الجمعة 22 تشرين الثاني 2024 الموافق لـ 12 جمادى الاولى 1446هـ

» إضـــــاءات قــــرآنــية

صغائر الذّنوب

إنّ المؤمن يفرح بطاعته لله عزّ وجلّ، ويحزن لمعصيته ويندم عليها، ويحاول الخروج من أسرها والعودة إلى الطاعة من جديد، فيستغفر من ذنبه ويُتبِع سيّئته بحسنة لعلَّها تمحوها. ولا يزال العبد في قلقٍ ما دام يغلب على عمله الخلط بين الحسنات والسيّئات، ولا ريب أنّ فرحه بالطاعة لا يكتمل حتَّى يخرج من دائرة الحزن والقلق التي تشُدُّه إليها ذنوبه.

والخطر الأكبر على المؤمن يكمن في ارتكابه الكبائر من الذّنوب التي تُشكِّل أزمةً حقيقيةً في سلوكه إلى الله. ولكنّ الصغائر أو اللمم - التي قد يتجاوز الله عنها - ربما تُوهِمُ بعضَ النَّاس أنّ المساحة بينها وبين الكبائر شاسعةٌ جداً، فهو حين ارتكابه للصغيرة سيكون في مأمن من ارتكابه للكبيرة، وهذا حتماً من تسويلات النَّفس الأمَّارة بالسُّوء ووسوسة الشَّيطان. ذلك أنّه ثمّة تجاذُبٌ وتبادلٌ بين الكبائر والصغائر يسقط فيها الغافلون، ويتهشَّم في إطارها ذلك الفاصل الزجاجيّ الرقيق بين صغائر الذّنوب وكبائرها فلا يصحو أولئك الغافلون من خطر بعض الصغائر إلّا وقد تلبَّسوا بالكبائر، فالصَّغائر ممهّداتٌ للكبائر وخطواتٌ على طريق الوقوع فيها. ولعلَّ أبلغ تعبيرٍ في القرآن في هذا المجال قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾1.

فعلى المؤمن أن يتجنَّبَ الصَّغائر، وأن يلتفت إلى الموارد التي تنقلب فيها هذه الصَّغائر إلى كبائر كما يُستفاد من بعض الرِّوايات، إذ وردَ عن الإمام الرِّضا عليه السلام: "الصَّغائر من الذّنوب طرقٌ إلى الكبائر، ومن لم يخَف الله في القليل لم يَخَفْهُ في الكثير..."2.

الصغائر طرق إلى الكبائر
ذكرت الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة عليهم السلام العديد من الموارد التي تتبدّل فيها الصغائر إلى كبائر، نذكر منها:

1- الإصرار على الذَّنب:
يستفاد من الآيات القرآنية والأحاديث الشَّريفة أنَّ ممارسةَ الذَّنب لعدّة مرَّاتٍ وعدمَ المبادرة إلى التوبة يُعدّ إصراراً على الذَّنب الذي هو عين المعصية لله تعالى. فقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "إيّاك والإصرار فإنّه من أكبر الكبائر، وأعظم الجرائم"3.

مثاله: العين بحسب الروايات قد تزني، وزناها النظر، ولكن زنا النظر أصغر من الزِّنا المصطلح، فمع الإصرار والمواظبة على هذا النظر يصبح هذا النوع من الزنا كبيرة، فقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾4. فالآية كما هو واضح تشترط أنّه إذا ترك الإنسان الإصرار صحّت توبته وغفر الله ذنبه. فالإصرار على الذَّنب يستوجب الاستهانة بأمر الله تعالى وعدم رعاية مقامه تعالى، سواءً أكان الذَّنب المذكور من الصَّغائر أم من الكبائر5.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار"6. وروي عن الإمام عليّ عليه السلام: "من أصرّ على ذنبه، اجترأ على ربه"7.فالإصرار لا يُبقي الصَّغيرة على حالها، لأنَّ الإصرار عليها معصيةٌ أخرى تنضمُّ إلى الأولى، فما دام مصرِّاً على ما يفعله توالت المعاصي وتكاثرت وتراكمت حتَّى تغدو كبيرةً، ولا سيّما إذا كان الإصرارُ يتضمَّنُ الاستهانةَ بالله تعالى وأوامره. والسبب في تحويل الصَّغيرة إلى كبيرة هو تراكم الظلمة على القلب الذي هو أشبه بالصدأ الذي يصيب الحديد، وينتشر فيه شيئاً فشيئاً، ويشتدّ كلّما تراكم الصدأ عليه فيؤدّي إلى تلفه، وهكذا ارتكاب الصغائر والإصرار عليها.

