﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[1].
تمهيد
عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): «مَنْ طَلَبَ الْغِنَى وَالْأَمْوَالَ وَالسَّعَةَ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّمَا يَطْلُبُ ذَلِكَ لِلرَّاحَةِ. وَالرَّاحَةُ لَمْ تُخْلَقْ فِي الدُّنْيَا، وَلَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا، إِنَّمَا خُلِقَتِ الرَّاحَةُ فِي الْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ الْجَنَّةِ؛ وَالتَّعَبُ وَالنَّصَبُ خُلِقَا فِي الدُّنْيَا وَلِأَهْلِ الدُّنْيَا... ثمّ قال (عليه السلام): كَلَّا، مَا تَعِب أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لِلدُّنْيَا، بَلْ تَعِبُوا فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَة»[2].
ما هو نمط الحياة؟
يُبيِّن نمطُ الحياة مجموعةً كبيرة وواسعة من السلوكيّات الإنسانيّة، التي تحكي علاقة الفرد بخالقه، وبنفسه، وبالأفراد المحيطين به، لا، بل علاقته بالموجودات الأخرى. ويتمحور نمط الحياة، بشكل أساسيّ، حول القيم التي تُحدّد علاقات الإنسان تلك، وتجعله يرجّح نوعًا معيّنًا من التعاملات مع محيطه[3].
محدّدات نمط الحياة الإسلاميّ
تحدّث الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حول نمط الحياة ودوره وأهمّيّته، فأكَّد أنّه تابعٌ لفهمنا للحياة والهدف منها[4]. فإذا كان هدف الإنسان المؤمن الوصول إلى رضا الله -تعالى- والسعادة الدنيويّة والأخرويّة... فهذا يرتّب عليه طريقةً خاصّة في الحياة الدنيا، توصله إلى ذلك الهدف. من هنا، حَدّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) الأطرَ التي تحدّد نمط الحياة الإسلاميّ، منها:
1. الاستناد إلى القرآن الكريم في تنميط الحياة: إذ إنّ التطوّر في الأبعاد المعنويّة والمادّيّة للإنسان، يتوقّف على العمل بالقرآن الكريم[5]، باعتبار أنّه أوضح الأنماط السلوكيَّة التي بها تتحدَّد شخصيّة المؤمن؛ ومن ثمّ الهويّة الإسلاميّة للمجتمع.
في دعاء الإمام زين العابدين (عليه السلام) في ختمة القرآن: «اللَّهُمَّ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاجْبُرْ بِالْقُرْآنِ خَلَّتَنَا مِنْ عَدَمِ الْإِمْلَاقِ، وَسُقْ إِلَيْنَا بِهِ رَغَدَ الْعَيْشِ وَخِصْبَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ، وَجَنِّبْنَا بِهِ مِنْ الضَّرَائِبِ الْمَذْمُومَةِ وَمَدَانِي الْأَخْلَاقِ، وَاعْصِمْنَا بِهِ مِنْ هَبْوَةِ الْكُفْرِ وَدَوَاعِي النِّفَاقِ، حَتَّى يَكُونَ لَنَا فِي الْقِيَامَةِ إِلَى رِضْوَانِكَ وَجِنَانِكَ قَائِدًا، وَلَنَا فِي الدُّنْيَا عَنْ سَخَطِكَ وَتَعَدِّي حُدُودِكَ ذَائِدًا»[6].
2. الرجوع إلى الدين الإسلاميّ في كافّة الشؤون: والتي تُبيِّن أنّ الدين الإسلاميّ هو الذي يتولّى مسؤوليّة التكامل البشريّ في كافّة الأبعاد والشؤون الفرديّة والاجتماعيّة[7].
قال -تعالى-: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[8]. وبعبارة مختصرة، أَوْلى الإسلامُ اهتمامًا خاصًّا لنمط الحياة، فجعله منسجمًا مع الأهداف العليا للوجود الإنسانيّ، الذي يضمن صلاح الدارَين.
