قال تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّی لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾([1]).
إشارات:
- لا جرم أنّ من يحثّ الخطی في سبيل الله، فإنّه سيکفيه رزقه في هذه الدنيا. لقد نذرت أمّ مريم ابنتها لله تعالی، ويقول الله في هذه الآية (ما معناه) لقد تعهّدنا مريم بالرعاية والرشد والنمو، وکذلک بعثنا لها من يکفلها ويقوم بشؤونها، علاوة علی مائدة السماء التي أنزلناها.
- الرزق بلا حساب يعني أنّه من السعة والکبر بحيث يتجاوز الحسابات العامّة، وليس معناه أنّه لا يعرف حسابه أو عدّه، «يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
- لقد نشأت السيدة مريم ونمت نموّاً مضطرداً ومتکاملاً من الناحية الجسمية، «وأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا».
- والحقيقة، لقد تضافرت لها عوامل الکمال والطهر واکتمل فيها نسيج الإيمان والإخلاص، فکانت هي الأمّ، وکان المسجد مکان تربيتها ورعايتها، والنبي زکريا الکافل لها والملتزم بمصالحها، وطعامها من طيب الجنّة، فلا عجب أن تکون ثمرة هذه العوامل مولوداً مثل النبي عيسی عليه السلام.
ومن المعلوم أنّ جملة من العوامل تترک تأثيرها في تربية الأبناء، وهي کالتالي:
الحضن الطاهر للأم، «َتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ».
الجسم الصحيح والسليم، «نَبَاتًا حَسَنًا».
الإعداد والتربية الإلهية، «كَفَّلَهَا زَكَرِيَّا».
الطعام الطيب الحلال، «وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا».
روي عن النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم أنه جاع في زمن قحط، فأهدت فاطمة رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع إليها، وقال الراوي: فكشف عن الطبق فإذا هو مملو خبزاً ولحماً، فبهتت وعلم أنها نزلت من عند الله، فقال النبي صلّی الله عليه وآله وسلّم: أنّی لك هذا؟ فقالت: "هو من عند الله (إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب)، فقال: "الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل". ثم جمع رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتی شبعوا، وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة علی جيرانها"([2]).
التعاليم:
١ـ إجابة الدعاء من تجلّيات ربوبيّة الله، «فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا».
٢ـ القبول الإلهي علی درجات ومراتب، فالله تعالی تقبّل نذر أمّ مريم قبولاً حسناً، «بِقَبُولٍ حَسَنٍ».
٣ـ من أخلص قلبه لله، فسوف يتقبّل منه عمله، «بِقَبُولٍ حَسَنٍ».
٤ـ لقد نذرت أمّ مريم مولودها ليخدم في بيت الله، فاستجاب لها الله بأن جعل نبيّه زکريا خادم وکافل هذه الطفلة، «وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا».
٥ ـ من حظي بکفالة الأنبياء ورعايتهم کان في مأمن من وساوس الشيطان، «أُعِيذُهَا.. مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ... وكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا».
٦ـ ينبغي إلَّا تکون العبادة مرحلية عابرة، «كُلَّمَا دَخَلَ».
٧ـ شرط الکفالة هو الإشراف والمتابعة، «كَفَّلَهَا.. دَخَلَ عَلَيْهَا..أَنّی لَكِ هَذَا».
٨ ـ العبادة حرب علی الشيطان، ومکان العبادة – المحراب- هو ميدان الحرب، «دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ».
٩ـ الرزق الطيّب في کنف العبادة، «الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا».
١٠ـ بإمکان المرأة أن ترتقي منزلة تثير إعجاب الأنبياء، «أَنّی لَكِ هَذَا».
١١ـ تذکّروا أنّ جميع النعم هي من فضل الله، لا بفضل سعيکم، «هُو مِنْ عِنْدِ اللهِ».
١٢ـ الله قادر علی أن يرزق خارج سياق الأسباب المادية، «هُو مِنْ عِنْدِ اللهِ».
تفسير النور، سماحة الشيخ محسن قراءتي - بتصرّف
([1]) آل عمران: 37.
([2]) تفسير روح البيان، ج٢، ص٢٩.