تمهيد:
إنَ النبي يوسف (ع) هو أحد أنبياء بني إسرائيل, فهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم الخليل (ع),لقد عاش النبي يوسف (ع) في الزمن الذي سيطر فيه مجموعة من الرعاة على مصر عُرِفوا با(لهكسوس), حيث حكم هؤلاء مئتي سنة تقريباً قبل أن يستعيد الفراعنة سيطرتهم على بلاد مصر, حيث كان الناس في ذلك العصر يعانون من آفة الشرك في الربوبيّة , فأولئك القوم كانوا موحدين في الخالقيّة ,ولكنّهم مشركون في التدبير والربوبيّة, بحيث يقولون بأنّ الله قد فوّض أمر التدبير إلى أربابٍ مختلفة, كما شهِد هذا العصر سيطرة من قبل الكهنة الذين كانوا يوهمون الناس بأنّ الكاهن الأعظم منهم نصف إله,وبأنّه يجب عليهم دائماً أن يرسلوا الأموال إلى المعبد لكي لا ينزل بهم غضب الإله.
إنً من خصائص قصّة النبي يوسف(ع) أنّها عُرِضت في القرآن مرّة واحِدة و بجميع حلقاتها, على خلاف سائر القصص التي تكرّر عرضها في القرآن الكريم في أكثر من سورة, و لقد ورد اسم النبي يوسف(ع) في القرآن 27 مرة, كلّها في سورة يوسف باستثناء اثنين في الأنعام[1] و غافر[2].
يُستفاد من سورة غافر أنّ النبي يوسف(ع) نال مقام النبوّة عند إقامته في مصر ,و بُعِث لهداية الناس من الشرك إلى التوحيد, ولكن الناس لم يكترثوا لرسالته, قال سبحانه وهو يخاطب بني إسرائيل في قوم موسى(ع):{ ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبيّنات فما زلتم في شكِ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً كذلك يُضلّ الله من هو مسرفٌ مرتاب }.[3]
إذا أردنا تقسيم حياة النبي يوسف(ع) إلى مراحل , فسنجد أربعة مراحل في حياته:
_ المرحلة الأولى: مرحلة الصبى, حيث كان يعيش يوسف(ع) في بيت أبيه يعقوب(ع), الذي أحبّه حبّاً عميقاً وميّزه في ذلك عن إخوته ممّا أدّى إلى أن يحسدوه على ذلك , ويخططوا لتنفيذ المؤامرة الخبيثة بحقّه.
إنّ الأهمّ في هذه المرحلة أنّ ملامح العناية الربانيّة و الألطاف الإلهيّة التي خصّ الله تعالى بها نبيّه يوف قد بدأت بالظهور منذ صغره عبر رؤية الشمس و القمر والكواكب ساجدة له, وما تبعها من محطّات قد نجح يوسف((ع) في تجاوزها عبر الحماية والتأييد الإلهيين.
_المرحلة الثانية: في بيت عزيز مصر: إنّ هذه الفترة من حياة يوسف هي من أهمّ مراحل حياته, حيث سطّر ملحمة بطوليّة في التصدّي للشهوة والرذيلة, ,وأثبت بأنّه النبيّ المخلَص الذي يستأهل أن يكون الداعي إلى التوحيد.
