نشرت جريدة القبس الكويتية تفصيل عن دفن الشهيد المرجع آية الله العظمى السيد محمّد باقر الصدر وفيما يلي نص التقرير:
النجف ـ موفد القبس ـ نزار حاتم:
كلما استعدت أنفاسك، وهدأت عواطفك من هول مفاجأة أو جريمة ارتكبها نظام صدام حسين، صفعتك مفاجأة جديدة أكثر هولاً.. وكأنك تخرج من باب إلى باب، ومن سرداب إلى آخر، فتبقى عيناك مفتوحتين دهشة لا تكاد أن تصدق فيلم الرعب الطويل الممتد أربعين عاماً، والذي حصد مئات ألوف الضحايا، رجالاً ونساء وأطفالاً، مهندسين وأطباء وعمالاً وتلاميذ ورجال دين، من شمال العراق حتى جنوبه مروراً بالوسط، وخاصة هنا في الوسط الشاهد الأبدي على الجريمة، بأفظع أشكالها وصورها.
.. وفي قلب الوسط النجف
وفي النجف كانت المفاجأة الأكبر منذ دخلت العراق قبل شهر من الآن لتغطية أحداثه وتطوراته إثر سقوط صدام ونظامه وأجهزته.
كنت على مشارف نهاية مهمة صحفية فجّرت كل الحزن الذي يمكن أن يحمله إنسان من لحم ودم وفيه قلب ينبض وبقية من مشاعر.. فقد حملتني تلك المهمة إلى المقبرة الجماعية التي اكتشفت للتو في النجف.. أشاهد القبور والجثث لأشخاص معروفين وآخرين مجهولين، وجماجم وعظام أطراف، وبقايا شعر لضحايا قتلوا غدراً وعدواناً بدون ذنب ارتكبوه سوى أنهم لم يكونوا من أتباع صدام وزمرته.
كان الحزن يعصر كل خلية في جسدي، وشمس النجف تخفف حدتها الدموع المنهمرة على وجنتي، بل شعرت بأن الحزن يلف أطراف الصحراء النجفية كلها.
الإجرام تحت جنح الظلام
إنه يوم يتفجر وجعاً ويشرق بالدموع والألم ليغرق هذه المدينة وأهلها، بل وأهل العراق جميعا بطوفان الحزن الذي حمله نبأ العثور على المقابر الجماعية التي ضمت مئات، وربما ألوف، الشباب والشابات الذين كان قتلهم نظام صدام الفاشي ووارى جثثهم تحت جنح الظلام في هذه المقابر التي ستظل تصرخ في وجه التاريخ أن لا مجرم في هذه الأرض يباري صدام حسين في جرائمه البشعة.
سحابة حزن تهطل على الجميع بأنباء هذه الفاجعة لتترك المرء ذاهلا حيالها، فلا رجل ولا امرأة ولا طفل في ذلك اليوم قد فتر عن التحدث بهذه المأساة، التي يحسب من شاهدها أن صدام حسين كان قد عزم على قتل العراقيين جميعا ليرقص على أشلائهم بلا رادع أخلاقي أو إنساني.
من ذا الذي يدلني على هذه المقابر التي تم اكتشافها بعد أن حملتني الأجوبة المتضاربة على مكانها إلى أكثر من جهة دون جدوى.
فقد قيل لي إنها بالقرب من مطاحن الحصا على الطريق الذي يربط النجف بكربلاء فتوجهت إلى هناك دون أن اعثر عليها، وقيل أنها بالقرب من منطقة الشوملي شمال النجف فلم أجدها حتى ظننت أنها محض دعاية ليس إلا.
بعد التفكير مليا رأيت من الأجدى التوجه إلى داخل مدينة النجف لعلي اعثر على من أثق به ليقطع الشك باليقين، وفي الطريق الممتد من النجف إلى الكوفة وقع بصري على مبنى كتبت على واجهته الأمامية عبارة (المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق)، سلمت على العناصر الواقفين إلى جانب البوابة الرئيسية لحراسة المبنى وأخبرتهم بمهمتي، فأسرع أحدهم ليخبر المسؤولين الذين أوعزوا إليه بالسماح لي في الدخول إليهم، ثمة رجل نجفي يرتدي الغترة والعقال كنت اعرفه هو الحاج اسعد أبو كلل، لقد استقبلني بحفاوة وتبين لي في ما بعد انه يعمل مديراً لمكتب العلاقات العامة في المجلس الأعلى.
