قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (سورة الإسراء، الآية 89).
الآية التي بين أيدينا تتحدّث عن إعجاز القرآن، ولأن الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات، فإنّ الآية التي بين أيدينا - في الحقيقة - مقدّمةٌ للبحث القادم حول المعجزات. إنّ أهمَّ وأقوى دليلٍ ومعجزةٍ لرسول الإسلام(ص) والتي هي معجزته الدائمة على طول التأريخ هو القرآن الكريم الذي بوجوده تبطل حجج المشركين. بعض المفسّرين أراد أن يؤكّد ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة من خلال مجهوليّة الروح وأسرارها، وقياسها بمجهوليّة القرآن وأسراره. ولكن العلاقة التي أشرنا إليها آنفاً تبدو أكثرَ من هذا الربط. على أيّة حالٍ فإن الله يخاطب رسوله(ص) ويقول له: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}. إن هذه الآية دعت - بصراحةٍ - العالمين جميعهم، صغاراً وكباراً، عرباً وغيرَ عربٍ، الإنسانَ أو أيَّ كائنٍ عاقلٍ آخرٍ، العلماءَ، والفلاسفةَ، والأدباءَ، والمؤرخين، والنوابغَ، وغيرَهم . . .
لقد دعتهم جميعاً لمواجهة القرآن، وتحدّيه الكبير لهم، وقالت لهم: إذا كنتم تظنّون أنّ هذا الكلامَ ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان، فأنتم أيضاً بشرٌ، فأتوا إذاً بمثله، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم، فهذا العجز أفضل دليلٍ على إعجاز القرآن. إنّ هذه الدعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد ب (التحدي) هي أحد أركان المعجزة، وعندما يرِد هذا التعبير في أيّ مكانٍ، نفهم بوضوحٍ أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات. ونلاحظ في هذه الآية عدّةَ نقاطٍ ملفتةٍ للنظر:
1- عموميّة دعوة التحدّي والتي تشمل كل البشر والموجودات العاقلة الأخرى.
2- خلود دعوة التحدّي واستمرارها، إذ هي غير مقيّدةٍ بزمانٍ، وعلى هذا الأساس، فإن هذا التحدّي اليوم جارٍ مثلما كان في أيّام النبيّ(ص)، وسيبقى كذلك في المستقبل.
3- استخدام كلمة (اجتمعت) إشارةٌ لأشكال التعاون، والتعاضد، والتساند الفكريّ والعمليّ الذي يضاعف حتماً من نتائج أعمال الأفراد مئات، بل آلاف المرات.
4- إن تعبيرَ {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} تأكيدٌ مجدّدٌ على قضيّة التعاون والتعاضد، وهي أيضاً إشارةٌ ضمنيّةٌ إلى قيمة هذا العمل وتأثيره على صعيد تحقّق الأهداف وتنجّزها.
5- إن تعبيرَ {بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ} دلالةٌ على الشمول والعموم، وهو يعني >المثل< في جميع النواحي والأمور، من حيث الفصاحة، والبلاغة، والمحتوى، ومن حيث تربية الإنسان، والبحوث العلميّة والقوانين الاجتماعيّة، وعرض التأريخ، والتنبّؤات الغيبيّة المرتبطة بالمستقبل . . إلى آخر ما في القرآن من أمورٍ.
6- إن دعوة جميع الناس للتحدّي دليلٌ على أن الإعجازَ لا ينحصر في ألفاظ القرآن وفصاحته وبلاغته وحسب، وإلا لو كان كذلك، لكانت دعوة غير العرب عديمة الفائدة.
7- المعجزة تكون قويّةً عندما يقوم صاحب المعجزة بإثارة وتحدّي أعدائه ومخالفيه، وبتعبيرنا تقول : يستفزّهم، ثمَّ تظهر عظمة الإعجاز عندما يظهر عجز أولئك وفشلهم. وفي الآية التي نبحثها يتجلّى هذا الأمر واضحاً، فمن جانبٍ دعت جميع الناس، ومن جانبٍ آخرٍ تستفزّهم بصراحةٍ في قولها: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}، ثمَّ تحرّضهم وتدفعهم للتحدّي بالقول ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً .