من ملامح الشخصيّات الكبيرة أنّ كلَّ واحدٍ منهم أمّةٌ؛ لما يقومون به من إنجازاتٍ كبيرةٍ، ويخلّفون من الآثار التي من شأنها أن تُنجزها أمّةٌ، ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف إبراهيم (عليه السلام) بأنّه أُمّةٌ، ويقول: {إِنَّ إِبْراهيمَ كانَ أُمَّةً قائِماً للّهِ حَنيفاً ولَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكينَ} (النمل: 120).
هكذا كان العلاّمة الطباطبائي، فهو ـ بحقٍ ـ أُمّةٌ، لما أنجزه من الآثار العلميّة والخدمات الجليلة التي تركت بصماتٍ واضحةً على التراث الشيعي.
وقد كان العلامة الطباطبائي من الثلة الذين تمتّعوا بذهنيّةٍ وقادةٍ، ومنفتحةٍ على أكثر العلوم، وارتشف من معينها ونبغ فيها، فهو في مجال التفسير مفسّرٌ بارعٌ يفسّر القرآن بالقرآن والآية بالآية، وفي مجال الفلسفة مفكرٌ إسلاميٌّ كبيرٌ، مؤسسٌ لأصولٍ فلسفيّةٍ، وفي العرفان وتهذيب النفس والتخلّق بالمُثل العليا عارفٌ شامخٌ وأخلاقيٌّ مهذّبٌ، ضمَّ العرفان النظري إلى العملي، وبلغ شأناً عظيماً، فخرق الحُجُب الماديّة بعيونٍ برزخيّةٍ، كما أنّه في العلوم النقليّة بلغ مرتبة الاجتهاد، وكانت له أنظارٌ في الفقه والأصول، إلى غير ذلك من الفضائل والمآثر التي يُضرب بها المثل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد: 21).
لمحةٌ من حياة السيد الطباطبائي
وُلد (قدَّس سرَّه) في مدينة «تبريز» في التاسع و العشرين من شهر ذي الحجة الحرام من شهور عام 1321، و عاش ثمانين سنةً وثمانية عشر يوماً، وخلّف تراثاً علميّاً ضخماً، وربّى جيلاً كبيراً من المفكّرين، أوجد من خلالها تحوّلاتٍ عظيمةً في العلوم الإسلاميّة، ولقى ربّه بنفسٍ مطمئنةٍ يوم الأحد الثامن عشر من محرم الحرام من شهور عام 1402هـ، ووُرِيَ جثمانه الطاهر في حرم السيّدة فاطمة بنت الإمام الكاظم (عليمها السلام) تجد صخرة قبره إلى جنب قبر السيد النقي الورع السيد أحمد الخونساري ـ قدّس اللّه سرّهما ـ فاقترن الكوكبان في مضجعهما كما كان بينهما أُلفةٌ في حال حياتهما.
نشأ (قده) وترعرع في أسرةٍ عريقةٍ بالعلم والثقافة، ولها تاريخٌ وضّاحٌ، يتصل نسبه إلى السيد الجليل مير عبد الوهاب الذي تقلَّد منصب «شيخ الإسلام» في أذربيجان قبل ظهور السلسلة الصفويّة.
نشأ السيّد الطباطبائي في حضن أبويه حتى وافتهما المنيّةُ، ولم يتجاوز عمر السيد ـ آنذاك ـ تسع سنين، وبُعث إلى المدرسة، وتعلّم فيها القرآن، والأدب الفارسي، والرياضيات، فتهيّأ إلى دخول الجامعة الإسلاميّة في مدينة "تبريز"، وقرأ فيها الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والفقه، والأصول، والكلام، ولم يترك شيئاً من العلوم الرائجة يومذاك إلا وقد انتهل منها، حتى درس الخط واستغرق جميع ما درسه من الآداب والسطوح العالية تسع سنين ونال منها حظّاً عظيماً.
وثمّة نكتة جديرة بالذكر، وهي أنّه (فده) كتب رسالةً موجزةً في حياته، نقتبس منها فيما يرجع إلى تلك الحقبة من حياته.
يقول: "كنت في بداية دراستي غير راغبٍ في الاستمرار فيها، وكنت على هذا الحال سنين أربعٍ إلى أن شملتني العناية الإلهيّة وأوجدت تحوّلاً جذريّاً في نفسي، وأحسست بشوقٍ منقطع النظير إلى الاستمرار فيها، وعوّلت على استسهال الصعب، فأكببت على الدرس بعزمٍ راسخٍ، ونسيت كلّ شيءٍ سواه، واقتصرت من الدنيا باليسير، وسهرت الليالي منكبَّاً على المطالعة والدراسة، وكنت أحضِّر المادة الدراسيّة قبل حضوري مجلس الدرس، وأستوعبُ أكثر ما يلقيه الأستاذ فيه، وكان جلّ سعي هو فهم المطالب وحل المشاكل العلميّة التي أواجهها بالإمعان والمطالعة دون أن استفسر عنها".
