عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ1، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ! فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا"2.
منظومة الصدق المتكاملة
1- مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ:
لقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مُدخله ومُخرجه على الصدق، فقال: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾3, فمُدخل الصدق ومُخرج الصدق، أن يكون دخوله وخروجه حقّاً ثابتاً بالله.
وهكذا يدعو المؤمنون ربّهم، أن يُدخلهم مُدخل صدق، ويخرجهم مُخرج صدق، لأنّ ذلك وسيلة إلى نعمة كبيرة، هي أن يجعل الله لهم من لدنه سلطاناً نصيراً. الإنسان يريد أن يبلغ النتائج من دون جهد كافٍ في المقدّمات، يريد علماً بلا تعلّم، ومالاً بلا جهد، ومنعة بلا تضحية، وهذا قد يحصل، ولكنّه غير نافع كثيراً، وغير حاصل دائماً، إنّما الرشد في أن تحصل على نعمة العلم والمال والعزّة، وأنت تستحقّها بجدارة، لأنّك بذلت جهداً كافياً لها، وقد وصلت إلى غايتك بعد أن توفّرت فيك المؤهِّلات الكافية.
وهذا صحيح بالنسبة إلى النعم كلّها، ولعلّه أصدق ما يكون بالنسبة الى نعمة الرئاسة، إذ إنّ أكثر الناس يتمنّونها من دون أن يوفّروا في أنفسهم مؤهِّلاتها. ويبدو أنّ خاتمة الآية تشير الى أنّ السلطان والنصرة يستحقّها من يوفّقه الله سبحانه، ليدخل مُدخل صدق ويخرج مُخرج صدق.
2- لسان الصدق:
قال سبحانه: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾4. وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾5.
أولاً: المراد بلسان الصدق، ما يردّده الناس جيلاً بعد جيل، من حسن الثناء على الأنبياء، وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل، الذي لا كذب فيه، والعليُّ هو الرفيع، والمعنى: وجعلنا لهم ثناءً جميلاً صادقاً رفيع القدر6.
ثانياً: إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب إبراهيم ودعائه الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء، فإنّ أولئك كانوا يريدون طرد إبراهيم وأسرته وإبعادهم من المجتمع الإنسانيّ، بحيث لا يبقى لهم أيّ أثر أو خبر، ويُنسَون إلى الأبد، إلّا أنّ الذي حدث هو عكس ذلك، فإنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة، التي كانت مُلقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرَفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى ومقارعة الباطل7.
واللسان الصادق قد يكون لك، وقد يكون عليك، فاذا كنت صالحاً، فإنّ ذلك اللسان يمدحك بصدق، وإلاّ فإنّه لا يمدحك، بل قد يذمّك -لا سمح الله-. ولعلّ هذا هو السبب الذي يدعو المؤمنين إلى طلب لسان الصدق، أي أنْ يعملوا عملاً صالحاً، ثمّ يراه الصادقون من عباد الله، ويُثنون عليهم بما عملوه من صالح الأعمال.
ونستفيد من الآية: إنّ من التطلّعات المشروعة للبشر، أن يثني عليهم الذين يأتون من بعدهم، ولكن ينبغي أن يكون الثناء عليهم بما فعلوه من صالح الأفعال، أمّا إذا أحبّ الإنسان أن يُمدَح بما لم يفعل، فإنّه رذيلة، قال الله سبحانه: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾8.
3- قدم صدق:
بشّر الله عباده بأنّ لهم عنده قدمَ صدق، فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾9.
عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ "قَالَ وَلَايَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ"10.
أيْ بشِّرِ الذين آمنوا بولاية عليٍّ، بأنّ لهم قدماً صادقةً في مَقام المجاهدة مع النفس والأعداء عند ربّهم، ويمكن أن تجعل كناية عن أنّ لهم مرتبة سابقة، هي مرتبة الإقرار بالولاية في عالم الميثاق11. ولعلّ المراد ولايتهم، أو شفاعتهم، أو المراد بالقدم المُتقدّم في العزِّ والشرف، أو لهم منزلة رفيعة بما قدّموا من أعمالهم، هذه الأمور كلّها وردت في الروايات12.
يبدو أنّ القدم قد تزلّ عند الابتلاء، وقد تثبت، فإذا ثبتت فإنّها قدم صدق.