لقد شبّ يوسف(ع) في بيت عزيز مصر المليء بالمرح والرفاهيّة, وفي كنف امرأة العزيز التي اهتمّت به اهتماماً استثنائياً, ورأت هذا الشاب الجميل يكبر أمامها, فعشقته وهامت بحبه, واستعملت الوسائل والأساليب المتعدّدة في اصطياد قلبه, إلّا أنّ يوسف(ع) وقد استغرق في حبّ ربّه, لم يكن يرى أمامه سواه معشوقاً, فرفض الخضوع لمطالب سيّدته رغم تدبيرها لخطّة محكمة للإيقاع به, حيث وكما تشير الآية بأنّها غلّقت الأبواب, لقد استخدم يوسف ((ع) في مواجهة رغبة سيّدته الجامحة أسلوبَ البرهان , حيث نرى أنّه وبمجرّد أن أمرته بالمبادرة بقولها{ هيت لك}, وهو إسم فعل بمعنى بادِر و أقبِل, بادرها بالقول{ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[4], وهذا الأسلوب البرهاني مغلّف بالوعظ, فقد أراد النبي يوسف (ع) أن تعرف زليخة أنّه لا يركن إلى الأسباب الظاهريّة , كما تتوسّل بها هي عبر إغلاق الأبواب والمراودة ,فلم يجبها بالتهديد أو بأنّه من بيت العصمة والطهارة, أو أنّه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه, بل استمسك بعروة التوحيد, ونسي جميع الأسباب[5], ثمّ في قوله{ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} توضيح لكلمة التوحيد, وخاصة ً التوحيد الأفعالي وأنّه لامؤثر في الوجود إلّا الله, فيوسف(ع) يعتبر أنّ الله حقيقةً هو الذي أحسن مثواه, وإكرام امرأة العزيز لمثواه فعلٌ من الله حقيقةً , وإن كان ظاهراً منهـا, وبما أنّ الله قد أحسن إليه فلا بدّ له أن لا يقابل الإحسان الإلهي بالإساءة, وإلا كان من الظالمين, فكلام النبي يوسف(ع) كلام استدلاليّ, بحيث يمكن ترتيب كلامه في صورة قياسٍ من كبرى وصغرى ونتيجة:
_الصغرى:إنّ الله قد أحسن إلى يوسف(ع).
الكبرى: كل إحسان لا بدّ أن يُقابَل بالإحسان بحكم العقل.
النتيجة: لا بدّ ليوسف أن يقابل الإحسان الإلهي بالخضوع له وتوحيده توحيداً خالصاً, واللوذ به دون الأسباب الظاهريّة, وإلّا كان من الظالمين.
ننتقل إلى الآية الثانية في هذه المرحلة التي يشير النبي يوسف (ع) فيها إلى نقطة هامّة في أصول الدعوة إلى الله, وهي الاعتصام بالله دائماً, والرجوع إليه في المواقف الحرِجة, والتي لا بُدّ فيها من الاستعانة بالمدد الإلهي لتجاوز المحنة,{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[6],{ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[7], فيوسف الذي أحسّ بالرعاية الإلهيّة منذ نعومة أظافره عبر الرؤية التي رآها, ثمّ نجاته من مكيدة إخوته, ثمّ البرهان الإلهيّ الذي أتاه وصرف عنه السوء والفحشاء { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}, لقد تعدّدت التفسيرات لهذه الآية الكريمة, ما بين مجحفٍ إلى أقصى الحدود في حقّ نبي الله (ع), قائلٍ بأنّه همّ بها وجلس منها جلسة المجامع, وقد حلّ تكّة سرواله, لولا أن رأى برهان ربّه الذي تعدّدت التفسيرات له ايضاً, كالقول بأنّ طائراً وقع على كتفه ونهاه عن فعل القبيح, أو أنّه رأى يعقوب(ع) عاضّاً على إصبعه,أو أنّه تمثّل له فضرب صدره بضربةٍ قويّةٍ أخرجت شهوته من أنامله, فضلاً عن القول بأنّ آياتٍ بدأت تنهمر عليه وهو لا يرتدِع إلى أن نزل جبرائيل ومنعه من المعصيةوهذا لا يتناسب مع رجلٍ زانٍ,فضلاً عن نبيٍ مخلَصٍ,ومعتدلٍ يقول بأنّ يوسف(ع) كاد أن يستجيب لرغبتها بطبيعة كونه بشرأً لم يتزوًج لولا أن رأى برهان ربّه وهو روح التقوى ومقام العصمة[8],وهذا التفسير على الرغم من اعتداله بالنسبة إلى التفسير الأوّل ,إلّا أنه أيضاّ لا يتلاءم مع مقام العصمة النبويّة.
