مقدّمة
إذا صارت عظمة كتاب الله معلومةً من جميع الجهات، وانفتحَ على الإنسان طريقُ الاستفادة الحقيقية منه، عندها ينبغي على المتعلّم والمستفيد من كتاب الله أنْ يجري أدباً آخر من الآداب المهمَّة حتَّى تحصل الاستفادة التَّامة، وهو رفع الموانع والعوائق الأساس التي تحول دون الاستفادة الكاملة منه. وهذه الموانع نُعبّر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهذه الحجب كثيرة نُشير إلى بعضها:
حجاب رؤية النَّفس مستغنيةً
من الحُجب العظيمة التي تحول بين الإنسان وبين الاستفادة من كتاب الله العزيز، حجابُ رؤية النفس مستغنية عن كتاب الله، حيث يرى المتعلّم نفسه بسبب هذا الحجاب مستغنٍ عنه أو غير محتاجٍ للاستفادة منه. وهذا يُعتبر من أكبر وأخطر مكائد الشَّيطان الذي يُزيّن للإنسان دائماً الكمالات الموهومة، ويُرضيه ويُقنعه بما هو عليه، وما في يديه من الكمالات المحدودة الفانية والزائلة، ويسقط من عينه كلّ ما ليس بحوزته.
مثلاً: قد يقنع الشيطان أهل التجويد بذاك العلم الجزئي ويُزيّنه في أعينهم ويسقط سائر العلوم من أعينهم ويُطبّق معنى "حملة القرآن" عليهم، ويحرمهم من فهم الكتاب الإلهيّ النوراني ومن الاستفادة منه. ويُمكن أن يُرضيَ أصحاب الأدب واللغة بتلك الصُّورة اللغوية والظاهريَّة الفاقدة للّب، ويصوّرَ لهم أنَّ جميع شؤون القرآن موجودة عندهم. وقد يشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجوه القراءات، والآراء المختلفة لأصحاب اللغة، ووقت النزول، وشأن النزول، وكون الآيات مكيَّة أو مدنيَّة وتعدادها، وتعداد الحروف وأمثال تلك الأمور...
فعلى كلِّ باحث عن الاستفادة الحقيقية من كتاب الله، أنْ يخرقَ جميع هذه الحجب، فلا يقف عندها بل عليه أنْ ينظرَ إلى ما هو أبعد من هذه الأمور، ولا يقنع عند حدّ معيّن من القرآن الشّريف لكي لا يتأخّر عن قافلة السالكين فيُحْرَمَ من الدَّعوات الإلهيّة للاستفادة من هذه المأدبة السماوية.
والإشارة إلى هذا المعنى في القصص القرآنيّة كثيرة. فالنبيّ موسى كليم الله عليه السلام مع ما له من المقام العظيم في النُّبوَّة، لم يقتنع بذلك المقام ولم يتوقّف عند مقام علمه الشَّامخ، بل بمجرَّد أن التقى بإنسان كامل كالخضر عليه السلام قال له بمنتهى التواضع والخضوع: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾1 وصار ملازماً لخدمته حتَّى أخذ منه العلومَ التي احتاج إليها.
والنبيّ إبراهيم عليه السلام لم يقتنع بمقام الإيمان والعلم الشامخ الخاص بالأنبياء فقال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى﴾2، فأراد أن يرتقي من مقام الإيمان القلبي إلى مقام الاطمئنان الشهودي. وهناك ما هو أعظم من ذلك حيث يأمر الله تبارك وتعالى نبيّه الخاتم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعرف خلق الله على الإطلاق في الآيةِ الكريمةِ الشّريفةِ: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾3 بأنْ لا يقف عند حدّ في طلب العلوم الربّانية والاستزادة منها. فهذه الأوامر الإلهيّة ونقل قصص الأنبياء وغيرها، إنّما هي لأجلِ أنْ يتنبَّهَ النَّاسُ ويستيقظوا من نوم الغفلة الذي يتخبَّطون فيه.
حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة
ومن الحجب المانعة أيضاً التي تصدّ عن الاستفادة الصَّحيحة من القرآن الكريم، حجاب الآراء الفاسدة والعقائد الباطلة، التي قد يكون سببها سوء استعداد الشخص، والأغلب أنَّ سبَبَها الأساس هو التبعيَّةُ والتَّقليدُ الأعمى للغير.
وهذا الحجاب من الحجب الرَّئيسة التي تحجُبُ الإنسان عن معارف القرآن وحقائقه النُّورانيَّة، فمثلاً إذا رسخ في قلوبنا اعتقادٌ ما بمجرّد الاستماع إلى الأب أو الأم أو بعض الجهلة، فإنَّ مثل هذه العقيدة قد تكون حجاباً بيننا وبين الآيات الشّريفة الإلهيّة. وإذا وردت آلاف الآيات والرِّوايات التي تُخالف تلك العقيدة، فإمّا أن نصرفها عن ظاهرها أو أن لا ننظر فيها نظر الفهم. والأمثلة فيما يرجع إلى العقائد والمعارف كثيرة، نُشير إلى واحدةٍ منها من باب المثال حيث إنَّه أسهل للفهم.
إنَّ تلك الآيات الكثيرة الراجعة إلى معرفته ولقائه، والرِّوايات الكثيرة في هذا الموضوع، والإشارات العديدة والكنايات والتصريحات المتنوّعة في أدعية ومناجاة الأئمة عليهم السلام، مثل هذه الشواهد الكثيرة بمجرّد ما تصطدم بتلك العقيدة التي انتشرت بين عوام النَّاس أنّ طريق معرفة الله مسدود بشكل كامل أمامنا نحن البشر العاديّون، حيث يقيسون باب معرفة الله ومشاهدة جماله على باب الممنوع بل والممتنع في التفكُّر بذاته المقدّسة. فإمّا أن يؤوّلوا ويوجّهوا تلك الآيات والرِّوايات، وكذلك الإشارات والكنايات والتصريحات في أدعية الأئمة ومناجاتهم، وإمّا ألّا يدخلوا في هذا الميدان أصلاً ولا يفتحوا على أنفسهم تلك المعارف التي هي قرّة عين الأنبياء والأولياء. وممّا يوجب الأسف الشَّديد لأهل الله، أنَّ باباً من المعرفة الذي يُمكن أن يُقال أنَّه غاية بعثة الأنبياء ومنتهى مطلوب الأولياء، قد سدّوه على النَّاس حتَّى صار التفوّه به، عند البعض كفراً محضاً ومحض الزندقة.
حجاب شبهة التفسير بالرأي
ومن الحجب الغليظة المانعة من الاستفادة من هذه الصَّحيفة النُّورانية، الاعتقاد بأنّه ليس لأحدٍ حقُّ الاستفادة من القرآن الشّريف إلا من خلال ما كتبه المفسّرون وفهموه. فقد اشتبه على النَّاس التفكُّر والتدبّر في الآيات الشّريفة بالتفسير بالرأي الممنوع. ومن خلال هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع فنون الاستفادة واتَّخذوه مهجوراً كُلّياً.
إنَّ من المحتمل بل من المظنون أنّ التفسير بالرأي المنهي عنه هو الراجع إلى آيات الأحكام الشرعية التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول، والتي لا بدّ وأنْ تؤخذ بصرف التعبّد والانقياد من خزّان الوحي ومهابط ملائكة الله، لا إلى آيات المعارف والعلوم العقلية والأخلاقية. كما أنّ أكثر الرِّوايات في هذا الباب وردت في مقابل فقهاء العامة الذين كانوا يريدون أن يفهموا دين الله بعقولهم وقياساتهم. وما في بعض الرِّوايات الشّريفة من أنَّه:
"ليس شيء أبعد عن عقول الرجال من تفسير القرآن"4، وكذلك الرواية الشّريفة: "إنّ دين الله لا يُصاب بالعقول"5 تشهدُ بأنَّ المقصود من دين الله الأحكام التعبّديّة للدين، وإلا فباب إثبات الصانع والتَّوحيد والتقديس واثبات المعاد والنُّبوَّة بل مطلق المعارف حقّ مطلق للعقول ومن مختصَّاتها.
حجابُ الذُّنوب والمعاصي
ومن الحجب المانعة من فهم القرآن الشّريف، ومن الاستفادة من معارف هذا الكتاب السَّماويّ ومواعظه، حجاب المعاصي والذُّنوب الحاصلة من الطغيان وعصيان ربّ العالمين، التي تحجب القلب عن إدراك الحقائق الإلهيّة العزيزة، يقول تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾6.
فلكلِّ عملٍ من الأعمال الصالحة أو السيّئة صورةٌ وتأثيرٌ في الآخرة وعالم الملكوت تتناسب معه، وله صورةٌ أيضاً وتأثيرٌ في النَّفس الإنسانيَّة وملكوتها، تحصلُ بواسطتها إمّا النُّورانيةُ في النَّفس، فيكون القلب مطهَّراً ومنوَّراً، وفي هذه الحالة تكون النَّفس كالمرآة المصقولة الصافية، اللائقة للتجليات الغيبيّة وظهور الحقائق والمعارف فيه. وإمّا أن يصير باطن النفس بهذه الأعمال ظلمانياً وخبيثاً، وفي هذه الصُّورة يكون القلب كالمرآة المدنّسة، فلا تنعكس فيها المعارف الإلهيّة ولا الحقائق الغيبيّة. فيقع قلب الإنسان في هذه الحالة وبالتّدريج تحت سلطة الشَّيطان، ويكون إبليس الَّلعين هو المتصرِّفُ في مملكة روحه. ويقع السّمع والبصر وسائر القوى أيضاً تحت تصرّف ذاك الخبيث، وينسدُّ السَّمعُ بالكلِّية عن المعارف والمواعظ الإلهيّة.