وقد مشى (قده) على هذا المنوال إلى أن غادر مسقط رأسه إلى النجف الأشرف عام 1344 هـ؛ بغية إكمال دراساته العليا، فأخذ يختلف أندية الدروس العالية لأساتذة الوقت في الفقه والأصول: السيد أبو الحسن الأصفهاني، والشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ محمد حسين الأصفهاني الذي نالت دروسه درجةً كبيرةً من الأهميّة عند السيد الطباطبائي، فكان يُثني عليه كثيراً، ويسير على نهجه في أُصول الفقه.
وأمّا أساتذته في العلوم العقليّة، فقد حضر درس العرفان عند السيد علي القاضي، كما حضر دروس الفيلسوف الكبير السيد حسين البادكوبي الذي هو من تلاميذ السيد أبو الحسن المعروف بـ«جلوة»، وكان المترجم له يُثني كثيراً على أُستاذه البادكوبي، ويذكره في المجالس والمحافل العلميّة.
ولكي يقف على كيفيّة إقامة البرهان على المسائل الفلسفيّة حضر دروس الرياضي الكبير السيد أبو القاسم الخونساريّ، فقرأ عليه دورةً كاملةً في الحساب، والهندسة المسطّحة والفضائيّة، والجبر الاستدلالي.
وعلى الرغم من أنّ السيد الطباطبائي كان مكبَّاً على العلم والتعلّم، لكنّه لم ينس أبداً تهذيب النفس، وتحليتها بالفضائل، وتخليتها عن الرذائل، وقد اقتدى في ذلك بأستاذه العظيم السيّد علي القاضي الذي بلغ في تهذيب النفس مقاماً شامخاً حتى صار صاحب كرامات.
كما أنه (قده) ضمّ إلى العرفان النظري العرفانَ العملي، ومن له أدنى إلمامٍ بالعرفان النظري يقف على أنّه بمجرّده لا ينوّر الضمير مالم ينضم إليه العرفان العملي، فللعارف جناحان: أحدهما علمه، والآخر عمله، بهما يُحلِّق في سماء الكمال.
مغادرة النجف الأشرف
ظلّ (قده) في جامعة النجف الأشرف أحد عشر عاماً، غير أنّ تدهور الأوضاع الاقتصاديّة ألجأته إلى مغادرة النجف إلى "تبريز" مسقط رأسه، وكان المترقّب أن يشتغل بنشر المعارف وتعليم جيله، لكن الأوضاع السياسيّة السائدة آنذاك عاقته عن نيل تلك الأمنية، فألقى الرحل في قريةٍ من قرى "تبريز" تُعرف بقرية «شادباد» واشتغل فيها بالفلاحة لسدّ حاجته الماديّة، ودام هذا الوضع عشر سنين، ويصف فيها تلك الفترة عن مضض ويقول:
"إنّ تلك الفترة من عمري كانت خسارةً جسيمةً لي، فقد اضطررت إلى الاشتغال بالفلاحة لسدّ عيلتي، وكانت تأخذ مني قسطاً وافراً من الوقت".
ومهما يكن من أمر، فقد ألّف في تلك الفترة رسائلَ عرفانيّةً وفلسفيّةً.
كانت حياته تسير على ذلك المنوال إلى أن فُوجئ باضطراب الأوضاع السياسيّة في أذربيجان، فلم ير بداً من ترك مسقط رأسه متوجّهاً إلى "قم المقدسة"، وذلك عام 1364.
وظل يعيش تحت ولايته سبحانه في مهبط العلم ما يقرب عن 35 سنة، وتخرّج على يده جيلٌ كبيرٌ من أكابر الحوزة وعلمائها.
هذه لمحةٌ خاطفةٌ عن حياته، وإليك نزراً من أبعاد شخصيّته العلميّة في مجالاتٍ مختلفةٍ:
1. العلامة الطباطبائي والتفسير
السيد (قده) في «الميزان» بعد ما ينتهي من تفسير الآيات يستعقبها ببحوثٍ فلسفيّةٍ، واجتماعيّةٍ، وأخلاقيّةٍ، وتاريخيّة على وجهٍ لا يخلطها بما سبق من تفسير الآيات؛ حذراً من مغبّة التفسير بالرأي.
ثم إنّ تفسير «الميزان» خدم الحديث على وجه الإطلاق، فعرض قسماً من الأحاديث الواردة حول الآيات على القرآن الكريم، وفَصَلَ الموافق عن المخالف، وهذا النوع من البحث جديرٌ بالعناية لمن أعقبه من المفسرين.
وقد كان لتفسيره يوم انتشر بعض أجزائه صدى واسع في المحافل العلميّة، وهذه هي مجلّة «رسالة الإسلام» الصادرة عن دار التقريب بين المذاهب الإسلاميّة في القاهرة تصف الكتاب، وتقول: «الميزان في تفسير القرآن» تفسيرٌ جديدٌ للقرآن الكريم لسماحة العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي من علماء الإماميّة الأجلاء.
