النصر
أ- نصر الله تعالى:
في القرآن الكريم كثير من الآيات الكريمة تضيف النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى:
﴿أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾1.
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾2.
﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾3.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
وهذه الإضافة أي إضافة النصر إلى الله تعالى تعني أنّ النصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، فإنّ كل شيء في الوجود لا يمكن له أن يستغني عن العون والمدد والتوفيق الإلهيّ، وهي إمدادات غيبيّة ترتفع عن المسائل الحسيّة. وقبل الحديث عن أنواع الإمدادات وشروطها، نتعرّض بالإشارة إلى مصطلحين قرآنيّين:
1- الرحمة الرحمانيّة:
هي الألطاف الإلهيّة الشاملة لكلِّ الموجودات للمؤمن وغيره، فوجود كلّ شيء في هذا العالم بنفسه رحمة لذلك الموجود. وكذلك تعتبر كلّ الوسائل الّتي خُلقت لأجل وجوده والحفاظ على بقائه رحمة له أيضاً، وهذه الرحمة تُفاض وفق قوانين طبيعيّة عامّة.
2- الرحمة الرحيميّة:
هي تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، الّتي تشمل المكلَّف المؤمن خاصّة لحسن طاعته وامتثاله وأدائه، وهي تُفاض وفق شروط وقوانين خاصّة ومعيّنة.
ونحن نطلب من الله تعالى هذا النوع الخاصّ من الرحمة يوميّاً في صلاتنا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾4.
وتشمل هذه الألطاف الإنسان في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة وتُنقذه من كثير من المآزق.
وقد شمل الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بمثل هذه الألطاف حيث يقول القرآن بحقّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾5.
فالإنسان المؤمن بحاجة إلى مثل تلك الألطاف الإلهيّة الخاصّة، والنصر من الله تعالى هو لُطف منه على عباده المؤمنين، وهو مدد غيبيّ لا يتحقّق إلّا بشروط أقرّها الله تعالى.
ب- شروط النصر الإلهي
1- الإيمان: يقول تعالى: ﴿كَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِين﴾ 6.
2- العمل والجهاد: قال تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ 7.
فقوله: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ في هذه الآية، يُفهم منه صريحاً أنّ إعطاء ومنح النصر مشروط بمن يعمل وينصر ويجاهد في سبيل الله، والآيات الكريمة في الحثّ على الجهاد كثيرة، فليس الأمر كما قال اليهود للنبيّ موسى عليه السلام حين أمرهم بالقتال لدخول الأرض المقدّسة: ﴿ ... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾8.
3- الأمل والصدق: يقول تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾9.
فنلاحظ أنّ الله تعالى أراد للمؤمنين رغم ما بهم من ضيق وضرّ وبأساء أن يأملوا نصر الله فهو قريب.
ويقول أمير المؤمنين والمجاهدين الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة: "... ولقد كان الرجل منّا والآخر من عدوِّنا يتصاولان تصاول الفحلَين، يتخالسان أنفسهما أيّهما يسقي صاحبه كأس المنون، فمرّة لنا من عدوّنا ومرّة لعدوّنا منا، فلمّا رأى الله صدقنا أنزل لعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتّى استقرَّ الإسلام..."10.
4 - في سبيل الله: أن يكون العمل والجهاد كلّه في سبيل الله، فالنصرة لا بدّ أن تكون لله: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ .
والمجاهدة لا بدّ أن تكون في الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾11.
5- إعداد العدّة: قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾12.
إذاً لا يتحقّق المدد الغيبيّ والنصر الإلهيّ عبثاً ولا مجّاناً ونحن عاكفون في البيوت كما قال اليهود لنبيّهم: ﴿... فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾13.
بل لا بدّ من توفّر الشروط الموضوعيّة لكي تتحقّق الألطاف الإلهيّة، وليست هذه الشروط من المستحيلات.
فدروس وعبر المسلمين الأوائل إلهامات مهمَّة لكي نأخذ منها المدد والدروس الواقعيّة.
ج- النصر ودخول الناس في الإسلام:
إنّ النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتَصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف. لذلك نرى السورة الكريمة ترتّب على النصر دخول الناس في دين الله أفواجاً.
د- استمراريّة النصر مشروطة:
النصر تعقبه انفعالات نفسيّة خطيرة على المنتصرين كالعجب، والغرور، والتكبّر، والاقتناع بما وصلوا إليه، إلى غير ذلك من الصفات. من هنا ولكي يستمرّ النصر لا بدّ من إزالة هذه الرذائل الأخلاقيّة من نفوس المؤمنين، بالتسبيح والاستغفار والشكر، والتواضع أمام نعم الله سبحانه والاعتقاد بأنّ هذه النعمة العظيمة منه عزَّ وجلَّ، وملك له متى ما شاء أخذها، وبذلك تدوم العلاقة بالله تعالى.
خلاصة الدرس
في القرآن الكريم كثير من الآيات الكريمة تضيف النصر إلى الله تعالى، يقول تعالى:
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ﴾14.
والنصر يحتاج إلى مدد إلهيّ، أمّا أسبابه فهي: الإيمان، العمل والجهاد، الأمل والصدق، في سبيل الله، وإعداد العدّة.
إنّ النصر له آثار مهمّة على النّاس المنتصر عليهم وغيرهم، من حيث تهيئتهم للدخول في الإسلام العظيم، فالناس مع المنتصر القويّ، لا مع المنهزم الضعيف.
ولكي يستمرّ النصر لا بدّ من إزالة الرذائل الأخلاقيّة من نفوس المؤمنين كالتكبّر والاستعلاء وحبّ النفس..
