قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيل﴾1.
الهدف من خلق الإنسان
إنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، بل خلقه لهدف وغاية، وهي معرفته تعالى وعبادته، كما ورد في الحديث القدسي: "كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف"2. فإن عرف العبدُ الله سبحانه وتعالى وعرف عظمته وقدرته وسلطانه وتفكّر في عظيم صنعه أدّى ذلك إلى عبادته، كما أوضح سبحانه وتعالى هذه الغاية في كتابه الكريم، حيث قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾3، فالمعرفة والعبادة وأداء حقّ الطاعة والالتزام بالتكاليف الإلهيّة بالنسبة للإنسان تحقّق الهدف الحقيقي من الخلق، لأنّ الإنسان هو محلّ الاختبار بهذه التكاليف، لِمَا خصّه الله تعالى من نعمة العقل الذي يميّز بين الحقّ والباطل وبين المصالح والمفاسد: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولً﴾4 لذلك كان الخطاب والتكليف من الله سبحانه وتعالى للناس أن يؤمنوا بالله، وأن يلتزموا بتعاليم الله من خلال الالتزام بما جاء به الرسول.
ثقافة التكليف
"كلّنا مأمورون بأداء التكليف والواجب، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج"5.
ثقافة التكليف تعني الالتزام بالتكليف الشرعي الإلهي، ويمكن لنا أن نسلّط الضوء على بعض المسائل التي ترتبط بثقافة التكليف بصلة وثيقة، كالروحية التي ينبغي وجودها في الإنسان الذي يتّصف بالالتزام بالتكليف الإلهي، والغرض من هذا الالتزام، وكذلك من يحدّد لنا التكليف الشرعي هذا؟
مصدر التكليف؟
التكليف هو الأوامر والنواهي الإلهيّة، أي إنّ التزام التكليف هو الالتزام بما يأمر الله تعالى والانتهاء عمّا ينهى عنه.
إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان اجتماعيّاً بطبعه، فيسير نحو التكامل بالتعاون مع بني جنسه، لأنّ كلّ ما يحتاجه الإنسان من أموره الصناعيّة والأغذية والملبوسات وغيرها إنّما يحتاج إلى غيره وكذلك غيره، يحتاج إليه فيما هو من اختصاصه وعمله، ولكنّ الناس مع اجتماعهم وتباين رغباتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف حاجاتهم وقواهم وأذواقهم وشهواتهم، فإنّه قد يحصل بينهم التنازع والفتن، وعليه فلا بدّ من قانون عادل يقنّن حياتهم وينضوون تحته، وهذا القانون لا يمكن أن يكون من صنعهم لما بيّناه من اختلاف أمزجتهم ورغباتهم. وتصارع الأمم، وسيطرة القوي على الضعيف لهو خير دليل على فساد هذه الأنظمة الوضعية، فلزم أن يستند صنع هذا القانون إلى من لا حاجة عنده ولا ميول شخصيّة، وعنده معرفة بتفاصيل الإنسان وحاجاته وميوله وقدراته، وهذه الصفات غير متحقّقة سوى في الله سبحانه وتعالى، الذي وضع التكاليف وأرسل الرسل بها، وآخرهم رسول البشرية محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لينقاد الناس إليه ويطيعوه، مؤيداً ذلك بمعجزات تدلّ على أنّه من عند الله تعالى ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾6.
وهكذا، ما كان الله ليترك الأمّة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم دون راعٍ يحدِّد لها تكليفها ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾7 فكان الأئمّة عليهم السلام، وحيث إنّنا في زمن الغيبة، ويتعذّر أخذ التكليف من الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف مباشرة، فلم يترك الإمامُ الأمّةَ دون تكليف، بل أرجعهم إلى الفقيه العادل الكفوء "فارجعوا بها إلى رواة حديثنا"، ليكون الوليّ الفقيه مصداقاً لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾8.
حدود التكليف
عندما نقول التكليف الشرعي، فإنّ ذلك يعني بالدرجة الأولى أنّ التكليف نابع من الإسلام، وهذا ما يكسبه الشرعيّة، هذا التكليف الذي يشمل جوانب حياة الإنسان كافة، سواء أكانت فرديّة أم اجتماعيّة أم سياسيّة...، يقول الإمام الخميني قدس سره: "حدّد الإسلام التكليفَ في كلّ شيء، ووضع القوانين لكلّ شيء، ولا حاجة بالمسلمين لتقليد أحد، أو اتّباعه في قوانينه"9.
علاقتنا بالتكليف
إن علاقتنا بالتكليف الشرعي هي علاقة التسليم للأمر الإلهي، حيث يكون في عقيدة الإنسان أنّ التكليف المناط به هو أمر ينتهي إلى الله سبحانه تعالى.
ولهذا، فالامتثال للتكليف لا يخرج عن عنوان طاعة الله تعالى، ولا يخضع لمزاج الأشخاص والأفراد ورؤيتهم الخاصّة للأمور، وإلا فإنّ نظام القيادة في الإسلام سيختلّ، وسنتحدّث في ما يلي عن ارتباط بعض المسائل بالتكليف وعلاقتها به.
التسليم والانقياد للتكليف
على الإنسان أن يلتزم بالتكليف ويؤدّيه على أكمل وجه، لأنّ فيه المصلحة لنفس الإنسان وذاته، وإنّ الله تعالى: "لا تنفعه طاعة من أطاعه ولا تضرّه معصية من عصاه"10 ولا يؤدّي الإنسان حقّ العبودية حتّى يسلم إلى الله تعالى ورسوله وأولي الأمر في التكاليف، وينقاد إليه الانقياد التامّ، ويقول تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً﴾11 ففي هذه الآية أقسم الله تعالى بأنّ الناس لا يمكن أن يمتلكوا إيماناً واقعياً إلا إذا تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقضائه، ولا يتحاكمون إليه فقط، بل ليرضوا بحكمه على كلّ حال، وأن لا يشعروا بأيّ حرج في نفوسهم فضلاً عن أن لا يعترضوا، ويصل الإنسان إلى هذه الحالة من خلال التربية الخلقية المستمرّة، حيث يحصل بها عند الإنسان روح الانقياد والتسليم أمام الحقّ جلّ شأنه، خصوصاً إذا كان الآمر والحاكم منصّباً من قبل الله تعالى، كشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اعترفت البشرية كلّها بفضله، ودان الأحرار بدينه. كما بيّنت الآية الكريمة علامات الإيمان الراسخ، وتكون في ثلاث مراحل:
الأولى: التحاكم إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّ حكمه هو حكم الله.
الثانية: عدم الشعور بالانزعاج من حكمه.
الثالثة: تطبيق هذه الأحكام تطبيقاً تاماً، ويسلّموا التسليم أمام الحقّ تسليماً كاملاً.
وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام التي يستدلّ فيها على ولاية الفقيه: "فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنّما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا كالرادّ على الله"12.
التكليف والبذل والعطاء
قد يحصل أن تقدّم بعض الجهات مبالغ مالية مقابل القيام ببعض المسؤوليّات التي تصبّ في صالح الإسلام وأمّة المسلمين، وأخطر ما في الأمر أن تصير هذه المبالغ المادّيّة هدفاً بحدّ ذاته، بحيث لو توقّف المال توقّف عن أداء مسؤولياته، وهذه المسألة نابعة من حبّ الدنيا، وأمّا الروحيّة التي ينبغي أن تحكم علاقتنا بالتكليف فهي روحية البذل والعطاء. فلو لم تكن أمور المسلمين لتستقيم إلا ببذل الإنسان من حسابه ومن جيبه الخاصّ فعليه أن لا يبخل على الإسلام، يقول الإمام الخميني قدس سره: "لست بحاجة للمال، وسوف أتصدّى لمواجهة الملك بقلم وعدّة صفحات من الورق، وإذا ما احتجت المساعدة يوماً، فإنّ شعبي سيساعدني"13.
فإنّ التكاليف الشرعيّة لا تسقط عن المكلّفين بسبب شحّ الموارد المالية وما شابه، هذا من الأسباب الدنيويّة، وهي كما يصفها الإمام قدس سره: "التكاليف الإلهيّة هي أمانات الله"14.
التكليف والاعتبارات الشخصيّة
عندما نتحدّث عن التكليف فإنّه لا مجال للحديث عن الاعتبارات الشخصيّة من مقام ورتبة وشأنية، فإنّها تسقط أمام مصلحة الإسلام والمسلمين، وهكذا كانت سيرة الإمام الخميني قدس سره حيث واجه التحدّيات والنفي من بلد إلى بلد... لأجل أداء التكليف فقط، يقول قدس سره: "ليس مهمّاً عندي أين أكون، المهمّ هو العمل بالتكليف الإلهي، والمهمّ هو مصالح الإسلام والمسلمين العليا"15.