هكذا ارتكبوا الجريمة
سألته فورا عما إذا كان صحيحا موضوع المقابر الجماعية، فرد علي (نعم لا تستعجل سأدلك عليها لأني أول من اطلع على هذه المصيبة).
يا لها من مصادفة أن ألتقيك أذن، أرجوك حدثني مفصلا عن هذا الأمر؟
ـ في البدء لابد أن اذكر لك أن هناك شخصين أحدهما يدعى علي رحم، فيما لا يزال الآخر يتحفظ على ذكر اسمه بسبب الخوف الذي ظل ملازما له من النظام المقبور، عندهما مزرعة طماطم كانا تحدثا إلي منذ سنوات أنهما شـاهدا سيارات كبيرة تقوم بنقل أشخاص أحياء ويترجل منها مسلحون فيطلقون النار على رؤوس هؤلاء الأشخاص، ثم يقومون بدفنهم مجتمعين بالقرب من المزارع في منطقة الكفل القريبة من مدينة النجف. فيما كان يتحدث معظم أهالي المدينة عن وجود مقابر جماعية في مدينتهم، ولما سقط نظام صدام جاءني هذان الشخصان ليؤكدا لي وجود هذه المقابر، فتوجهت معهما صوب هذه المزارع وقمنا بعمليات الحفر، وعثرنا في اليوم الأول على رفات خمسة وعشرين شخصا دفنوا بثيابهم بعد إطلاق النار عليهم بينما كانت أيدي بعضهم مكبلة إلى الخلف وهم من محافظات عراقية مختلفة تعرفنا عليهم من خلال بعض وثائقهم التي كانت بحوزتهم ساعة قتلهم من قبيل شهادة الجنسية والمحفظات الصغيرة، وبدورنا عمدنا إلى تكفينهم، كما علقنا بذيل أكفانهم كل مقتنياتهم التي كانت معهم، ثم قمنا بدفنهم بعد أن وضعنا رقما لكل واحد منهم ليتسنى لأهلهم التعرف عليهم.
.. الآتي أفظع!
ثم عدنا إلى عملية الحفر للبحث عن المزيد من هؤلاء الضحايا فعثرنا على رفات تسعة آخرين، مؤملين أنفسنا في مواصلة البحث عند المساء، لكن احد الأشخاص الذين علموا بالموضوع سارع إلى إخبار عامر عبود العيداني الذي عينته قوات التحالف محافظا للنجف والذي سارع بدوره إلى إخبار الأمريكيين فمنعونا من مواصلة كشف هذه المقابر، فذهبت إلى المحافظ نفسه وكان جالسا عنده شخص أمريكي يدعى Mr. Steef وأبلغت المحافظ بضرورة الكف عن منعنا من عملنا هذا، وبالفعل فقد انسحب الأمريكان من المقبرة فواصلنا عمليات البحث التي أسفرت لغاية اليوم عن اكتشاف إحدى وتسعين جثة البعض منها بلا رأس، وللعلم سوف يتم اكتشاف عدد من هذه المقابر في عموم المحافظات العراقية الأخرى.
ضد المحافظ.
على ذكر المحافظ كيف علاقتكم وعموم أهل النجف به؟
ـ علاقتنا به سيئة للغاية ويعتزم النجفيون عموما تنظيم تظاهرات ضده تطالب الأمريكان باستبداله.
في هذه الأثناء دخل علينا رجل كان التعب باديا عليه فيما لم تزل بقايا التراب عالقة بشعر رأسه ودشداشته، وقد اخبر الحاج أسعد أبو كلل بجلب رفات عدد ممن قد عثر عليهم في هذه المقابر، مشيرا إلى انه قام بتكفينهم وجاء بهم إلى باحة المكتب في سيارة وآنيت، فسارعت على الفور لرؤية هذا المشهد المروع.
ها هي جثامينهم الملفوفة بالأكفان مرصوف بعضها جنب بعض في هذه السيارة، وقد كتبت أسماء بعضهم بعد التعرف عليها من خلال وثائقهم المدفونة معهم، على الأكفان، اذكر من بينها التالي:
1 ـ طالب جاسم محمد اللامي واسم والدته نجيبة موسى من محافظة البصرة ـ حي الرباط الكبير.
2 ـ محمد سالم ساهي الفرحان، اسم زوجته نادية حسن رمضان، واسم أمه صفية سوادي ـ بصرة محلة الرباط الكبير.
