الكبائر جمعُ كبيرةٍ، وهي كلُّ ما كبُر من المعاصي وعَظُم من الذُّنوب من قبيل الشِّرك بالله تعالى، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وغير ذلك من الأمور التي شدَّدت الشَّريعة المقدَّسة في النَّهي عنها.
وقد اختُلف في تحديد الضَّوابط والمعايير للكبائر، إذ تواجهنا بعض الروايات بتعبير "السبع الموبقات" أي المهلكات والتي هي من جملة الكبائر لا كلّها، وبعضها يذكر أعداداً معيّنة، ما دفع بالبعض إلى ذكر أعدادٍ محدَّدةٍ من الذُّنوب، بل اكتفى البعض الآخر بطرح عناوين يعتبرها الأبرز حسب القرآن والسنَّة الشَّريفة دون ذكر أيّ عدد للكبائر. ونحن هنا سنذكر الضَّوابط التي طُرِحت لهذه الكبائر مع بيان أهميتها. والهدف الأساس من كلِّ ذلك تأمين الحصانة اللازمة عند المكلّف مع الالتفات إلى أنَّ عدم ذِكر بعضها لا يعني أنَّها ليست من الكبائر.
فعلى المؤمن أن يستعدّ دائماً للابتعاد عن كل ما يُحتمل أنّه معصيةٌ سواءً كانت صغيرة أم كبيرة فكيف إن كان يحتمل أنّها من الكبائر فضلاً عن علمه بذلك؟
كيف نَعرف الكبائر؟
هناك اختلافٌ كبيرٌ في تحديد المعيار الذي على أساسه نحدِّد الكبائر، فذهب بعضهم إلى أنّه لمعرفة الفرق بين الكبائر والصغائر لا بدّ من ملاحظة المعصية وإضافتها إمّا إلى معصية كبيرة منصوص عليها، وإما إلى الطاعة، وإما إلى نفس الفاعل، فالكلام إذاً على ثلاثة أقسام:
1- الإضافة إلى الطَّاعة: بمعنى أنَّ المعصية إن زاد عقابها على ثواب تلك الطاعة فهي كبيرة بالنسبة إليها، وإن نقص فهي صغيرة. وواضح أنّ هذه الإضافة غير صحيحة إذ لا تُقارن طاعة بمعصية، ولا يُنسب عقاب إلى ثواب.
2- الإضافة إلى معصية أخرى أقل عقاباً: بمعنى أنّ عقابها إن زاد على عقاب تلك المعصية فهي كبيرة بالنسبة إليها وإن نقص فهي صغيرة.
3- الإضافة إلى فاعلها: بمعنى أنَّها إن صدرت من شريف له علم وزهد فهي كبيرة، وإن صدرت ممّن هو دون ذلك فهي صغيرة.
وبعبارة أوضح: الفرق بين الصغيرة والكبيرة يكون من خلال عرض الذنب على الكبائر المنصوص عليها: فإن نقصت عن أقلّها فهي من الصَّغائر وإلّا فهي من الكبائر. مثل تعريف الكفَّار على نقاط الضُّعف عند المسلمين ونحو ذلك ما يفضي إلى القتل والسبي والنهب، فإنّ مفسدته أعظم من مفسدة الفرار من الزحف، ومن هنا قد نفهم السبب الذي أدّى ببعض العلماء إلى عدم حصر الكبائر بعددٍ معين، فقد نُقل عن ابن عبّاس أنّه قال: "هي (الكبائر) إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع"1.
وعليه يمكن تطبيق هذه القاعدة على كلّ معصية لم يرد نصٌّ من الشريعة على كونها من الكبائر.
وعلى الرغم من ذلك حاول جملة من العلماء إعطاء ضوابط للذُّنوب الكبيرة منها:
1- كلُّ فعل تثبت حرمته ووعد الله تعالى له في القرآن والروايات عذاباً وأوجب عليه النار، يعتبر من الكبائر.
2- كلّ ذنب وصف في الروايات والآيات بأنّه من الذنوب الكبيرة، (كالربا، الغيبة، الكذب، الفرار من الزحف، التعرُّب بعد الهجرة ...).
3- كلُّ ذنبٍ عيَّن له الشارع المقدّس حدّاً معيناً (كشارب الخمر، والزاني، والسارق،..) وقد حذّر القرآن منه.
