بين الدين والدنيا:
إنّ القرآن الكريم والروايات الشريفة قد تعرّضا للدنيا بأسلوبين مختلفين فتارةً يتحدّث القرآن عن نعيم الدنيا بلسان الذمّ والتقبيح، يقول تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[1].
وتارةً يتحدّث عن نعيم الدنيا بلسان المدح والثناء، يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.[2]
حبّ الدنيا أم بغضها؟:
ما هو المطلوب منا في هذه الحياة، حبّ الدنيا أم بغضها؟:
وقد أجاب أهل البيت عليهم السلام عن هذا السؤال ومنهم أمير المؤمنين عليه السلام حيث روى جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان مع أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة فلمّا فرغ من قتال من قاتله، أشرف علينا في آخر الليل، فقال:"ما أنتم فيه؟ فقلنا: في ذمّ الدنيا، فقال: علام تذمّ الدنيا يا جابر؟ ثمّ حمد الله وأثنى عليه، وقال: أمّا بعد فما بال أقوام يذمّون الدنيا ؟ انتحلوا الزهد فيها ؟ الدنيا منزل صدق لمن صدقها، ومسكن عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، فيها مسجد أنبياء الله ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومسكن أحبّائه، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا منها الجنّة. فمن ذا يذمّ الدنيا يا جابر وقد آذنت ببينها، ونادت بانقطاعها، ونعت نفسها بالزوال، ومثلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها إلى السرور، راحت بفجيعة وابتكرت بنعمة وعافية، ترهيباً وترغيباً، يذمّها قوم عند الندامة، ويحمدها آخرون عند السلامة، خدمتهم جميعاً فصدقتهم، وذكّرتهم فذكروا، ووعظتهم فاتّعظوا وخوّفتهم فخافوا، وشوّقتهم فاشتاقوا".
وقال عليه السلام: "الدنيا دار ممرّ إلى دار مقرّ. والناس فيها رجلان: رجل باع فيها نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها".
وما نفهمه هو أنّ ما ورد في القرآن والأحاديث عن ذمّ هذه الدنيا، لا يكون عائداً في الحقيقة إلى الدنيا من حيث نوعها أو كثرتها، بل يعود إلى التوجّه نحوها وانشداد القلب إليها ومحبتها.
وعليه يتبيّن من ذلك أنّ أمام الإنسان دنياوان: دنيا ممدوحة ودنيا مذمومة. فالممدوحة هي دار التربية ودار التحصيل ومحلّ التجارة لنيل المقامات واكتساب الكمالات والإعداد لحياة أبديّة سعيدة، ممّا لا يمكن الحصول عليه دون الدخول إلى هذه الدنيا، والمذمومة هي الدنيا التي كره الإسلام التعلّق بها والانكباب عليها بحيث تصبح أكبر همّنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] سورة الحديد، الآية: 20.
[2] سورة الأعراف، الآية: 33.