اختلف علماء الإسلام في معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة ربما تبلغ الاقوال في ذلك الى عشرين قولاً.
والذي جرى عليه علمهم من العصر الإسلامي الاول حتى العصر الحاضر وعليه الاعتماد هو :
١ ـ المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
٢ ـ المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ ( التأويل ) لا يعلمه الا الله تعالى ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.
هذا قول مشهور عند اخواننا علماء السنة وهو المشهور ايضاً عند الشيعة ، الا انهم يعتقدون بأن النبي والائمة عليهمالسلام يعلمون تأويل الآيات المتشابهة ، وعامة المؤمنين حيث لا طريق لهم الى معرفة تأويلها فيرجعون علمها الى الله والرسول والائمة عليهم الصلاة والسلام.
وهذا القول بالرغم من ان عليه عمل اكثر المفسرين لا يوافق الآية الكريمة ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ ... ﴾ 39الخ ، كما انه لا يطابق ما تدل عليه سائر الآيات لانه :
أولاً : اننا لا نعرف في القرآن آيات لا نجد طريقاً الى معرفة مداليلها ومعانيها المقصودة. هذا بالاضافة الى ان القرآن وصف نفسه بأوصاف كالنور والهادي والبيان ، وهذه الاوصاف لا تتفق مع عدم معرفة المداليل والمعاني.
ومن جهة اخرى تقول الآية ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ ، فكيف يصح ان يكون التدبر في القرآن رافعاً لكل اختلاف مع ان فيه آيات متشابهة لا يمكن التوصل الى معرفة معناها كما عليه قول المشهور الذي نقلناه.
ويمكن ان يقال : ان المقصود من الآيات المتشابهة هي الحروف المقطعة التي في اوائل بعض السور كـ « الم ، الر ، حم » واشباهها ، حيث لا يمكن معرفة معانيها الحقيقية.
ولكن لا بد من الالتفات الى ان في الآية الكريمة وضعت الآيات المتشابهة مقابلا للايات المحكمة. ولازم هذه التسمية ان يكون المتشابه له مدلول من قبيل المدلول اللفظي الا ان هذا المدلول اللفظي الظاهر يشتبه بالمدلول الحقيقي ، والحروف المقطعة في اوائل السور ليس لها هكذا مدلول.
وبالاضافة الى هذا يدل ظاهر الآية على ان جماعة من اهل الزيغ ومبتغي الفتنة يسعون في الاضلال بواسطة الآيات المتشابهة ، ولم يسمع ان شخصا في المسلمين اضل الناس بالحروف المقطعة المذكورة ، بل الذين يضلون الناس انما يضلونهم بتأويل كلها لا بهذه الحروف خاصة.
وقال بعض : ان الآية تشير الى قصة ملخصها : ان اليهود حاولوا معرفة المدة التي يعيش فيها الإسلام بواسطة الحروف المقطعة في اوائل السور ، ولكن قرأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الفواتح واحدة بعد واحدة وابطل بهذا ما زعموه .
وهذا الكلام غير صحيح ايضا ، لان القصة لو صحت تدل على ان اليهود كان لهم محاولة اجابهم النبي عليها في نفس المجلس ، وهي ليست من الاهمية بحيث تستدعي ذكر الآية « المتشابه » والزجر عن اتباعه. هذا مع العلم ان قول اليهود لم يكن فيه فتنة ، لان الدين لو كان حقاً لا يضره تحديد الزمن ـ ونعني به قبوله للنسخ ـ كما نراه في الاديان الحقة التي كانت قبل الإسلام.
ثانياً : لازم هذا القول ان تكون كلمة « التأويل » في الآية بمعنى المدلول خلاف الظاهر ، ويختص هذا المعنى بالآية المتشابهة. وكلا الموضوعين ليسا بصحيح ، فاننا سنذكر في البحث الذي وضعناه لمعرفة التأويل والتنزيل بأن « التأويل » في عرف القرآن ليس من قبيل المعنى والمدلول اللغوي ، كما نذكر بأن جميع الآيات المحكمة والمتشابهة لها تأويل ولا يختص ذلك بالآيات المتشابهة.
ثالثاً : وصفت الآية الكريمة جملة « آيات محكمات » بـ « هن ام الكتاب » ، ومعنى هذا ان الآية المحكمة تشتمل على امهات ما في الكتاب من الموضوعات وبقية الآيات متفرعة عنها. ولازم هذا ان الآيات المتشابهة ترجع الى الآيات المحكمة في مداليلها والمراد منها ، ونعني بذلك ارجاع المتشابهات الى المحكمات لمعرفة معناها الحقيقي.
وعليه ليس في القرآن آية لا نتمكن من معرفة معناها ، بل الآية اما محكمة بلا واسطة كالمحكمات نفسها ، او محكمة مع الواسطة كالمتشابهات. واما الحروف المقطعة في فواتح السور فليس لها مدلول لفظي لغوي ، فهي ليست من المحكم والمتشابه.
ويمكن معرفة ما قلناه من عموم قوله تعالى ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ وقوله ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ .
من تفسير الميزان