إنّ التفسير الأنسب في هذا المقام هو الذي يرتئيه السيّد الطباطبائي في تفسير الميزان حيث يعتبر أنّ اللام في القول{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } للقسم, والمعنى: أُقسِمُ,أي أنّ الله يقسِمُ أنّ زليخة لقد قصدت يوسف بما تريده منه, وقوله:{ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة,والمعنى:أقسم لولا رؤيته برهان ربّه لهمّ بها وكاد أن يجيبها لما تريد منه, فلولا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهمّ والاقتراب,دون الاقتراب والاقتراف[9], أمّا البرهان فهو السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب المختص بعباد الله المخلَصين, أيّ نوع من العلم المكشوف واليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانيّة طاعةً لا تميل معها إلى معصية أصلاً.
لقد عرضت بعض التفاسير لهذه الآية نظراً لحساسيّتها, وكثرة ما قيل فيها من تفاسير, والخلاصة أنّ يوسف (ع) وكما جميع الأنبياء يعتبرون الاستغاثة وطلب العون من الله تعالى من أساسيّات الدعوة وطريقها المحفوف بالمكاره, حيث تبرز الحاجة إلى التأييد والتسديد الإلهيين.
-المرحلةالثالثة:حياة يوسف في السجن وخروجه منه.
على الرغم من الآيات العديدة التي دلّت على براءة يوسف(ع), والتي عرضها القرآن الكريم كشهادة شخص من أسرتها ,إلّا أنّ سلطة امرأة العزيز وتمكّنها من قلب زوجها ورأيه جعلاه يصدر حكماً جائراً بحقّ يوسف(ع) بسجنه إلى حين,لإظهار أنّ يوسف هو المذنب دونها.
في السجن برز يوسف (ع) كمثالٍ يُحتذى به في الأخلاق والسلوك الحسن حتّى نال ثقة المساجين ممّا أدّى إلى تقربهم إليه, وفي هذا إشارة إلى أنّ السلوك الحسن والأخلاق الفاضلة قد تلعب دوراً تبليغيّاً أفضل وأجدى من الدعوة الكلاميّة البرهانيّة أو الوعظية, وهذا ما تشير له الآية الكريمة { نبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}{ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ},{ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ},{ يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار},{ُ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
اغتنم يوسف (ع) فرصة إقبال السجينين عليه, للقيام بمسؤوليّة التبليغ والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك منتهِجاً أسلوب التدريج في الدعوة, حيث سعى أوّلاً إلى زرع عامل الثقة , وإبراز آية تدلّ على نبوّته , وكون علمه ببعض الأسرار كقدرته على تعبير الرؤى هو من إفاضات الله تعالى عليه وليس ضرباً من العلوم والمعارف البشريّة, وهذا بمثابة التمهيد لإثبات النبوّة والارتباط بالغيب ليكون الكلام المسوق بعد ذلك في التوحيد موضعاً للقبول .
بعد هذا التمهيد الأوليّ بدأ يوسف بتمهيداتٍ أخرى لإلقاء البرهان التوحيديّ بعد ذلك , حيث اعتبر نفسه بريئاً من دين القوم القائم على الشرك وإنكار المعاد, وفي هذا إشارة سلِسة ولطيفة إلى بطلا ن عقيدة الفتيين السجينين, وأكّد بعد ذلك انتماءه إلى الأسرة التوحيديّة الخالصة, وهي أسرة أبي الأنبياء إبراهيم (ع), ليكون ذلك أدعى لقبول كلامه, وأنّ هذه الاسرة لم يجعل الله تعالى لها سبيلاً إلى الشرك بجعل تأييدٍ وتسديدٍ, وليس جعل إجبارٍ وإلجاء, بحيث أنعم عليهم بالنبوّة والرسالة المانعة عن الشرك.
لقد استخدم النبي في هذه الآيات أسلوبأً مهمّاً من أساليب الاستقطاب الدعوي, فقد بدأ أوّلاً بمحاولة زرع الثقة بينه وبين المدعوين, وهذا أساسيُ للقبول, فالناس بجبلّتهم وفطرتهم لا يقبلون إلّا ممّن يثقون به, ثمّ نقض عقيدة السجينين الفاسدة ولكن بطريقة ذكيّة ومهذّبة , بحيث قال{ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}, فلم يقل لهم أنتم كفّار بالتصريح والمباشرة لما في ذلك من التنفير والغلظة, بل نبّههم على ذلك بحديثه عن نفسه, وبطريقة ٍ غير مباشرة.