أمّا لماذا أضيفت كلمة الصدق إلى القدم؟ فلأنّ أقدام المؤمنين لا تزلّ في الدنيا عن قواعد الدين، ولا تزلّ في الآخرة عن الصــراط، والله يثبّت الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، حيث قال سبحانــه: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾13.
والمؤمنون يسألون ربّهم أن يثبّت أقدامهم، ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾14.
فالقدم الثابتة قدم صدق، لأنّ الصدق هو المطابق للواقع. وإذا وضعت رجلك في موقع مناسب، بحيث استقرّت فيه أو تطابقت مع الأرض، فقد تثبت ولا تزول.
ومن هنا، لا بدّ من أن يكون عندنا ثبات في الولاية، وفي كتاب أخطب خوارزم، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصراط صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا صراط الدنيا، فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا صراط الآخرة، فهو جسر جهنّم، من عرف صراط الدنيا جاز صراط الآخرة"15.
وقد وصف أمير المؤمنين النبيّ في دعاء الصباح: "وَالثَّابِتِ القَدَمِ عَلى زَحالِيفِها فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ"، والزُحلفة (بضمّ الزاء)، هي آثار تزلّج الصبيان من فوق التلّ إلى أسفله، وهي مكان منحدر يملس، لأنّهم يزحلفون فيه، والزحلفة كالدحرجة والدفع، يُقال: زحلفته فتزحلف" في الزمن، أي الزمان "الأوّل"، المراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي ثبّت قدمه على المواضع التي هي مظانّ مزلّة القدم، قبل النبوّة أو في أوائل زمان النبوّة16.
4- مقعد صدق:
قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾17, قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾، أي مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وقيل: وصفه بالصدق لكونه رفيعاً مرضيَّاً، وقيل: لدوام النعيم به، وقيل: لأنّ الله صدق وعد أوليائه فيه ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، أي عند الله سبحانه، فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شيءٌ، والعنديّة عنديّة مكانة، لا عنديّة مكان، لاستحالتها عليه تعالى. وحينئذٍ، فالمعنى أنّهم يكونون في مقعد صدق، بحيث يكونون مقرّبين منه تعالى قرباً معنويّاً18.
والمقعد الصدق هو الذي يستقرّ بصاحبه ويطابقه ويناسبه، فلا يزعج عنه. وإذا دخل الإنسان مدخلاً يناسبه، دخله بثبات قدم، وبجهد كافٍ، وبحكمة بالغة، فإنّه قد دخل مدخل صدق، أمّا إذا دخل في موقع لا يناسبه، أو لم يبذل الجهد الكافي للعمل الذي دخل فيه، أو خرج منه قبل أن يستكمل العمل، فإنّه قد دخل مدخلاً غير صدق، وخرج مخرجاً غير صدق.
هوامش
1- أي يبالغ فيه ويجتهد.
2- البخاريّ: صحيح البخاريّ، ج7، ص 95، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401 - 1981 م.
3- سورة الإسراء، الآية 80.
4- سورة الشعراء، الآية 84.
5- سورة مريم، الآية 50.
6- تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائيّ، مصدر سابق، ج 14، ص 62.
7- ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 9، ص 464.
8- سورة آل عمران، الآية 188.
9- سورة يونس، الآية 2.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 422، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية،ح50.
11- المازندراني، محمد صالح: شرح أصول الكافي، ج7، ص 83، ضبط وتصحيح: السيّد علي عاشور، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 2000م، ط1،باب معرفة الإمام والردّ إليه،ح50.
12- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 24، ص 40 - 41، ح1و2و3.
13- سورة إبراهيم، الآية 27.
14- سورة آل عمران، الآية 147.
15- الشيرازيّ، محمّد طاهر القمّيّ: كتاب الأربعين، 78، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، المطبعة: أمير،1418ه، ط1.
16- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ص253، ج91.
17- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
18- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص 103.
منظومة الصدق المتكاملة
1- مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ:
لقد أمر الله تعالى رسوله أن يسأله أن يجعل مُدخله ومُخرجه على الصدق، فقال: ﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا﴾3, فمُدخل الصدق ومُخرج الصدق، أن يكون دخوله وخروجه حقّاً ثابتاً بالله.
