آيات القرآن الكريم ليست للقراءة والتلاوة فقط، بل نزلت لكي يفهم الناس مقاصدها ويدركوا معانيها، وما التلاوة والقراءة إِلا مقدّمةً لتحقيق هذا الهدف، أي التفكّر والتدبّر والفهم، ولهذا جاء القرآن في الآية الأُولى من الآيات الحاضرة يشير إِلى عظمة خلق السماوات والأرض، ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(آل عمران: 190).
وبهذا يحثّ الناس على التفكّر في هذا الخلق البديع والعظيم، ليصيب كلّ واحدٍ منهم ـ بقدر إِستعداده وقدرته على الاستيعاب ـ من هذا البحر العظيم الذي لا يُدرك له ساحلٌ ولا قعرٌ، ويرتوي من منهل أسرار الخلق العذب.
حقّاً أنّ هذا الكون العظيم بما فيه من نظامٍ متقنٍ وبديعٍ، ونقوشٍ رائعةٍ، ولوحاتٍ خلابّةٍ كتابٌ بالغ العظمة، كتابٌ في كلّ حرفٍ من حروفه، وكل سطرٍ من أسطره دليلٌ ساطعٌ على وجود الله الخالق المبدع ووحدانيته، وتفرّده.
إِنّ هذا النقش الساحر الآسر للقلوب، المبثوث في كلّ ناحيةٍ من نواحي هذا الكون العريض يشدّ إِلى نفسه فؤاد كلّ لبيبٍ وعقله شدّاً ـ يجعله يتذكّر خالقه، في جميع الحالات، قائماً أو قاعداً، وحين يكون في فراشه نائماً على جنبه، ولهذا يقول سبحانه: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (آل عمران: 191) أي أنّهم مستغرقون كامل الإِستغراق في التفكير الحيويّ حول هذا الكون الرائع ونظامه البديع ومبدعه، ومبديه.
ولقد أُشير ـ في هذه الآية ـ إِلى الذكر أوّلاً، ثمّ إِلى الفكر ثانياً، ويعني ذلك أن ذكر الله وحده لا يكفي، إنّ الذكر إِنّما يعطي ثماره القيّمة إِذا كان مقترناً بالفكر، كما أنّ التفكّر في خلق السماء والأرض هو الآخر لا يُجدي ولا يُوصل إِلى النتيجة المتوخاة ما لم تقترن عمليّة التفكّر بعملية التذكّر، وبالتالي لا يُقرن الفكر بالذكر. فما أكثر العلماء الذين يقفون ـ في تحقيقاتهم الفلكيّة والفضائيّة ـ على مظاهرَ رائعةٍ من النظام الكونيّ البديع، ولكنّهم حيث لا يتذكّرون الله ولا ينظرون إِلى كلّ هذه المظاهر بمنظار الموحّد الفاحص، بل ينظرون إِليها من الزاوية العلميّة المجرّدة البحتة، فإِنّهم لا يقطفون من هذه التحقيقات ما يترتّب عليها من النتائج التربويّة والآثار الإِنسانيّة، ومثلهم في ذلك مثل من يأكل طعاماً ليقوى به جسمه، فلا يكون لما يأكله أيّ أثرٍ في تقوية فكره وروحه.
إنّ التفكير في أسرار الخليقة، وفي نظام السماء والأرض يعطي للإِنسان وعياً خاصّاً ويترك في عقله آثاراً عظيمةً، وأوّل تلك الآثار هو الإِنتباه إِلى هدفيّة الخلق وعدم العبثيّة فيه، فالإِنسان الذي يلمس الهدفيّة في أصغر أشياء هذا الكون كيف يمكنه أن يصدّق بأنّ الكون العظيم بأسره مخلوقٌ من دون هدفٍ، ومصنوعٌ من دون غايةٍ؟
لو أنّنا نظرنا في تركيبة نبتةٍ معيّنةٍ للاحظنا أهدافاً واضحةً فيها، وهكذا نلاحظ مثل تلك الأهداف في قلب الإنسان وما فيه من حفرٍ، وصماماتٍ، وأبوابٍ وبطونٍ، فكلّ شيءٍ فيه مخلوقٌ لغايةٍ، ومجعولٌ لهدفٍ، وكذا الحال في طبقات العين، بل وحتى الأجفان والأظافر كلّ واحدٍ منها يؤدّي دوراً، ويحقّق غايةً، فهل يمكن أن يكون لهذه الأجزاء الصغيرة جدّاً بالنسبة للكون العظيم أهدافٌ واضحةٌ وغاياتٌ ملحوظةٌ، ولا يكون لمجموعه المتمثّل في الظاهرة الكونيّة الهائلة العظيمة أي هدفٍ مطلقاً؟ {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (آل عمران: 191).
إِنّ العقلاء لا يمكنهم وهم يواجهون هذه الحقيقة الساطعة إِلاّ أن يقولوا بخشوعٍ هذه الجملة: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} (آل عمران: 191) أي ربّنا إنّك لم تخلق هذا العالم العظيم، وهذا الكون الذي لا يُعرف له حدٌّ، وهذا النظام المتقن البديع إلاّ على أساس الحكمة والمصلحة، ولهدف صحيحٍ، فكلُّ هذا آية وحدانيّتك، وكلُّ هذا ينزّهك عن اللغو والعبث.
إِن أصحاب العقول السليمة الواعية بعد أن يعترفوا بالهدفيّة في الخليقة يتذكّرون أنفسهم فوراً، وكيف يُعقل أن يكونوا ـ وهم ثمرة هذا الموجود نفسه وهذا الكون بالذات ـ قد خُلقوا سدى، أو جاؤوا إِلى هذه الحياة عبثاً، وأنّه ليس هناك من هدفٍ سوى تربيتهم وتكاملهم!!
إِنّهم لم يأتوا إِلى هذه الحياة لأجل أن يعيشوا فيها أيّاماً سرعان ما تفنى وتنقضي، فذلك أمرٌ لا يستحقُّ كلّ هذا العناء والتعب، كما لا يليق بمكانة الإِنسان ولا يتناسب مع حكمة الله العليا، بل هناك دارٌ أخرى تنتظرهم حيث يجدون فيها جزاء أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، وفي هذه اللحظة ينتبهون إِلى مسؤوليّاتهم، ويسألون الله التوفيق للقيام بها حتى يتجنّبوا عقابه، ولهذا يقول:
{فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 191) ثمّ يقول: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ...) (آل عمران: 192).
ويستفاد من هذه العبارات أنّ العقلاء يخافون من الخزي قبل أن يخافوا من نار جهنّم، وهذا هو حال كلّ من يمتلك شخصيّةً، فإِنّه مستعدٌ لأن يتحمّل كلّ شيءٍ من الأذى والمحن شريطة أن يحافظ على شخصيّته، ولهذا فإن أشدّ عقوبات الآخرة على هؤلاء هو الخزي في محضر الله وعند عباده.