النقطة الثالثة هي الأسلوب التدريجي واعتماد مقدّمات ضروريّة, وتمهيدات موضوعيّة قبل الدخول في صلب مضمون الدعوة والبرهان, لكي تحصل النتيجة المرجوّة والمتوخّاة من البرهان, وهذا اساسي في عمليّة التبليغ, إذ إنّ عرض المطالب والبراهين بدون المقدّمات المطلوبة قد يؤدي احياناً إلى عكس النتيجة المرجوة , وإلى التنفير بدلاً من التقريب.
بعد هذه التمهيدات بدأ يوسف (ع) بإلقاء البرهان{ يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار},
في هاتين الآيتين استخدم النبي يوسف (ع) أرقى أساليب التأثير على مخاطبيه, بحيث خاطبهم بالصاحبين,لكي يحسّا بالقرب منه,وأنّه على الرغم ممّا خصّه الله به من العلم والحكمة , إلّا أنّه لا يتكبّر عليهما ويعتبرهما صاحبيه, هذه إشارة مهمّة حيث ينبغي للداعي والعالم أن يكون قريباً من الناس , وأن لا يشعرهم بالفوقيّة والتعالي, ثمّ عرض بعد ذلك عقيدة التوحيد بطريقة برهانيّة في صورة الاستفهام التقريري, بحيث تجنّب بذلك النقد الصريح والمباشر لعقيدة الشرك التي كان يعتقد بها أولئك القوم.
لقد انطلق النبي من واقع القوم الذين كانوا يعبدون أرباباً متعدّدة كالملائكة باعتبارهم صفات الله وتجلياته التي تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم, فهناك إله العلم وإله القدرة وإله الخصب...,ويعبدون الجن وهم مبادئ الشر, كالموت والفناء والألم, كما يعبدون أفراداً من الأولياء والجبابرة من السلاطين وغيرهم, وهؤلاء جميعاً متفرّقون من حيث أعيانهم وأصنامهم والتماثيل المنصوبة لهم, إلّا أنّ شرك القوم لم يكن شركاً في الخالقيّة,إذ كان الاعتراف بوجود إله قاهر أمراً متفقاً عليه بين يوسف وصاحبيه, والشرك كان في التدبير, إذ كان القوم يقولون بأنّ الله فوّض أمر التدبير إلى الأرباب المختلفة, كل يدبّر شأناً من شؤؤن الكون والإنسان.
الشرك الثاني كان في العبادة حيث أنّهم كانوا يخصّون هذه الآلهة بالعبادة, بحجة أنّ الله ارفع وأجل من أن تحيط به عقولنا, فلا يسعنا التقرب إليه, بل نتقرّب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفةالمؤثرة في تدبير العالم لكي يشفعوا لنا لدى هذا الإله.
إذن إذا كان الله هو القهّار باعتراف القوم والباقون هم المقهورون , فمن أولى بالعبادة ؟ والقاهر هو الذي أعطى لهم الوجود والقوة والقدرة, فمبدأ القوة والقدرة هو الأولى بالعبادة والتدبير دون المستمدّين من هذا المبدأ.
لقد ساق النبي هذا البرهان مسلّما جدلاً بمقولة وجود الأرباب المتفرّقين من دون الله, إلّأ أنّه في الآية اللاحقة يقوم بإبطال أصل مبدأ وجود أرباب من دون الله {ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. إنّ هذه الأرباب التي يعبدونها من دون الله ليس لها حظ ونصيب من الربوبية إلّا الأسماء, فهي ليست أرباباً, وكلّ ما لديها من قدرة على التدبير ليس إلّا من عند الله, ووصف الربوبيّة أنتم الذين أطلقتموه عليها دون وجود اي دليل على هذا المدّعى الزائف.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}
في هذه الآية يستثمر يوسف (ع) عامل الثقة الذي نشب بينه وبين السجينين من أجل تمرير مطلب مهم, لو يتحقق سوف يساهم مساهمة فعّالة في إنجاح المسار الدعوي للنبي يوسف(ع), وهو الخروج من السجن, وهذا عامل مهم في عمل المبلّغ , وهو استثمار الفرص وعدم تضييعها,فالنبي و بعد تفسير رؤيا السجينين, وعرض برهان التوحيد أراد استثمار ذلك, والتمسك بهذا السبب الطبيعي لا ينافي التوحيد الإلهي, لأنّه تمسك بها كسنن لله سبحانه في الكون والمجتمع, وليس تمسّك بها بالأصالة والاستقلال عن الله تعالى.