4- كلُّ ذنبٍ يدلُّ على الاستهانة بالدّين واللامبالاة به.
5- أن يَرِد النَّص بعدم قبول الشَّهادة من مرتكبه.
وعليه ما يمكن أن نخلص إليه هو التالي:
إنَّ المعيار لكون معصيةٍ ما كبيرةً، هو كون مفسدتها شديدةً إلى الدَّرجة التي يترتَّب عليها مبغوضيةٌ شديدةٌ وعقوبةٌ عظيمةٌ، فكبر المعصية إنما يُعلَم من شدّة النَّهي الواقع عنها بإصرارٍ أو تهديدٍ بالعذاب.
أنواع الكبائر وعددها
اختُلف في أنواع الذُّنوب الكبيرة وعددها، ونقصد بالأنواع: العنوان العامّ الذي قد يشتمل على أنواعٍ متعدِّدة من الذُّنوب، بدليلِ أنَّ هناك أمثلةً كثيرةً من الذُّنوب يحكم العقل المستقلّ بقبحها وكونها من الكبائر، وأنَّها مما يوجب دخول النَّار مع أنَّها لم تُذكر بعناوينها الخاصَّة في الرّوايات كحبس المحصنة للزّنا بها، أو الدلالة على عورات المسلمين المفضية إلى قتلهم وأسرهم والتي هي أعظم عند الله من الفرار من الزحف، وكذا الوشاية بالمؤمن إلى الظَّالم المفضية إلى قتله فهي أعظم من غيبته.
وقد يُفهم أنَّ الذُّنوب التي ذكرت كلّها تعتبر من أكبر مصاديق الظُّلم الذي توعَّد الله عليه النار، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾2, فحينئذٍ تتَّسعُ دائرةُ الكبائر فيصبح الظُّلم كبيرةً نوعيةً تندرجُ تحتها مصاديقُ كثيرةٌ لا عدَّ لها ولا حصرَ.
أمَّا من ناحية عدد الكبائر فتراوحت الأقوال بين: سبع، وعشر، واثنتي عشر، وعشرين، وأربع وثلاثين، وأربعين، وأنهاه آخرون إلى سبعين كبيرة.
علماً بأنّ منشأ الاختلاف في العدد راجعٌ إلى الاختلاف الوارد في الرِّوايات، ما قد يُفهم منه أنَّ الكبائرَ ليست بمستوىً واحدٍ، ولهذا نكتفي بما ورد في بعض الرِّوايات الشريفة:
1- الكبائر السبع:
عن ابن محبوب قال: كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السلام يسأله عن الكبائر كم هي وما هي، فكتب عليه السلام: "من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفّر عنه سيئاته إذا كان مؤمناً. والسبع الموجبات: قتل النفس المحترمة، عقوق الوالدين، أكل الربا، التعرّب بعد الهجرة، قذف المحصنات، أكل مال اليتيم، الفرار من الزحف"3. فالواضح من الرواية أنّ الإمام عليه السلام قد عدّد الكبائر وذكرها بالاسم، ووصفها بأنّها من موجبات دخول النار أو وعد عليها النار، وإن اجتنبها كفّر عنه ما دونها من السيّئات.
2- الكبائر التسع:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الكبائر تسع: أعظمهنّ الإشراك بالله عزّ وجلّ، وقتل النفس المؤمنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام، والسحر، فمن لقي الله عزّ وجلّ وهو بريء منهنّ كان معي في جنة مصاريعها من ذهب"4.
3- الكبائر إحدى وعشرون:
روي عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ قال: حدّثني أبو جعفر عليه السلام قال: "سمعت أبي يقول: دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه السلام فلمّا سلّم وجلس تلا هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾5 ثمّ أمسك، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما أسكتك؟ قال: أحبُّ أن أعرف الكبائر من كتاب الله تعالى، فقال: هم يا عمرو، أكبر الكبائر:
1- الإشراك بالله: يقول الله: ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ﴾6.
2- وبعده الإياس من روح الله: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾7.
3- ثمّ أمنُ مكر الله: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾8.
4- ومنها عقوق الوالدين: لأنّ الله سبحانه جعل العاقّ جبّاراً شقياً.
5- وقتل النفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾9.
6- وقذف المحصنة: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾10.
7- وأكل مال اليتيم: لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾11.
8- والفرار من الزحف: لأن الله يقول: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾12.
9- وأكل الربا: لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾13.
10- والسحر: لأنّ الله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾14.
11- والزنا: لأن الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾15.
37
12- واليمين الغموس الفاجرة: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ﴾16.
13- والغلول: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾17.
14- ومنع الزكاة المفروضة: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ﴾18.
15- وشهادة الزور19.
16- وكتمان الشهادة: لأنّ الله عزّ وجلّ يقول: ﴿وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾20.
17- وشرب الخمر: لأنّ الله عزّ وجلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان.
18و19- وترك الصلاة متعمدّاً أو شيئاً مما فرض الله: لأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من ترك الصلاة متعمّداً فقد برئ من ذمّة الله وذمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم".
20- ونقض العهد.
21- وقطيعة الرحم: لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿... أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾21 قال: فخرج عمرو وله صراخ من بكائه، وهو يقول: هلك من قال برأيه، ونازعكم في الفضل والعلم"22.
أقسام الكبائر
لقد قسِّمت الكبائر إلى أقسام متعدِّدة ومن زوايا مختلفةٍ. نشير هنا إلى تقسيمها بلحاظ الجهة التي تصدر منها، وهي على قسمين:
1- الكبائر المتعلِّقة بالجوارح23:
وهي ستّة أنواع متعلّقة:
- باللسان: الشِّرك بالله، شهادة الزُّور، تعليم السِّحر، القذف.
- باليد: القتل، السَّرقة.
- بالبطن: أكل الرّبا، أكل أموال الأيتام ظلماً، شرب الخمر.
- بالفرج: الزّنا.
- بالرِّجل: الفرار من الزَّحف.
2- الكبائر المتعلِّقة بالجوانح24:
كالشِّرك بالله تعالى، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله، والعجب ونحوها.
هوامش
1- الشيخ الجواهري، جواهر الكلام، تحقيق وتعليق: الشيخ عباس القوچاني، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1365 ش، ط 2،ج13، ص319.
2- سورة هود، الآية 113.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص296.
4- أبي الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، مكتبة المصطفوي - قم، 1369 ش، ط 2، ص184-185.
5- سورة الشورى، الآية 37.
6- سورة المائدة، الآية 72. يدخل في مفهوم الشرك عبدة الأوثان، والملاحدة، وعبدة النار، والمجسمة من الفرق الضالَّة، والغلاة وأمثالهم.
7- سورة يوسف، الآية 87.
8- سورة الأعراف، الآية 99.
9- سورة النساء، الآية 93.
10- سورة النور، الآية 23.
11- سورة النساء، الآية 10.
12- سورة الأنفال، الآية 16.
13- سورة البقرة، الآية 275, المس هو الجنون، والخبط حركة على غير النحو الطبيعي ومن غير اتساق. وقيل لا يقومون من قبورهم بسبب الربا ووزره وثقله عليهم قياماً مثل قيام صحيح العقل بل مثل قيام المجانين فيسقطون تارة ويمشون على غير استقامة تارة ولا يقدرون على القيام أخرى.
14- سورة البقرة، الآية 102.
15- سورة الفرقان، الآية 68، لا يبعد إلحاق اللواط والسحاق والزنا من باب المثال على كبائر الفرج.
16- سورة آل عمران، الآية 77، اليمين الغموس تعني اليمين الكاذبة على ما مضى وليس فيها كفارة لشدة الذنب فيها فكأنه مغموس في الذنب لحلفه كاذباً على علم منه.
17- سورة آل عمران، الآية 161، الغلول لغة يعني الخيانة هي في الأصل الخيانة في المغنم غنائم الحرب - والسرقة منها قبل القسمة ولا يبعد إلحاق الغصب والسرقة في مفهوم الغلول.
18- سورة التوبة، الآية 35.
19- الشهادة بغير علم سواء طابقت الواقع أم لا.
20- سورة البقرة، الآية 283.
21- سورة الرعد، الآية 25.
22- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص285-287.
23- جوارح الإنسان: أعضاؤه التي يتكسّب بها، كاللسان, واليد, والرِّجل.
24- جوانح الإنسان: أعضاؤه الباطنية كالقلب, والعقل. والجنوح هو الميل: جنح، أي مال.