وهكذا يدعو المؤمنون ربّهم، أن يُدخلهم مُدخل صدق، ويخرجهم مُخرج صدق، لأنّ ذلك وسيلة إلى نعمة كبيرة، هي أن يجعل الله لهم من لدنه سلطاناً نصيراً. الإنسان يريد أن يبلغ النتائج من دون جهد كافٍ في المقدّمات، يريد علماً بلا تعلّم، ومالاً بلا جهد، ومنعة بلا تضحية، وهذا قد يحصل، ولكنّه غير نافع كثيراً، وغير حاصل دائماً، إنّما الرشد في أن تحصل على نعمة العلم والمال والعزّة، وأنت تستحقّها بجدارة، لأنّك بذلت جهداً كافياً لها، وقد وصلت إلى غايتك بعد أن توفّرت فيك المؤهِّلات الكافية.
وهذا صحيح بالنسبة إلى النعم كلّها، ولعلّه أصدق ما يكون بالنسبة الى نعمة الرئاسة، إذ إنّ أكثر الناس يتمنّونها من دون أن يوفّروا في أنفسهم مؤهِّلاتها. ويبدو أنّ خاتمة الآية تشير الى أنّ السلطان والنصرة يستحقّها من يوفّقه الله سبحانه، ليدخل مُدخل صدق ويخرج مُخرج صدق.
2- لسان الصدق:
قال سبحانه: ﴿وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾4. وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾5.
أولاً: المراد بلسان الصدق، ما يردّده الناس جيلاً بعد جيل، من حسن الثناء على الأنبياء، وإذا أضيف إلى الصدق فهو الثناء الجميل، الذي لا كذب فيه، والعليُّ هو الرفيع، والمعنى: وجعلنا لهم ثناءً جميلاً صادقاً رفيع القدر6.
ثانياً: إنّ هذا في الحقيقة إجابة لطلب إبراهيم ودعائه الذي جاء في الآية (84) من سورة الشعراء، فإنّ أولئك كانوا يريدون طرد إبراهيم وأسرته وإبعادهم من المجتمع الإنسانيّ، بحيث لا يبقى لهم أيّ أثر أو خبر، ويُنسَون إلى الأبد، إلّا أنّ الذي حدث هو عكس ذلك، فإنّ الله سبحانه قد رفع ذكرهم نتيجة إيثارهم وتضحيتهم واستقامتهم في أداء الرسالة، التي كانت مُلقاة على عاتقهم، وجعل أسماءهم تجري على ألسنة شعوب العالم، ويُعرَفون كأسوة ونموذج في معرفة الله والجهاد والطهارة والتقوى ومقارعة الباطل7.
واللسان الصادق قد يكون لك، وقد يكون عليك، فاذا كنت صالحاً، فإنّ ذلك اللسان يمدحك بصدق، وإلاّ فإنّه لا يمدحك، بل قد يذمّك -لا سمح الله-. ولعلّ هذا هو السبب الذي يدعو المؤمنين إلى طلب لسان الصدق، أي أنْ يعملوا عملاً صالحاً، ثمّ يراه الصادقون من عباد الله، ويُثنون عليهم بما عملوه من صالح الأعمال.
ونستفيد من الآية: إنّ من التطلّعات المشروعة للبشر، أن يثني عليهم الذين يأتون من بعدهم، ولكن ينبغي أن يكون الثناء عليهم بما فعلوه من صالح الأفعال، أمّا إذا أحبّ الإنسان أن يُمدَح بما لم يفعل، فإنّه رذيلة، قال الله سبحانه: ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾8.
3- قدم صدق:
بشّر الله عباده بأنّ لهم عنده قدمَ صدق، فقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ﴾9.
عنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ "قَالَ وَلَايَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ"10.
أيْ بشِّرِ الذين آمنوا بولاية عليٍّ، بأنّ لهم قدماً صادقةً في مَقام المجاهدة مع النفس والأعداء عند ربّهم، ويمكن أن تجعل كناية عن أنّ لهم مرتبة سابقة، هي مرتبة الإقرار بالولاية في عالم الميثاق11. ولعلّ المراد ولايتهم، أو شفاعتهم، أو المراد بالقدم المُتقدّم في العزِّ والشرف، أو لهم منزلة رفيعة بما قدّموا من أعمالهم، هذه الأمور كلّها وردت في الروايات12.
