*من خلال مراجعة آيات الذكر الحكيم يتّضح لنا أنّ إبليس لم يكن من الملائكة، وحينئذ يطرح السۆال التالي: كيف يا ترى شمله الخطاب الإلهي الذي كان موجهاً للملائكة؟
الجواب: لا شكّ انّ اللّه تعالى قد وجّه الأمر إلى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام)، وأكّد في نفس الوقت انّ إبليس قد تمرّد على الأوامر الإلهية وعصى الدستور الإلهي وامتنع عن السجود لآدم فخرج عن قائمة الساجدين، ومن هنا طرح الإشكال الذي ورد في متن السۆال وهو: هل كان إبليس موضوعاً للخطاب أم لا؟ فإذا كان من الملائكة حقيقة فكيف تنفي عنه الآيات الأُخرى كونه من الملائكة كما ورد في قوله تعالى: ( ...فَسَجَدوُا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ... ) . [1]
وإذا لم يكن داخلاً في موضوع الخطاب ولم يكن من الملائكة حقيقة، فكيف شمله الخطاب والأمر بالسجود لآدم حينئذ؟ الذي يظهر من آيات الذكر الحكيم أنّ إبليس لم يكن من جنس الملائكة حقيقة، وبذلك يصرح القرآن الكريم حيث قال تعالى: ( كانَ مِنَ الجنّ ) ، أضف إلى ذلك: انّ هناك آيات أُخرى يمكن أن تعتبر شاهداً على هذه القضية حيث جاء فيها قوله تعالى: ( ...بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لايَسْبِقُونَهُ بِالقَولِ وَ هُمْ بِأمْرِهِ يَعْمَلُون ) . [2] وفي آية أُخرى: ( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُۆمَرُونَ ) . [3] وفي ثالثة: ( يُسَبِّحُونَ اللّيلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُون ) . [4]
ومن الملاحظ أنّ هذه الآيات في مقام بيان صفات وسمات الملائكة في الطاعة وعدم المعصية والامتثال لأوامره سبحانه. قد يقال: إنّ هذه الآيات مخصّصة بخروج إبليس منها. ولكن الإمعان في لسان هذه الآيات وسياقها يظهر لنا وبجلاء أنّ هذه الآيات آبية عن التخصيص. والشاهد الآخر أنّ بعض الآيات تۆكّد أنّ إبليس له نسل وذرية من خلال عملية التلاقي والتزاوج بين الذكور والإناث حيث قال سبحانه:
( أفَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُريِّتَهُ أَولياءَ مِنْ دُوني... ) . [5] وفي آية أُخرى يقسّم الذكر الحكيم الجن إلى رجال ونساء كما في قوله تعالى: ( وَ أَنّهُ كانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرجال مِنَ الْجِنِّ... ) . [6]
ومن المعلوم أنّ هذا التقسيم لا يصح في حقّ الملائكة أبداً ولا مجال لفكرة التزاوج بينهما، ولقد صرّحت آيات الذكر الحكيم بهذه الحقيقة وتصدّت للرد على النظرية التي تحاول وصف الملائكة بالإنوثة حيث قال سبحانه: ( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الّذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمن إناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ ويُسْألُونَ ) [7]). فهذه الآيات تجعل من الشيطان موجوداً في مقابل الملائكة، وبهذا نصل إلى نتيجة قطعية بأنّ إبليس لم يكن من جنس الملائكة. إذا اتّضح ذلك يأتي دور الإجابة عن التساۆل التالي.
كيف توجّه الخطاب إليه مع كونه ليس من الملائكة؟
وفي المقام يمكن الإجابة بوجهين:
الأوّل: أنّه كان هناك خطاب مستقل وأمر منفرد موجّه إلى إبليس بالخصوص إلى جانب الأمر الموجّه إلى الملائكة، وهذا ممّا يظهر من الآية الكريمة: ( ...ما مَنَعَكَ ألاّ تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ... ) .[8]
ومن الواضح أنّ إبليس لم يتنكّر لهذا الخطاب ولم يتذرّع للخلاص من هذه الإدانة بأنّ الأمر كان موجهاً للملائكة وأنا لست من جنسهم، بل قبل واعترف بتوجّه الخطاب إليه، ولكنّه تذرّع بعذر آخر وهو أنّه أفضل من آدم في الجنس، فكيف يسجد لمن هو أدنى منه جنساً؟
قال تعالى حاكياً قول إبليس:( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين ) .[9]الثاني: انّ الخطاب كان متوجّهاً إلى الملائكة وهم في «مقام القدس» يهلّلون ويسبّحون اللّه سبحانه وتعالى ويقدّسونه، وبما أنّ إبليس كان بينهم في تلك الحالة من التسبيح والتقديس والحمد والثناء، لذلك توجّه الخطاب إلى الجميع باعتبار الحالة التي كانوا عليها من العبادة لا باعتبار الجنس أو النوع.[10]
ثمّ إنّ الذين ذهبوا إلى اعتماد النظرية الثانية وقبلوا التوجيه الثاني لتفسير شمول الخطاب لإبليس قد تحيّروا في تفسير الآية التي تقول إنّ إبليس كان من الجن، ولذلك اضطروا إلى ولوج باب التأويل، فجاءوا بتأويلات غير صحيحة:
منها انّهم قالوا: إنّ المراد من الجن هو الموجودات غير المرئية، لا طائفة خاصة باسم الجن حقيقة، وبما أنّ الملائكة وجودات غير مرئية لذلك شمل الخطاب الجميع.
وتارة أُخرى: ذهبوا إلى أنّ الجن هم طائفة وصنف من أصناف الملائكة أيضاً، فمن هنا شملهم الخطاب حقيقة. [11] والحال أنّ المتبادر من الجن في القرآن هو نفس الموجودات التي تقع في مقابل الملائكة، لا كونها وجودات غير مرئية كما يذهب إليه أصحاب هذا الرأي، ولا انّها صنف آخر من أصناف الملائكة كما يذهب إليه الرأي الآخر. ومن هنا يتّضح أنّ الجواب الأوّل والنظرية الأُولى هي النظرية المستحكمة والتي تنسجم مع ظاهر الآيات ولا حاجة معها إلى كلّ تلك التأويلات البعيدة.[12]
المصادر:
*الشيخ جعفر السبحاني
[1] . الكهف: 50.
[2] . الأنبياء:26ـ 27.
[3] . النحل: 50.
[4] . الأنبياء: 20.
[5] . الكهف: 50.
[6] . الجن: 6.
[7] . الزخرف: 19.
[8] . الأعراف: 12.
[9] . الأعراف: 12.
[10] . انظر الميزان:1/ 238.
[11] . انظر مجمع البيان:3/475; تفسير المنار:1/ 265.
[12] . منشور جاويد:11/65ـ 67.