إنّ هذا الاستثمار للفرص يتبلور أكثر في الآيات اللاحقة بحيث وإن لم تنجح المحاولة الأولى للنبي , بحيث أنّ الناجي من السجن نسي ما أوصاه يوسف(ع),إلّا أنّ المحاولة الثانية كانت ناجحة, إذ أنّ الناسي تذكّر ما قام به يوسف في السجن من تأويل للرؤيا,وبعد ان فسّر يوسف (ع) رؤيا الملك وحاز على ثقته أراد النبي تبرئة ساحته من التهم الموجّهة إليه, فانبي لا يساوم على سمعته مهما كان,لذلك طلب من الملك وقبل الخروج من السجن إعادة فتح القضيّة التي أدّت إلى إدخاله السجن, وبالفعل قد تمّ ذلك,وظهرت البراءة اليوسفيّة , حتّى أنّ نفس امرأة العزيز اعترفت بذلك.
المرحلة الرابعة:انتخاب يوسف (ع) للوزارة.
المورد الثالث لحسن استغلال الفرص هو تمنّي يوسف (ع) على الملك بأن يجعله على خزائن الأرض لمالذلك من أهميّة بالنسبة ليوسف في تنظيم أوضاع البلاد المصريّة, والتمكّن أكثر من الدعوة إلى التوحيد, وهنا لا بدّ من لفت النظر إلى نقطة أخرى مهمّة , وهي أنّ الأنبياء ليسوا مصلحين فقط في المجال الديني والتشريعي, بل إنّ الأنبياء لديهم من القدرة والمواهب ما يمكنهم من قيادة المجتمع في مختلف النواحي الروحيّة والمعنويّة بالإضافة إلى الماديّة, وهذا ما حقّقه يوسف بعدما تسلّم خزينة مصر, بحيث قدر بحكمته ودرايته أن يخرج البلاد من أزمتها.
إنّ أبرز ما في هذه المرحلة بعد ما ذكرته من حسن استغلال الفرص, هو الحنكة والذكاء اليوسفي في التعامل مع إخوته, إذ أنّ يوسف استخدم خطّة محكمة لكي يلمّ شمل العائلة في مصر من جديد,بالإضافة إلى الذكاء والصرامة والحزم , بحيث أنّ يوسف وكما جميع الرسل الإلهيين قد عفا عند المقدرة عن إخوته, بالرغم ممّا عاناه منهم{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين}, إلّا أنّه ووفقاً لما تتطلّبه الرسالة الإلهيّة منه قد لقّنهم دروساً صعبة لكي تكون هذه الدروس عبرة لهم لكي لا يعودوا إلى مثل هذه الفعلة , ولكي يتحسّسوا عظم ما قاموا به من خطيئة تجاه أخيهم, وهذا من الأسس المهمّة التي لا بدّ أن تحكم عمل الأنبياء, إذ إنّ العاطفة والأحاسيس المرهَفة لا بدّ أن تُضبَط في بعض المواقف التي تتطلّب إعمال العقل والحكمة, وإلّا فإنّ سيطرة العاطفة في مثل تلك الامور ستكون ذات تداعيات سلبيّة واضحة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - الآية 84.
[2] - الآية 34 .
[3] - غافر 34.
[4]-يوسف 35 .
[5] - نقلاً عن الميزان في تفسير القرآن,مؤسسة الاعلمي للمطبوعات,ط2 ,1972 م,ج11 ,ص123 ,بتصرف.
[6] -يوسف33 .
[7] -يوسف34 .
[8] -الشيرازي,ناصر مكارم(شيخ):مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل,إعداد:أحمد علي بابائي,دار جواد الأئمّة, ط1 ,2007 م,ج2 ,ص453 .
[9] -الميزان في تفسير القرآن,مصدر سابق,ج11 ,ص 128 .