{إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَـفِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآء فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّة وَتَصْرِيفِ الرِّيَـحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ لاََيَـت لِّقَوْم يَعْقِلُونَ}
* مظاهر عظمة الله في الكون: حيثما كان «النظم والإنسجام»، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة، وأينما كان «التنسيق» فهو دليل على الوحدة. من هنا، حينما نشاهد مظاهر النظم والإنسجام في الكون من جهة، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة اُخرى، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر. هذه الآية مسوقة للدلالة والبرهنة على ما تضمنته الآية السابقة أعني قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد} وهي تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون، وكل واحد آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر.
1 – {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...} من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته، السماء وكرات العالم العلوي، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم الثابتة والسيارة، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات، ولا يمكن رؤية بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع.... الشاسع للغاية، والتي تنتظم مع بعضها في نظام دقيق مترابط. وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة، تتجلّى بمظاهر مختلفة وتتلبس بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان. ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدّم العلم، ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون! يقول العلم لنا اليوم: إن في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم السّاطعة، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحيّة! حقاً ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!!
2 – {وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...} من الدّلائل الاُخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار، والظلمة والنور بنظام خاص، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل. لو انعدم هذا التغيير التدريجي، أو انعدم النظام في هذا التدريج، أو انعدم تعاقب الليل والنهار لإِنمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية، ولو بقيت واستمرت - فرضاً - لأصابتها الفوضى والخبط.
وهو النقيصة والزيادة والطول والقصر العارضان لهما من جهة اجتماع عاملين من العوامل الطبيعية، وهي الحركة اليومية التي للأرض على مركزها وهي ترسم الليل والنهار بمواجهة نصف الكرة وأزيد بقليل دائما مع الشمس فتكتسب النور وتمص الحرارة، ويسمى النهار، واستتار الشمس عن النصف الآخر وأنقص بقليل فيدخل تحت الظل المخروطي وتبقى مظلما وتسمى الليل، ولا يزالان يدوران حول الأرض، والعامل الآخر ميل سطح الدائرة الإستوائية أو المعدل عن سطح المدار الأرضي في الحركة الانتقالية إلى الشمال والجنوب، وهو الذي يوجب ميل الشمس من المعدل إلى الشمال أو الجنوب الراسم للفصول، وهذا يوجب استواء الليل والنهار في منطقة خط الإستواء وفي القطبين، أما القطبان فلهما في كل سنة شمسية تامة يوم وليلة واحدة كل منهما يعدل نصف السنة، والليل في قطب الشمال نهار في قطب الجنوب وبالعكس، وأما النقطة الاستوائية فلها في كل سنة شمسية ثلاثمائة وخمس وستون ليلا ونهارا تقريبا والنهار والليل فيها متساويان، وأما بقية المناطق فيختلف النهار والليل فيها عددا وفي الطول والقصر بحسب القرب من النقطة الاستوائية ومن القطبين، وهذا كله مشروح مبين في العلوم المربوطة بها.
3 – {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ} الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع. وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها تقوم على عدّة أنظمة:
o نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية، فهناك الرياح القارية التي تهبّ من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خطّ الإستواء وبالعكس .
o وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام معين، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.
o أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية، التي تساعد البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار، إضافة إلى استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.
والفلك هو السفينة يطلق على الواحد والجمع، والفلك والفلكة كالتمر والتمرة والمراد بما ينفع الناس المتاع والرزق تنقلها من ساحل إلى ساحل ومن قطر من أقطار الأرض إلى قطر آخر. فالفلك أيضا مثل سائر الموجودات الطبيعية تفتقر إلى الإله في وجودها وتفتقر إلى الإله في تدبير أمرها من غير فرق، وقد أشار تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ الصافات: 96، حيث حكاه من إبراهيم فيما قاله لقومه في خصوص الأصنام التي اتخذوها آلهة فإن من المعلوم أن الصنم ليس إلا موجودا صناعيا كالفلك التي تجري في البحر، وقال تعالى: ﴿ له الجوار المنشئات في البحر كالأعلام﴾ الرحمن: 24، فعدها ملكا لنفسه، وقال تعالى: ﴿وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بإذنه﴾
4 – {وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة... } من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.
5 – {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ..} لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب، بل
o على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.
o وتارة لتحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض السقاء لايجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية.
o واُخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة، وبالعكس.
o واحياناً تقوم بنقل الهواء الملوّث الفاقد للاوكسجين من المدن إلى الصحاري والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.
6 – {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ...} والسحب المتراكمة في أعالي الجو، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية، والمتحركة من نقطة إلى اُخرى دون ايجاد خطر، من مظاهر عظمة الله سبحانه. إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الَّذي يخرج من خلال السحاب يحيي الأرض، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإِنسان، ولولا ذلك لتحولت الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة. وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.
السحاب البخار المتكاثف الذي منه الأمطار وهو ضباب بالفتح ما لم ينفصل من الأرض فإذا انفصل وعلا سمي سحابا وغيما وغماما وغير ذلك، والتسخير قهر الشيء وتذليله في عمله، والسحاب مسخر مقهور في سيره وإمطاره بالريح والبرودة وغيرهما المسلطة عليه بإذن الله، والكلام في كون السحاب آية نظير الكلام في غيره مما عد معه.
وكل تلك العلامات والمظاهر {لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ}، لا للغافلين الصم البكم العمي.