشقيّ (ت: 749م)، وموسى بن ميمون (ت: 1204م)، وتوما الأكويني (ت: 1274م)، ورئيس دير كلوني بطرس المبجَّل (ت: 1156م) الذي كان أوّل من شجّع على مشروع ترجمة القرآن الكريم إلى لغة غربيّة ودعمه، فظهرت أوّل ترجمة للقرآن إلى اللغة اللاتينيّة على يد البريطاني روبرت كيتون (Robert of Ketton) في الفترة الممتدة بين 1136-1157م، ثمّ تتابعت من بعدها الترجمات إلى اللغات الأوروبيّة المختلفة؛ كالإنكليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، والإيطاليّة، والهولنديّة، وغيرها ...
وأوضح المُحاضِر أنّه لم يقتصر عمل المستشرقين الغربيّين على مجال ترجمة القرآن فحسب، بل بحثوا في مجالات أخرى ترتبط بالقرآن الكريم؛ كعلوم القرآن (من حيث وحيه وجمعه وتدوينه ورسمه وقراءاته ومحكمه ومتشابه وناسخه ومنسوخه و...) وعملوا مبكرًا على إعداد معاجم مفهرسة لموضوعات القرآن الكريم؛ انطلاقًا من طبيعة العقليّة النمطيّة الغربيّة في البحث التي تعتمد الدراسة الموضوعيّة، فبوّبوا الموضوعات القرآنيّة وفهرسوها؛ تسهيلًا على الباحثين في القرآن الكريم؛ فصنّفوا معاجم عدّة كـ"تفصيل آيات القرآن الكريم" للمستشرق الفرنسي جول لابوم (1806 – 1876م)، ونجوم الفرقان في أطراف القرآن" للمستشرق الإلماني فلوجل (1802 - 1870م)، ودليل القرآن" للمستشرق الألماني مالير (1857 – 1945م)، ...
كما أشار المُحاضِر إلى عمل المستشرقين الغربيّين على البحث والتأليف في التفسير الموضوعي والدراسات القرآنيّة، فصنّفوا دراسات كثيرة في مجالات ومواضيع مختلفة؛ بجهود فرديّة وجماعيّة.
وقد نحت الدراسات الاستشراقيّة للقرآن عمومًا، والموضوعيّة منها خصوصًا، في الآونة الأخيرة، منحى التأليف الموسوعي والعمل الجماعي؛ كما في "موسوعة القرآن (ليدن)" (Encyclopaedia of the Quran) التي صدرت ما بين 2001-2006م في 6 مجلَّدات، و"موسوعة القرآن" (the Quran: an encyclopedia) لأوليفر ليمان (Oliver leaman) التي صدرت عام 2005م في مجلَّد واحد، وغيرها من الأعمال الموسوعيّة الموضوعيّة التي عمل عليها المستشرقون المعاصرون، وما زالوا يعملون على غيرها من المشاريع حاليًا.
ومن ثمّ توقّف المُحاضِر عند "موسوعة القرآن" (Encyclopaedia of the Quran)، فبيّن أنّها عبارة عن جهد لمجموعة من المستشرقين الغربيّين المعاصرين من مختلف دول العالم الغربيّ، وعلى رأسهم المحرِّر العامّ للموسوعة جين دمن ماك أوليف (Jane Dammen McAuliffe)؛ بالتعاون مع فريق من المستشارين والمحرّرين؛ منهم بعض العرب والمسلمين، وقد حظيت على دعم دار نشر بريل الهولنديّة. وبدأ العمل عليها عام 1993م، واختتم في العام 2006م. وتعتبر هذه الموسوعة جهدًا بحثيًّا استشراقيًّا معاصرًا يحوي مجموعة من البحوث والدراسات المتمحورة حول القرآن الكريم والمرتبطة به بشكل مباشر أو غير مباشر. ولاقت هذه الموسوعة استحسانًا وإعجابًا من قِبَل بعض الباحثين الغربيّين والمسلمين، في حين وجد فيها آخرون (من الغربيّين والمسلمين) نقاط ضعف وخلل علميّ ومنهجيّ ومضمونيّ؛ فكتبت حولها التحقيقات والدراسات التي توقّفت عند جوانبها الإيجابيّة والسلبيّة ونقاط قوّتها وضعفها على مستوى التحقيق والمنهج والمضمون والتصنيف والفهرسة...
وتعرّض المُحاضر خلال محاضرته لأبرز الشخصيّات الغربيّة القديمة التي عملت على البحث في القرآن الكريم، ومدارسها الاستشراقيّة الأوروبيّة؛ الألمانيّة، والبريطانيّة، والفرنسيّة، والمجريّة...؛ من قبيل: الألمانيّ تيودور نولدكه (Theodor Noldke) (ت: 1930م)، ومواطنه رودي باريت (Rudi Paret) (ت: 1983م)، والمجريّ إجنتس جولدتسيهر (Ignaz Goldziher) (ت: 1921م)، والبريطانيّ ريتشارد بيل (Richard Bell) (ت: 1952م)، والفرنسيّ ريجيس بلاشير (Regis Blachere)) (ت: 1973م)، والأستراليّ آرثر جفري (Arthur Jeffery) (ت: 1959م)، و...
كما تناول المحاضِر أبرز الشخصيّات الاستشراقيّة المعاصرة التي صنّفت مصنّفات فرديّة أو شاركت في أعمال ومشاريع جماعيّة لدراسة القرآن الكريم؛ لجهة تاريخه وجمعه وتدوينه؛ بالاعتماد على تقنيات حديثة؛ كفحص الكربون المشع (C14)، والتحقيق في مخطوطات قرآنيّة مكتشفة حديثًا، ... ولجهة تفسيره وفهمه؛ بالاعتماد على مناهج الهرمنيوطيقا والظاهراتيّة والتاريخيّة والسيميائية والسيميوطيقا...؛ من قبيل: المستشرق الفرنسي كلود جيليوت (Claude Gilliot)، ومواطنه المستشرق فرانسوا ديروش (François Déroche)، والمستشرق الأمريكي أوليفر ليمان (Oliver Leaman)، ومواطنته المستشرقة جين دمن ماك أوليف (Jane Dammen McAuliffe)، والمستشرقة الألمانيّة (Angelika Neuwirth)، والمستشرق الكندي أندريه ريبين (AndrewRippin) (1950-2016م)، ...
وختم المُحاضِر محاضرته بالدعوة والحثّ والتأكيد على ضرورة تعلّم اللغات الغربيّة ورصد وتتبّع الأنشطة والدراسات الغربيّة المعاصرة والحديثة للقرآن الكريم، والوقوف عندها بالنقد والتقويم، بل والعمل على تقديم الدراسات القرآنيّة التأصيليّة للغربيّين بلغاتهم؛ وهذا الأمر يحتاج إلى جهود جماعيّة مؤسساتيّة هادفة، تستفيد من الجميع؛ بحسب قدراتهم وإمكانيّاته.