التكليف ونتائجه
إنّ الله سبحانه وتعالى هو علّام الغيوب، وهو العالم بالنتائج الحقيقيّة لكلّ أمر، بل إنّه هو تعالى الذي يحقّق النتائج بتوفيقه وتسديده ومنّه على عباده، لذلك فإنّ على الإنسان القيام بتكليفه والالتزام بالواجب الشرعي، وأما النتائج والتوفيق فهما من الله تعالى والإنسان غير مكلّف بهما، يقول الإمام الخميني قدس سره: "أمّا بالنسبة للنتائج الموجودة فيمكن أن تتحقّق ويحتمل أن لا تتحقّق. وفي هذه الأمور التي يجب على الإنسان القيام بها كتكليف شرعي لا يجب ولا يشترط أن نحصل على العلم بحتميّة تحقّق الأهداف التي نرجوها منها، بل يجب أن يكون اهتمام المرء بها كتكاليف كلّف بها، وعليه أن يعمل بها".
بركات الالتزام بالولاية
يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾16 هذه الآية المباركة تشير إلى الولاية الشرعيّة العائدة إلى ولاية الله تعالى، والتي هي ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده الأئمّة عليهم السلام، وفي زمن الغيبة ولاية الفقيه، وللالتزام بهذه الولاية الشرعيّة بركات عظيمة وجليلة، نذكر منها:
1- النصر:
وهذا ما أوضحته الآية الكريمة، حيث أعلنت للمسلمين بأنّ النصر سيكون حليف أولئك الّذين يقبلون القيادة الشرعيّة، ووصفتهم بأنّهم حزب الله الغالب، هذا الانتصار الذي يشمل جميع الجهات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وغير ذلك.
وهذا ما أكدت عليه الآية الكريمة: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾،17 فمن أدّى تكليفه الشرعي، وتولّى أولياء الله، وقاتل تحت راية القيادة الشرعيّة، فلا بدّ أن ينتصر وينصره الله تعالى ويؤيّده ويسدّده.
2- الوحدة:
وهذا ما أُشير إليه في ذيل الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام، التي يذكر فيها سبب ضرورة وحدة القيادة: "إنّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتّفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أنّا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمّ والإرادة، فإذا كانا اثنين ثمّ اختلف همّهما وإرادتهما، وكانا كلاهما مفترضي الطاعة، لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق والتشاجر والفساد"18. فإنّ الولي الفقيه العادل هو القادر على توحيد هذه الأمّة بعدما جهد أعداء الإسلام في تمزيقهم وتفريقهم ضمن السياسة المتّبعة تحت قاعدة (فرّق تسد).
3- العزّة:
إضافة إلى الآية السابقة: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون﴾، يقول الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعً﴾19، فإنّ العزّة لا تكون إلّا من الله تعالى، لأنّه مصدر الشرف والعزّة والكرامة الحقيقية، وإنّ الروح لا تشعر بالاطمئنان إلا في ظلّ الإيمان: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾20. ومن هنا فإنّ البحث عن العزّة في غير الطريق الإلهي لن يكون مجدياً، فالمؤمنون اكتسبوا العزّة من شعاع عزّة الباري تعالى، لأنّهم ساروا في طريق الالتزام بطاعة الولي الشرعي التي هي ظلّ طاعة الله تعالى، فعن الإمام الحسن عليه السلام: "إذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فأخرج من ذلّ معصية الله إلى عزِّ طاعة الله"21 فالعزّة الحقيقية لا تكون إلا بطاعة الله من خلال أوليائه.
* كتاب في رحاب الولاية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- النساء، 59.
2- شرح أصول الكافي، المازاندراني، ج1، ص 24.
3- الذاريات، 56.
4- الأحزاب، 72.
5- الكلمات القصار، للإمام الخميني قدس سره، عنوان: أداء التكليف.
6- النجم، 3.
7- الرعد، 7.
8- الحج، 41.
9- الكوثر، ج1، ص292.
10- بحار الأنوار، م. س، ج 65، ص 193.
11- النساء، 65.
12- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج1، ص34.
13- الكلمات القصار، عنوان: الإمام الخميني قدس سره.
14- الكوثر، م. س.
15- الكوثر، م. س.
16- المائدة، 56.
17- محمّد، 7.
18- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج1، ص254.
19- فاطر، 10.
20- يونس، 62.
21- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج44، ص139.