للمطالعة
سورة النصر
﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾ .
شرح المفردات:
1- دين الله: الإسلام.
2- أفواجاً: جماعة بعد جماعة وزمرة بعد زمرة.
3- سبِّح: نزّه.
محتوى السورة وفضيلتها:
نزلت هذه السورة في المدينة المنوّرة بعد الهجرة، وفيها بُشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وهي تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يسبّح الله ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة، وكذا سائر المؤمنين.
في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكنّ فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى "فتح مكّة"، خاصّة وأنّ العرب كما جاء في الروايات كانت تعتقد أنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يفتح مكّة إلّا إذا كان على حقّ... ولو لم يكن على حقّ فربُّ البيت يمنعه كما منع جيش "أبرهة". ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكّة أفواجاً.
وقد نزلت هذه السورة بعد "صلح الحديبيّة" في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكّة.
أمّا ما ذكره بعضهم من نزول هذه السورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّاً، لأنّ عبارات السورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.
ومن أسماء هذه السور "التوديع" لأنّها تشعر بقرب رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه عزّ وجلّ.
في الرواية أنّ هذه السورة لمّا نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العبّاس فبكى.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا عمّ؟
فقال: أظنّ أنه قد نُعيت إليك نفسك يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إنّه لكما تقول 15"
ظاهر السورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل عن الفتح والنصر. فكيف فهم العبّاس أنّها تنعى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؟
يبدو أنّ دلالة السورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الّذي أوحى بقرب ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربّه.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
"من قرأ ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾16 في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرِّ جهنّم...".
هوامش
1-سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة آل عمران، الآية: 126.
3-سورة التوبة، الآية: 25.
4-سورة الفاتحة، الآية: 5.
5-سورة الضحى، الآيات: 6 ـ 8.
6-سورة الروم، الآية: 47.
7-سورة محمد، الآية: 7.
8- سورة المائدة، الآية: 24.
9-سورة البقرة، الآية: 214.
10- نهج البلاغة، من كلام له في وصف حربهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ج1، ص104، تحقيق الشيخ محمد عبده، الخطبة 56.
11-سورة العنكبوت، الآية: 69.
12-سورة الأنفال، الآية: 60.
13-سورة المائدة، الآية: 24.
14-سورة آل عمران، الآية: 126.
15-مجمع البيان، ج10، ص 554. هذه الرواية وردت بألفاظ مختلفة: الميزان، ج20، ص532.
16-م.ن.
نزلت هذه السورة في المدينة المنوّرة بعد الهجرة، وفيها بُشرى النصر العظيم ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وهي تدعو النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يسبّح الله ويحمده ويستغفره شكراً على هذه النعمة، وكذا سائر المؤمنين.
في الإسلام فتوحات كثيرة، ولكنّ فتحاً بالمواصفات المذكورة في السورة ما كان سوى "فتح مكّة"، خاصّة وأنّ العرب كما جاء في الروايات كانت تعتقد أنّ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يفتح مكّة إلّا إذا كان على حقّ... ولو لم يكن على حقّ فربُّ البيت يمنعه كما منع جيش "أبرهة". ولذلك دخل العرب في دين الله بعد فتح مكّة أفواجاً.
وقد نزلت هذه السورة بعد "صلح الحديبيّة" في السنة السادسة للهجرة، وقبل عامين من فتح مكّة.
أمّا ما ذكره بعضهم من نزول هذه السورة بعد فتح مكّة في السنة العاشرة للهجرة في حجّة الوداع فبعيد جدّاً، لأنّ عبارات السورة لا تنسجم وهذا المعنى، فهي تخبر عن حادثة ترتبط بالمستقبل لا بالماضي.
ومن أسماء هذه السور "التوديع" لأنّها تشعر بقرب رحلة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربّه عزّ وجلّ.
في الرواية أنّ هذه السورة لمّا نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العبّاس فبكى.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما يبكيك يا عمّ؟
فقال: أظنّ أنه قد نُعيت إليك نفسك يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " إنّه لكما تقول 15"
ظاهر السورة ليس فيه إنباء عن قرب رحلة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بل عن الفتح والنصر. فكيف فهم العبّاس أنّها تنعى إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه؟
يبدو أنّ دلالة السورة على اكتمال الرسالة وتثبيت الدين هو الّذي أوحى بقرب ارتحال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى جوار ربّه.
عن الإمام الصادق عليه السلام قال:
"من قرأ ﴿إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾16 في نافلة أو فريضة نصره الله على جميع أعدائه، وجاء يوم القيامة ومعه كتاب ينطق قد أخرجه الله من جوف قبره، فيه أمان من حرِّ جهنّم...".
هوامش
1-سورة البقرة، الآية: 214.
2- سورة آل عمران، الآية: 126.
3-سورة التوبة، الآية: 25.
4-سورة الفاتحة، الآية: 5.
5-سورة الضحى، الآيات: 6 ـ 8.
6-سورة الروم، الآية: 47.
7-سورة محمد، الآية: 7.
8- سورة المائدة، الآية: 24.
9-سورة البقرة، الآية: 214.
10- نهج البلاغة، من كلام له في وصف حربهم على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ج1، ص104، تحقيق الشيخ محمد عبده، الخطبة 56.
11-سورة العنكبوت، الآية: 69.
12-سورة الأنفال، الآية: 60.
13-سورة المائدة، الآية: 24.
14-سورة آل عمران، الآية: 126.
15-مجمع البيان، ج10، ص 554. هذه الرواية وردت بألفاظ مختلفة: الميزان، ج20، ص532.
16-م.ن.