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتوا بحطب، فقالوا: يا رسول الله، نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب! قال: فليأتِ كلّ إنسان بما قدر عليه. فجاؤوا به حتَّى رموا بين يديه بعضه على بعضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا تجتمع الذّنوب، ثم قال: إيّاكم والمحقّرات من الذّنوب، فإنّ لكل شيء طالباً، ألّا وإنّ طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين"8.

معاني وأوجه الإصرار:

ذُكِر للإصرار عدة أوجه منها:
- أن يذنب الذَّنب فلا يستغفر منه أصلاً.
- أن لا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك إصرار أيضاً.
- الإكثار من الذّنوب، سواء أكانت من نوع واحد أو أكثر.
- المداومة على نوع واحد منها.

والمحصّلة التربوية من فكرة الإصرار على الذَّنب، أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار على الذّنب المتكرِّر منه مهما كان الذنب صغيراً، وهذا معنى قولهم: "لا كبيرة مع الاستغفار" (طبقاً لشروط الاستغفار)! كما أنَّ من يكرّر الصَّغيرة ولا يتبعها استغفاراً فإنَّ ذلك يحوِّلُها إلى كبيرةٍ، وهو معنى قولهم: "لا صغيرة مع الإصرار".


2- الاستهانة بالذَّنب:
قد مرَّ هذا الموضوع تحت عنوان المحقَّرات من الذّنوب، وقيل إنّ هذه الذُّنوب لا تُغفر بسبب تحقيرِها والاستهانةِ والاستخفافِ بها.

فلو فرضنا أنَّ أحداً رمى شخصاً عمداً بالرَّصاص فجرحه، وبعد ذلك أراد أنْ يتوبَ من ذنبه، فندم واعتذرَ من الشَّخص المضروب، فمن الممكن أن يسامحَهُ ويصفحَ عنه، مع أن ما ارتكبه كبيرةٌ!

ولكن لو فرضنا أنّه رماه بالحصى الصغير عمداً مراراً، ولم يعتذر منه بحجَّة أنّها مسألةٌ بسيطةٌ وليست سبباً مهمّاً للاعتذار، واستخفَّ بهذا الأمر واستصغره، فمن الطَّبيعيّ أن لا يسامحَه ولا يصفحَ عنه، لأنّ ما فعلَهُ نابعٌ من تكبُّره واستهانته بذنبه.

وقد روي عن سماعة، أنه قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: "لا تستكثروا كثيرَ الخير، ولا تستقلّوا قليلَ الذّنوب، فإنّ قليلَ الذّنوب يجتمعُ حتَّى يكون كثيراً. وخافوا الله في السرّ حتَّى تقطعوا من أنفسكم النَصَف9"10.

فينبغي للمؤمن أن لا يلتفت إلى قَدْرِ المعصية وحجمها، ولكن إلى قَدْرِ من عصى، فلا ينتهك حرمات الله تعالى.

3- الابتهاج والسُّرور واللذّة عند الابتلاء بالذَّنب:
الابتهاج هو الإحساس باللذّة والسُّرور عند اقتراف الذَّنب، كأنْ يشعرَ براحةٍ خاصَّةٍ لما يصدر عنه من معاصٍ، فإنَّ المعصية -وإن كانت صغيرةً- قد تتحوَّلُ إلى كبيرةٍ بسبب الابتهاج بها. فبعضهم يقع في المعصية فيسعد بها أو يتظاهر بالسَّعادة أمام الآخرين، فهذا السُّرور بالذَّنب أكبر من الذَّنب نفسه، فقد روي عن الإمام عليّ عليه السلام: "شرُّ الأشرار من يتبجَّحُ بالشرّ"11، وعنه عليه السلام أيضاً: "من تلذَّذ بمعاصي الله أورثه الله ذلاً"12.وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "إيّاك والابتهاج بالذَّنب، فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه"13. وعنه عليه السلام أيضاً: "حلاوةُ المعصية يفسدُها أليم العقوبة"14.

4- اقتراف الذَّنب عند الطُّغيان:
إنّ من الأسباب التي تبدِّل الصَّغائر إلى كبائر هو صدور الذَّنب عن حالة من الطُّغيان. والطُّغيان يعني تجاوز الحدّ. فتهاون الإنسان وارتكابه للصغيرة من غير أن يعبأ بأمرها هو مصداق للطُّغيان والاستهانة بأمر الله تعالى، فقد قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾15.

ويقول الله تعالى متحدِّثاً عن جزاء الطغيان والطغاةفي آية أخرى: ﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾16, ويقول أيضاً: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا﴾17.