ولا ترى العين الآيات الباهرة الإلهيّة، وتعمى عن الحقّ وآثاره وآياته، ولا يتفقّهُ القلب في الدِّين ويحرم من التفكُّر في آيات الحقّ وتذكّرها، كما قال الحقّ تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾7. فيكون نظره إلى العالم كنظر الأنعام المحرومة من نعمة التفكُّر والتدبّر، ويُصبح قلبه كقلوب الحيوانات التي لا نصيب لها من التفكُّر والتذكّر، بل يُمكن أنْ تزدادَ حالةُ الغفلة والاستكبار فيه يوماً بعد يوم من جرّاء عدم النظر في الآيات الإلهيّة وسماع المواعظ الربّانية، فيغدو أرذل وأضلّ من الحيوان.
حجاب حبّ الدُّنيا
ومن الحجب الغليظة التي هي مانع سميك بيننا وبين معارف القرآن ومواعظه، حجابُ حبِّ الدُّنيا. حيث يصرف القلب تمام همّته في الدُّنيا فتكون وجهة القلب تماماً إلى الدُّنيا ويغفل القلب بواسطة هذه المحبّة عن ذكر الله ويعرض عنه. وكلّما ازداد التعلّق بالدُّنيا وشهواتها ازداد حجاب القلب والساتر ضخامة. وربما تغلَّبت هذه العلاقة على القلب ويتسلّط سلطان حبّ الجاه والشرف على القلب فينطفئ نور فطرة الله تماماً، وتُغلقُ أبواب السعادة على الإنسان. ولعلّ المراد من إقفال القلوب المذكورة في الآية الشّريفة: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾8 هو هذه الأقفال والأغلال والعلائق الدنيوية.
فمن أراد أن يستفيدَ من القرآن ويأخذَ نصيبه من المواعظ الإلهيّة لا بدّ وأن يُطهّرَ قلبه من هذه الأرجاس، ويُزيل أدران المعاصي القلبية والاشتغال بغير الله من القلب، لأنّ القلوب غير المطهّرة ليست حرماً لهذه الأسرار كما قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾9 فكما أنّ غير المطهّر بالطهارة الظاهريَّة ممنوع عن ظاهر هذا الكتاب ومسّه في العالم الظاهر تشريعاً وتكليفاً، كذلك من كان ملوّثاً بأرجاس التعلّقات الدنيوية والمحدودة والفانية ممنوع من معارفه ومواعظه وباطنه وسرّه قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾10. فغير المتّقي محروم من أنوار القرآن ومواعظه وعقائده الحقّة. والآية الشريفة التالية تكفي لأهل اليقظة بشرط التدبّر فيها، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾11.
المفاهيم الرئيسة
- إزالةُ الحجب والموانع بين المستفيد والقرآن شرط أساس لتحقيق الاستفادة الكاملة من كتاب الله.
- من الحجب التي تصدُّ عن سبيل القرآن، الشُّعور بالاستغناء عن كتاب الله، وعدم الحاجة الفعلية والضرورية إليه في مسيرة الإنسان الإيمانية والتكاملية.
- من الحجب التي تحولُ دون الاستفادة من القرآن الكريم الشُّبهاتُ العقائديَّة والاعتقادات الخاطئة المتعلِّقةُ بالقرآن فهماً وتأويلاً وتفسيراً.
- من الحجب التي تمنع من فهم حقائق القرآن والاستفادة منه أيضاً، تلوّث باطن الإنسان بالمعاصي والذُّنوب. فمعارف هذا الكتاب المقدّس وحقائقه لا يمسّه إلا المطهّرون من دنس الخطايا والآثام.
- حبّ الدُّنيا أيضاً والتعلّق بها يصرف القلب عن الله فتكون وجهته إلى غيره فيغفل القلب بواسطة هذه المحبّة عن ذكر الله ويعرض عنه،فيحجب عن معارف القرآن الحقّة.
هوامش
1- سورة الكهف، الآية 66.
2- سورة البقرة، الآية 260.
3- سورة طه، الآية 114.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 89، ص 95.
5- م. ن، ج 2، ص 303.
6- سورة المطففين، الآية 14.
7- سورة الأعراف، الآية 179.
8- سورة محمد، الآية 24.
9- سورة الواقعة، الآيات 77 – 79.
10- سورة البقرة، الآية 2.
11- سورة المائدة، الآيتان 15 – 16.