لا بد لي أن انتصر على حالة الهلع التي استحوذت عليّ أثناء تلك اللحظات، لأكمل الرحلة في هذا المشوار المأساوي، فطلبت من الحاج أسعد أبو كلل أن يبعث أحدا معي إلى المقبرة، فأوعز إلى الدفان ليصطحبني إلى هناك.
فاجأني رفيقي الدفان المدعو عباس بلاش خضير البركاوي بخفة دمه، خلافا لما هو مألوف عند من يمارس هذه المهنة، ربما لأنه يريد مني زيادة في أجره، وقد أوحيت له باستعدادي لذلك ليريني المزيد من الجرائم التي اقترفها صدام بحق العراقيين.
لقد أشار إليّ بالتوجه إلى المقبرة التي تسمى بالجديدة شمال النجف، التي ما أن بلغناها حتى شاهدت عددا من الدفانين يقومون بتكفين رفات لأشخاص آخرين ورصفهم على الأرض ليتولوا دفنهم واحدا تلو الآخر في قبور قد أعدت لكل واحد منهم، ثم دعاني هذا الدفان إلى التوجه معه إلى ارض صحراوية متاخمة لعدد من المنازل وجدت عليها أكواما رملية صغيرة عرفت في ما بعد أنها بمثابة شواهد للذين دفنوا قبل ساعات عقب العثور على رفاتهم في مقابر جماعية، فيما سيعود الدفانون إلى استبدال هذه الأكوام بالاسمنت ليكتبوا عليها أسماء الضحايا.
كاد الجزع يحبس أنفاسي، فقد تمنيت لو أني لم افتح هذا الباب الواسع من الحزن على قلبي.
المفاجأة الكبرى!
وسط هذه الحالة، سألت الدفان الذي اصطحبني في جولتي: وماذا بعد يا رفيقي؟ إلى أين ستأخذني في رحلتك التي يسير فيها القلب على شفرة السكين؟
أجاب الدفان:
(سآخذك إلى مكان لم يخطر على بالك، سأريك قبر آية الله العظمى السيد محمّد باقر الصدر).
لم أدرك جيدا ما سمعت. وتمتمت:
أجننت؟ من أين لك هذا، والعراقيون حتى الأمس القريب يرددون في كربلاء بمناسبة أربعينية الإمام الحسين (هلّه هلّه الصدر وينه.. ضيعوا قبره علينا)، قبل ثلاثة أسابيع فقط: أدرك جيداً أنّ مصير السيّد محمد باقر الصدر يمثل قمّة المأساة التي عاشها الشيعة العراقيون في ظل حكم صدام. فلقد تم إعدام هذا المرجع الكبير في عام 1980، عقب اعتقاله مع شقيقته بنت الهدى وقيل أن صدام هو الذي قتل هذا المرجع الديني، وقــيل أن نائبه عزة الدوري هو الذي تولى المهمة القذرة، بينما آفادت رواية ثالثة أن صدام أطلق الرصاصة الأخيرة على الشهيد بحضور الدوري وقيل أيضا إن صدام أمر بإحراق لحية الشهيد تشفيا، وسمل عينيه، وغرزوا في رأسه مسمارا قبل أن يطلقوا الرصاص عليه.
والشائع بين الناس أن جثة الإمام الصدر لا اثر لها، وان لا قبر له.
تذكرت كل هذا وأنا أفكر بما سمعت من الدفان.
لكن عباس أصر بعناد:
ـ سوف ترى.
لم تمض سوى دقائق معدودة حتى وصلنا إلى بقعة من الأرض أعدت خصيصاً لاحتضان رفات الصدر التي تمّ نقلها من قبره السابـق الذي كان دفن فيه بين القبور بإشراف جلاوزة الأمن الصدامي. وهو مكان قريب من مكتب الاستعلام عند المدخل الغربي لمقبرة وادي السلام.
سألت أحد الذين نقلوا الرفات من قبره القديم فوراً بعد سقوط النظام في إبريل الماضي عمّا إذا كانوا عثروا على شيء من مقتنيات الصدر التي بقيت معه ساعة دفنه؟
رد عليّ احدهم بكلمة نعم واثقة موضحاً، (لقد وجدنا خاتمه الذي كان يضعه في خنصره بيده اليمنى منقوشاً عليه اسم (محمّد) تيمنا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
هل يمكن أن أراه؟
ـ كلا أبداً، هذه الأمور موقوفه على مجيء نجله السيّد جعفر الصدر من مدينة قم قريباً لنقوم بتسليمه له.