يبدو أنّ القدم قد تزلّ عند الابتلاء، وقد تثبت، فإذا ثبتت فإنّها قدم صدق.
أمّا لماذا أضيفت كلمة الصدق إلى القدم؟ فلأنّ أقدام المؤمنين لا تزلّ في الدنيا عن قواعد الدين، ولا تزلّ في الآخرة عن الصــراط، والله يثبّت الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة، حيث قال سبحانــه: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء﴾13.
والمؤمنون يسألون ربّهم أن يثبّت أقدامهم، ويقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾14.
فالقدم الثابتة قدم صدق، لأنّ الصدق هو المطابق للواقع. وإذا وضعت رجلك في موقع مناسب، بحيث استقرّت فيه أو تطابقت مع الأرض، فقد تثبت ولا تزول.
ومن هنا، لا بدّ من أن يكون عندنا ثبات في الولاية، وفي كتاب أخطب خوارزم، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصراط صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا صراط الدنيا، فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا صراط الآخرة، فهو جسر جهنّم، من عرف صراط الدنيا جاز صراط الآخرة"15.
وقد وصف أمير المؤمنين النبيّ في دعاء الصباح: "وَالثَّابِتِ القَدَمِ عَلى زَحالِيفِها فِي الزَّمَنِ الأَوَّلِ"، والزُحلفة (بضمّ الزاء)، هي آثار تزلّج الصبيان من فوق التلّ إلى أسفله، وهي مكان منحدر يملس، لأنّهم يزحلفون فيه، والزحلفة كالدحرجة والدفع، يُقال: زحلفته فتزحلف" في الزمن، أي الزمان "الأوّل"، المراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الذي ثبّت قدمه على المواضع التي هي مظانّ مزلّة القدم، قبل النبوّة أو في أوائل زمان النبوّة16.
4- مقعد صدق:
قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾17, قوله: ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ﴾، أي مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم، وقيل: وصفه بالصدق لكونه رفيعاً مرضيَّاً، وقيل: لدوام النعيم به، وقيل: لأنّ الله صدق وعد أوليائه فيه ﴿عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾، أي عند الله سبحانه، فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شيءٌ، والعنديّة عنديّة مكانة، لا عنديّة مكان، لاستحالتها عليه تعالى. وحينئذٍ، فالمعنى أنّهم يكونون في مقعد صدق، بحيث يكونون مقرّبين منه تعالى قرباً معنويّاً18.
والمقعد الصدق هو الذي يستقرّ بصاحبه ويطابقه ويناسبه، فلا يزعج عنه. وإذا دخل الإنسان مدخلاً يناسبه، دخله بثبات قدم، وبجهد كافٍ، وبحكمة بالغة، فإنّه قد دخل مدخل صدق، أمّا إذا دخل في موقع لا يناسبه، أو لم يبذل الجهد الكافي للعمل الذي دخل فيه، أو خرج منه قبل أن يستكمل العمل، فإنّه قد دخل مدخلاً غير صدق، وخرج مخرجاً غير صدق.
هوامش
1- أي يبالغ فيه ويجتهد.
2- البخاريّ: صحيح البخاريّ، ج7، ص 95، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401 - 1981 م.
3- سورة الإسراء، الآية 80.
4- سورة الشعراء، الآية 84.
5- سورة مريم، الآية 50.
6- تفسير الميزان، محمّد حسين الطباطبائيّ، مصدر سابق، ج 14، ص 62.
7- ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 9، ص 464.
8- سورة آل عمران، الآية 188.
9- سورة يونس، الآية 2.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 422، باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية،ح50.
11- المازندراني، محمد صالح: شرح أصول الكافي، ج7، ص 83، ضبط وتصحيح: السيّد علي عاشور، مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعراني، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 2000م، ط1،باب معرفة الإمام والردّ إليه،ح50.
12- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 24، ص 40 - 41، ح1و2و3.
13- سورة إبراهيم، الآية 27.
14- سورة آل عمران، الآية 147.
15- الشيرازيّ، محمّد طاهر القمّيّ: كتاب الأربعين، 78، تحقيق: السيّد مهدي الرجائي، المطبعة: أمير،1418ه، ط1.
16- العلامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ص253، ج91.
17- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
18- ينظر: العلامة محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج8، ص 103.