5- الاغترار بالسِّتر الإلهيّ:
من الموارد التي تحوّل الذَّنب الصَّغير ذنباً كبيراً، أن يخالج المذنبَ تفكيرٌ بأنّ عدم مجازاة الله السريعة له تدلّ على عدم سخطه عليه، وأنّه تعالى أمهله في الدُّنيا وسترَ عليه، ولن يعاقبَهُ في الآخرة.

وقد جاء معنى ذلك في قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾18, فهم كانوا يقولون لو كان محمّد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً لعذّبنا الله، فقال تعالى: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ﴾ أي يكفيهم ذلك عذاباً، وهذا دليل على اغترارهم بعدم تعرّضهم للعذاب في هذه الدُّنيا، وطمعهم بأن يكون ذلك هو مصيرهم يوم القيامة أيضاً!!


6- التَّجاهر بالمعصية:
إنّ التَّجاهر بالذَّنب أمام النَّاس يبدِّلُ الذُّنوب الصَّغيرة إلى كبيرة، لأنَّ هذا التجاهر يعبِّر عن صفة التجرّؤ على الأوامر الإلهية والاستهانة بها.

فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: "المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيِّئة مخذولٌ، والمستتر بالسيِّئة مغفورٌ له"19.

فالمذيع بالسيِّئة مخذولٌ، لأنَّ في إذاعتها استخفافاً بالدِّين، واستهانة بالذَّنب، وتبجّحاً به، واستحساناً له، وترويجاً له بين العوام، وهتكاً لما ستره الله عليه بفضله، وكلُّ ذلك مذموم عقلاً ونقلاً، وفضلاً عن ذلك أنّه يقرب من الكفر. روي عن الإمام علي عليه السلام: "إيّاك والمجاهرة بالفجور، فإنّه من أشد المآثم"20. وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّي لأرجو النّجاة لهذه الأمّة لمن عرف حقنا منهم إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى أو الفاسق المعلن"21.


هوامش

1- سورة البقرة، الآية 168.
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا عليه السلام، تصحيح وتعليق وتقديم: الشيخ حسين الأعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان، 1404 - 1984م، لا.ط، ج1، ص193.
3- الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقم المشرفة، 1414، ط 2، ج11، ص368.
4- سورة آل عمران، الآية 135.
5- السيد الطباطبائي، تفسير الميزان، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، لا.ت، لا.ط،ج4، ص21.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص288.
7- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص368.
8- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص288.
9- النَصَف والنصفة (بفتحتين): اسم من الإنصاف، وهو لزوم العدل في المعاملات مع الله تعالى وغيره.
10- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص287.
11- الآمدي، غرر الحكم، ص462.
12- م.ن، ص186.
13- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص159.
14- الآمدي، غرر الحكم، ص186.
15- سورة النازعات، الآيات 37-39.
16- سورة ص، الآيتان 55 - 56.
17- سورة النبأ، الآيتان 21 - 22.
18- سورة المجادلة، الآية 8.
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص428.
20- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج11، ص368.
21- الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص128.

2016 مشاهدة | 25-03-2018
جامعة المصطفى (ص) العالمية -فرع لبنان- ترحب بكم

مجلس عزاء عن روح الشهيد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ورفاقه

رحيل العلامة المحقق الشــيـخ علي كـوراني العاملي (رحمه الله)

ورشة تقنيات قراءة في كتاب

ورشة تقنيات تدوين رؤوس الأقلام

ورشة أسس اختيار الموضوع ومعايير صياغة عنوان الرسالة

عزاء عن روح الشهيد جعفر سرحال

المسابقة العلمية الرابعة

دورة في مخارج الحروف العربيّة

حفل تكريم المشاركات في دورة مشروع الفكر الإسلامي في القرآن

دورة إعداد خطيبة منبر حسيني

لقاء مع المربي العلامة الشيخ حبيب الكاظمي

احتفال في ذكرى المولد الشريف

ندوة كاتب وكتاب: التاريخ السياسي والاجتماعي لشيعة لبنان

لقاء مع المستشار الثقافي لسفارة الجمهوريّة الإسلاميّة

وفد من حوزة الإمام الخميني (قده) يزور الجامعة

دعوة للمشاركة في مؤتمر الإمام الحسين (ع) والنهضة الفكريّة

صباحيّة قرآنيّة في حوزة السّيدة الزهراء (ع)

ندوة كاتب وكتاب: الله والكون برواية الفيزياء الحديثة

العدد 54-55 من مجلَّة الحياة الطيّبة