مقوّمات نمط الحياة الإسلاميّ
1. الاقتصاد والاعتدال
والمقصود منه الابتعاد عن الإسراف والإقتار. أمّا الإسراف، فهو الاستزادة من الأمور الدنيويّة، وصرف الشيء في غير المصلحة المقرَّرة له. وأمّا الإقتار، فهو التضييق على النفس والعيال[9]. وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: «وَعَلَيْكَ بِالقَصْدِ، فَإِنَّهُ أَعْوَنُ شَيْءٍ عَلَى حُسْنِ العَيْشِ»[10].
2. القناعة
القناعة هي شعور النفس بعدم الرغبة فيما هو أكثر من حاجتها، ويترتّب عليها الرضى بالرزق الإلهيّ، وعدم الاعتماد على غيره. يُروى أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) قال لرجلٍ لا يقنع بما يصيب من الدنيا: «إِنْ كَانَ مَا يَكْفِيكَ يُغْنِيكَ، فَأَدْنَى مَا فِيهَا يُغْنِيكَ؛ وَإِنْ كَانَ مَا يَكْفِيكَ لَا يُغْنِيكَ، فَكُلُّ مَا فِيهَا لَا يُغْنِيكَ»[11].
3. الزهد
والمقصود به عدم التعلّق باللذائذ الدنيويّة، بحيث يكون لها التأثير الكبير على مستوى الحياة، على حساب الأبعاد الأخرويّة للحياة الإنسانيّة. عن الإمام الصادق (عليه السلام): «جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّه فِي بَيْتٍ، وجُعِلَ مِفْتَاحُه الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا»[12].
نمط الحياة الغربيّ
لا يمكن اعتبار نمط الحياة الغربيّ، بالنسبة إلى البلاد الإسلاميّة وغيرها، مجرّد سلوكيّات أو أفكار بعيدة عن أهداف الهيمنة، بل هو وسيلة إخضاع ثقافيّ وسياسيّ واقتصاديّ. يقول أحد الكتّاب الغربيّين: إنّ وسائل الإعلام الأمريكيّ «تُروِّج عبر العالَم للحلم الأمريكيّ، الذي أصبح هو النمط المثاليّ للحياة، وهو الذي يسعى لتحقيقه كلّ إنسان، وحينها تتلخَّص السعادة بالنسبة إليك، في أنْ ترتدي الجينز الأزرق، وتستمع لموسيقى الروك...»[13].
قال -تعالى-: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾[14]. وقال سبحانه: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[15].
مقوّمات نمط الحياة الغربيّ
1. ثقافة الاستهلاك
راجت ثقافة الاستهلاك على يد شركاتٍ تجاريّةٍ وماليّة عالميّة، تهدف إلى الربح وزيادة نسبة المستهلكين، وبالطبع تغيير الهويّة الثقافيّة؛ لخلق بيئة ثقافيّة تُروِّج للبضاعة، مستفيدةً من الرموز والإشارات ومظاهر الغناء والحفلات... ومستغلّةً جسد المرأة في التسويق. وتعمل هذه الشركات على درس عادات الشعوب وتقاليدها، لتوظّف ذلك في عمليّة تحويل الأذواق والميول إلى الصور النمطيّة التي تريدها. فظهر الميل نحو شراء الكماليّات على حساب الأساسيّات، وظاهرة التسوّق التي لا تنبع من الحاجة، بل بدأنا نشتري على أساس جمال المكان وأساليب العرض... وليس على أساس الحاجة الواقعيّة.
عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «لِلْمُسْرِفِ ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ: يَأْكُلُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَشْتَرِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَلْبَسُ مَا لَيْسَ لَهُ»[16].
2. ثقافة الترفيه
ليس المقصود رفض الترفيه بالمطلق، بل المقصود رفض الترفيه الذي يصبح وسيلةً لترويج الأفكار والأيديولوجيّات. وأمّا مظاهر الترفيه، فعديدة وكثيرة، تبدأ بأجهزة التلفزيون والكمبيوتر وتقنيّات الإنترنت، ولا تنتهي في كيفيّة إقامة الاحتفالات والأعياد ومراسم الزفاف وغيرها.