كيف تمّ العثور على رفات الصدر والجميع كان يتحدث عن محاولات جرت دون جدوى من أجل التعرف على قبره؟.. بهذا السؤال توجّهت إلى الدفان الذي جاء بي إلى هذا المكان.
ـ سأشرح لك تفاصيل القصة كما هي بالصورة التالية:
هل تعرف أنت التفاصيل حقا؟
ـ طبعا، لأن أخي الأكبر هو الذي دفنه عقب يوم من مقتله على يد النظام، وهو الذي عرّف الآخرين بمكان القبر.
كيف؟
ـ في الشهر الرابع من عام 1981 طرق باب منزلنا في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً كل من مفوضي الأمن جبار سعد حميد، وفاضل صاحي فرز علي، وطلبا من أخي التوجه معهما إلى المقبرة القديمة بدعوى أن عندهما جنازة يريدان دفنها، ولما وصلوا إلى هناك سأله المفوضان عما إذا كان يعرف اسم هذا المسجى، فأجابهم (نعم أعرفه انه محمد باقر الصدر).
فقال المفوضان (طيب بما إننا رجال أمن لا يمكن أن نتحدث لأحد بالأمر، فإنّك المسؤول وحدك إذا ما سمعنا بهذا الموضوع، أو انتقل الخبر، ولذا يجب أن توقّع على هذا التعهد الذي يقضي بإعدامك حال سماعنا بنبأ دفنه، وحينها لم يجد أخي بدا من التوقيع الذي ظل يؤرقه طيلة فترة حكم صدام مخافة أن يشي احد المفوضين بالأمر ويحمله المسؤولية.
كما عمدت مديرية أمن النجف طيلة هذه السنوات إلى استدعاء أخي كل ستة أشهر للتوقيع مجدداً على هذا التعهّد.
وفي عام 1986 استدعي أخي إلى خدمة الاحتياط العسكريّة إبان الحرب العراقيّة ـ الإيرانيّة فخشي أن يقتل في هذه الحرب ويضيع قبر الصدر، فتوجه إلى شخصين يثق بهما وأخبرهما بالأمر، مشترطاً عليهما إداء القسم عند مرقد الإمام علي بعدم إفشاء هذا السر لكي يدلهما على القبر، وعقب ادائهما اليمين أمامه توجه بهما في منتصف الليل ودلهما عليه، مؤكدا انه قد نزع الخاتم الذي كان بخنصر السيد الصدر ودسه في الكفن ليظل علامة دالة على قبره ورفاته.
وفي عام 1991 إبان الانتفاضة الشـعبية ضد النظام المقبور قام رجال الأمن باقتياد أخي من منطقة خان المخضر في النجف واعتقاله من اجل التحقيق معه حول ما إذا كان تحدث لأحد حول مكان قبر السيد الصدر، فنفى ذلك جملة وتفصيلا فأفرج عنه بعد أن تحمل أنواع التعذيب.
(لقد اضطر أخي لأن يخفي هذه المرة الحقيقة)، كما قال عباس بلاش. وأضاف: لقد اتفقت مع أخي أن الظروف لم تكن تسمح بعد الانتفاضة بأن نستمر في حمل السر وحدنا. واتفقنا على إبلاغ نفر قليل من أقرب أنصاره، وعمدنا تحت جنح الظلام إلى نقل الجثمان إلى مكان آخر على بعد ثلاثة آمتار من الأول.
وقد صدق حدسنا حيث قام رجال الأمن بعد عودة سيطرة نظام صدام على المدينة بهدم القبر الأول اعتقاداً منهم أن الجثة مازالت فيه!
وهكذا ظل الأمر طي الكتمان حتى حانت ساعة الخلاص من صدام ونظامه المجرم فبادر أخي إلى كشف هذه الحقيقة بكافة ملابساتها ومعاناتها التي تحملناها كل تلك السنوات.
وبادر نفر من أصدقائه الذين حملوا السر معنا إلى إعادة تكفين الجثمان، ومن ثم دفنه في هذه البقعة الجديدة لتكون مزاراً.
نعم الحزن وحده يهز اطراقة الصحراء النجفية، ويحثو رمال الرذيلة بوجه صدام وزبانيته المجرمين.