عرفنا ممّا سبق أنّ الكفيل ببيان طريق كمال الإنسان، في عصرنا هذا، هو القرآن الكريم. لكن يبقى السؤال: هل يعني هذا أنّ المؤمن من خلال مجرَّد إطلاعه على آيات القرآن يتمكّن من معرفة الطريق التي تؤدّي به إلى الكمال؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الدور الأساس للقرآن الكريم هو الإضاءة على طريق الكمال والهداية إليها، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾1، إلاّ أنّ كونه كذلك لا يعني أنّه بنفسه يذكر البرنامج التفصيليّ لعبور طريق الهداية، إذ يمكن أن تتحقّق تلك الإضاءة والهداية من خلال إرشاده ودلالته إلى مصدرٍ يحوي برنامج الكمال الإنسانيّ كلِّه.
وهذا ما حصل فعلاً، فالقرآن الكريم في آيات الأحكام الواردة فيه، والتي لا تتجاوز بضعة مئات، بيَّن عمومات أساسيّة من ذلك البرنامج، وبعضًا من تفصيله، أمّا بقيّة البرنامج فقد أرشد القرآن إلى أخذه مِن الرسول الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾2.
وعليه يصحّ القول: إنّ برنامج هداية الإنسان إلى طريق كمال هو: القرآن الكريم + الرسول محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.
عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ
بناءً على ما تقدّم يطرح سؤال هو: من الواضح أنّه يصحّ لنا الاعتماد على القرآن الكريم لمعرفة طريق كمالنا, لأنّه كلام الله، فهو منزّه لا يشوبه خطأ، فهل حال ما يصدر عن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم في بيان طريق الكمال هو حال القرآن الكريم في نزاهته عن الخطأ؟
الجواب: إنّ العقل الإنسانيّ يحكم بوضوح أنّ النبيّ محمّدًا صلى الله عليه وآله وسلم هو معصوم عن أيّ خطأ في تلقّي وبيان طريق الكمال للناس, لأنّ هذا الأمر يرتبط بهدف خلق الله للإنسان، الذي هو سيره في طريق كماله، فقد تقدّم أنّ الله الحكيم يحب منه أن يبيِّن طريق الكمال هذه، فإذا كان القرآن وحده لا يكفي لبيان تفاصيل برنامج الكمال، كان لا بدّ من ضم أمر آخر إليه لبيان ذلك، وهو ما يصدر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وبناءً عليه يجب من الله تعالى أن يعصم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الخطأ في هذا التبليغ لطريق الكمال تلقّيًا وتبليغًا، وإلاّ لحصل خلل من الهدف الإلهيّ من خلق الإنسان.
وقد بيَّن الله تعالى أنّه حصَّن الأنبياء في تبليغهم للرسالات الإلهيّة، بقوله تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا﴾3.
والدليل السابق يختزن محتوًى لا يقتصر على أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فحسب، بل يشمل أمرين آخرين، هما: أفعاله، وتقريره.
عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أفعاله
إذا قام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بعمل ما، فهل يمكن احتمال كون ما يقوم به حرامًا يعاكس السير في طريق الكمال؟
إنّ ما تقدَّم يحسم النتيجة بكون ذلك الاحتمال غير وارد أصلاً, وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بحسب ما ثبت، هو منتخب ومختار من الله تعالى, لبيان الرسالة التي هي خريطة عبور الإنسان إلى كماله، وهو متصل به اتصالاً خاصًّا، أمكنه من خلاله أن يتلقّى كلمات الله تعالى، ليبلّغها للناس، وليكمل تبليغ خريطة الكمال بواسطة تبليغه الخاصّ، فهو يأمر الناس، وينهاهم ويرشدهم إلى طريق الصواب ليتّبعوه، ويزجرهم على اتّباع طريق الخطأ، وهذا ما يجعله في موقع القدوة الأولى للناس.
فلنتصوّر أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الموقع يرتكب حرامًا، ألا يخلَّ هذا بالهدف الإلهيّ، وهو هداية الناس إلى طريق كمالهم؟
بالتأكيد سيضرّ بالهدف، وهذا يعني أنّه لا بدّ أن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم معصومًا عن فعل الحرام، فإذا قام بأيّ فعل، فهو بالتأكيد في دائرة الحلال، وعليه فيمكن لنا أن نستفيد من أفعال النبيّ حكمًا شرعيًّا أنّها ليست حرامًا، وهذا هو الحدّ الأدنى الذي يُستفاد من أفعال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.