قال -تعالى-: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[17]. وقال سبحانه: ﴿وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾[18].
3. سطوة الموضة
تحتلّ الموضة، بأشكالها، حيِّزًا كبيرًا من حياة أغلب الناس، يُقبِلون عليها تقليدًا للآخر، من دون معرفة الأسباب الحقيقيّة لذلك، متناسين أنّ الموضة تحكي عن نوع الثقافة والقيم التي نحملها، بدءًا من اللّباس والمظهر وتسريحة الشعر والأوشام، وليس انتهاءً بالعبارات والسلوكيّات التي تحكي عن الآخر، وليس عن المجتمع المتديِّن.
قال -تعالى-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ﴾[19].
كيفيّة المواجهة
1. الحفاظ على الثقافة المحليّة الأصيلة
يؤكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) على التحوّل الذي يُحدِثه تقليدُ الغرب في نمط حياة الشعوب الأخرى، قائلًا: «إنّ تقليد الغرب، بالنسبة إلى الدول التي استحسنَت هذا التقليد لنفسها وعملَت به، لم يَعُد عليها إلّا بالضرر والفاجعة، بما في ذلك الدول التي وصلَت -بحسب الظاهر- إلى الصناعات والاختراعات والثروة، لكنّها كانت مقلِّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثقافات. فأينما جاء الغربيّون، أبادوا الثقافات المحلّيّة، واجتثّوا الأسُس الاجتماعيّة، وغيّروا تاريخ الشعوب ولغاتها وحروفها (خطوطها) ما استطاعوا»[20].
2. ثورة النخب والمؤسّسات الثقافيّة
وحول ضرورة تحمُّل المسؤوليّة تجاه ذلك، قال الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «وبعد كشف العلل والأسباب، ننهض لتناول كيفيّة معالجة هذه الأمور. فعلى مَن تقع هذه المهامّ؟ إنّها تقع على عاتق النخب الفكريّة والسياسيّة، وعلى عاتقكم، وعلى عاتق الشباب. النخب مسؤولون، وكذلك الحوزة والجامعة والوسائل الإعلاميّة والمنابر المختلفة ومديرو الكثير من الأجهزة، وخصوصًا الأجهزة العاملة في المجال الثقافيّ والتربية والتعليم، وأولئك الذين يخطّطون للجامعات أو المدارس في المجال التعليميّ، والذين يحدّدون المناهج التعليميّة ومخطَّطات الكتب الدراسيّة. يجب علينا أن نستنفر جميعًا ونعلّي الصوت»[21].
ـــــــــــــــــــــ
[1] سورة النحل، الآية 97.
[2] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، الخصال، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرِّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1403ه - 1362ش، لا.ط، ص65.
[3] راجع: مهدوي كني، سعيد، الدين ونمط الحياة، جامعة الإمام الصادق (عليه السلام)، إيران - طهران، لا.ت، لا.ط، ص78.
[4] من كلام الإمام الخامنئيّ دام ظلّه بتاريخ 2/10/2012م.
[5] المصدر نفسه.
[6] الطوسي، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه - 1991م، ط1، ج2، ص519.
[7] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) بتاريخ 2/10/2012م.
[8] سورة النحل، الآية 89.
[9] راجع: الراغب الأصفهانيّ، أبو القاسم الحسين بن محمّد، المفردات في غريب القرآن، دفتر نشر الكتاب، لا.م، 1404ه، ط2، ص292.
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص335.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص139.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص128.
[13] راجع: نيثان غردلز، الإعلام الأمريكيّ بعد العراق: حرب القوة الناعمة، المركز القومي للترجمة، مصر - القاهرة، 2015م، ط1.
[14] سورة هود، الآية 113.
[15] سورة النساء، الآية 115.
[16] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مصدر سابق، ج3، ص167.
[17] سورة الأنعام، الآية 32.
[18] سورة الأنعام، الآية 70.
[19] سورة آل عمران، الآية 156.
[20] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تاريخ 14/10/2012م.
[21] من كلام الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في تاريخ 14/10/2012م.