عصمة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في تقريره
إذا قام أحد الناس بفعلٍ أمام النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يقم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأيّ ردّ فعل سلبيّ، وهو قادر على ذلك دون أيّ مانع، فإنّ ذلك يعني أنّ هذا الفعل ليس بحرام، لأنّه إن كان حرامًا، ولم ينهَ عنه الرسول، سيفهم الناس أنّه ليس كذلك، ومن الطبيعيّ أن يتناقل الناس هذا الحدث باعتبار الفعل حلالاً، وهذا يناقض دور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بيان طريق الكمال الإنسانيّ، وبالتالي سيضرّ بالهدف من إرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي يرتبط بالهدف من خلق الناس كما تقدَّم.
إنّ هذا يعني أنّ تقرير النبيّ، أي سكوته، وعدم تدخّله عن فعلٍ حصل بحضوره والتفاته، ولم يكن مانع من تدخّله، يدلّ على أنّ هذا الفعل ليس حرامًا.
ممّا تقدّم نفهم أنّنا نستطيع استفادة خريطة الكمال الإنسانيّ، إضافة إلى القرآن الكريم، من أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعاله، وتقريره، وهو ما يصطلح عليه السُّنَّة النبويّة.
السُّنَّة النبويّة = أقوال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم + أفعاله + تقريره
وهذا الأمر يزيد من أهميّة معرفة سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم, باعتبارها مصدرًا تشريعيًّا لمعرفة الأحكام الإلهيّة.
الخلاصة: إنّ الدالّ على طريق الكمال الإنسانيّ في رسالة الإسلام هو:
القرآن الكريم + السُّنَّة النبويّة
من يحفظ السُّنَّة النبويّة؟
تقدّم أنّ الله تعالى حفظ القرآن الكريم من أيّ تحريف, من خلال الطريقة التي بيّناها سابقًا، حتى بات القرآن الكريم نفسه دون زيادة ولا نقصان عند جميع المسلمين بمختلف مذاهبهم واتجاهاتهم.
لكنَّ هذا الأمر لم يحصل في السُّنَّة النبويّة بالطريقة نفسها, إذ نجد اختلافًا بين المسلمين في نقل هذه السنَّة، حتى في أمور كثر تكرارها في حياة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، كالصلاة، فهي رغم أنّها حافظت على عدد ركعاتها، وعلى شكلها العامّ عند جميع المسلمين، إلاّ أنّها كانت موضع اختلاف في بعض التفاصيل، كحال وضع اليدين أثناء القيام، وهكذا الحال بالنسبة إلى الوضوء، إضافةً إلى مفردات أخرى.
وهناك يأتي السؤال بشأن الطريقة التي لا بدَّ أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بوحيٍ من الله تعالى، قد اعتمدها لحفظ هذه السنَّة، ليمكن التوصّل إليها، على الأقل، من قبل من يعتمد تلك الطريقة.
ويظهر الجواب من حديثٍ نبويٍّ متواتر عند المسلمين، يقول فيه صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله، وعترتي (أهل بيتي)، فإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"4.
وهذا الحديث، باعتباره متواترًا هو سُنَّة، وهو يفيد أنّ أهل البيت عليه السلام يشكّلون المرجعيّة الدينيّة التي تعصم من تمسّك بها مع القرآن الكريم من الضلالة، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال كونهم الحفظة للسُّنَّة النبويّة المطهّرة، حفظًا لا يدخله ضلال.
وهذا يعني أنّ أحاديث أهل البيت عليه السلام هي بيان للسُّنَّة النبويّة، وبالتالي لطريق كمال الإنسان، فهم في بياناتهم الشرعيّة يمثِّلون النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في إيضاح طريق الكمال، وهذا ما عنوه
بقولهم الصادر عنهم، "أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وكلّنا محمّد"5.
بعد أن انتهينا من الأسئلة المتعلِّقة بخريطة طريق الكمال الإنسانيّ في آخر رسالة إلهيّة، نفتح المجال لأسئلة تتعلّق بالأنبياء الهداة إلى تلك الطريق في تاريخ البشريّة.
* كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.
1- سورة البقرة، الآية 2.
2- سورة الحشر، الآية 7.
3- سورة الجنّ، الآيات 26-28.
4- الصدوق، محمّد، كمال الدين وتمام النعمة، تحقيق علي أكبر الغفاري، (لا،ط)، قم، مؤسسة النشر الإسلاميّ، 1405هـ، ص 234.
5- المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج25، ص 363.