وقد نال التفسيرُ إعجابَ السيّد الراحل "المحقّق البروجردي"، وكان يتحدّث عنه ويذكره بإعجابٍ أمام علماءٍ كبارٍ، كما كان يصف المؤلّف بأنّه أحد علماء الإسلام.
2. العلامة الطباطبائي والفلسفة
كان العلامة الطباطبائي ميّالاً بفطرته إلى التفكير في المسائل الكليّة العائدة إلى الكون وقوانينه، ولأجل هذا الميل الفطري طاف على المناهج الفلسفيّة المختلفة: المشائيّة والإشراقيّة، ولم يقتصر على ذلك، بل قرأ شيئاً كثيراً ممّا يرجع إلى الفلسفة الموروثة من حكماء اليونان، وإيران، والهند، فخرج بحصيلةٍ علميّةٍ ضخمةٍ.
كان (قده) متضلّعاً في الفلسفة الإسلاميّة قلّما يتّفق نظيره، وهو يصف تكامل الفلسفة على يد المسلمين، ويقول:
ثم إنّ شأن أكثر المتضلّعين في فنٍ هو الإحاطة بمسائله ودقائقه دون أن يتعدّى جهودهم عن ذلك الشأن، بيد أنّ ثمة نوابغ قلائل يتجاوزون عن هذا الحدّ، ويبلغ بهم نبوغهم بمكانٍ إلى تأسيس نظرياتٍ، وقواعدَ، وأُصولٍ في ذلك الفن لم تكن تُعرف من ذي قبل، وهذه الثلّة لا يتجاوز عددها عدد الأصابع، والسيّد الطبطائيّ من تلك الثلّة، فهو وراء إحاطته بالمسائل الفلسفيّة المتداولة، قد طرح وكشف نظريّاتٍ وقواعدَ فلسفيّةٍ لم تكن تعرف قبله.
3. العلامة الطباطبائي والأخلاق والعرفان
درس العرفان النظري من خلال كتاب «تمهيد القواعد»، «الفتوحات»، و«شرح الفصوص» إلى أن بلغ القمّة في العرفان النظري، ولكنّه ضمّ إليه العرفان العملي بتهذيب النفس والتقوى.
وبلغ في تهذيب النفس على يد ذلك العارف السيّد علي القاضي مقاماً شامخاً تمكّن من خلالها رؤية الحقائق الغائبة عن الحس.
4. العلامة الطباطبائي والفقه والأصول
إنّ السيد الطباطبائي خاض في العلوم النقليّة كما خاض في العلوم العقليّة، وقد طوى من عمره الشريف مدّةً مديدةً في دراسة الفقه والأصول لدى عباقرة الفقه وأساتذته، كالميرزا النائيني، والشيخ محمد حسين الأصفهاني، والسيد أبو الحسن الأصفهاني، وترك أثراً في الأصول، وهو «التعليقة على الكفاية»، وكان يُدرِّس كتاب الصوم بصورةٍ استدلاليّةٍ في الحوزة العلميّة، ومع ذلك ترك دراسة ذينك العلمين، واشتغل بما هو الواجب من دراسة التفسير والفلسفة، وذلك لوجود مدرّسين كبار في الفقه والأصول.
5. العلامة الطباطبائي والرياضيات والهيئة
قد سبق منّا القول بأنّ السيّد (قده) قد درس الرياضيات، والهندسة المسطَّحة والفضائيّة، والجبر الاستدلالي في النجف الأشرف على يد السيد أبي القاسم الخونساري بإيصاءٍ من قبل أُستاذه في الحكمة والفلسفة "السيد حسين البادكوبي"، وأكّد على أنّ تعلّم تلك العلوم يهب الذهن استعداداً خاصّاً في إقامة البرهان، كما أنّه جمع بين الهيئتين القديمة والحديثة.
6. العلامة الطباطبائي والأدب العربي
قد أتقن السيد الطباطبائي القواعد الأدبيّة إتقاناً رصيناً تُعرب عنه كتاباته باللغة العربيّة وما أكثرها.
ومن عجيب الشيء أنّ له منظوماتٌ متنوّعةٌ في الصرف، والنحو، والمعاني، والبيان، والبديع، غير أنّ الزمان عبث بها ولم يبق إلا الأخير، وكانت له يدٌ طولى في الأدب الفارسي، وتدلك على براعته قصائده، وغزلياته المعروفة والمنتشرة.
7. العلامة الطباطبائي والحكومة الإسلاميّة
إنّ العلامة الطباطبائي تلميذ الميرزا النائيني الذي ألَّف كتاب «تنبيه الأمّة»، وهو أوّل كتابٍ نُشر في القرن الرابع عشر في الأوساط الشيعيّة حول لزوم تطبيق الشريعة الإسلاميّة على الصعيد العملي من خلال تأسيس دولةٍ إسلاميّةٍ تأخذ على عاتقها القيام بتلك المسؤوليّة، ولذلك ترى أنّ التلميذ تبع الأستاذ، فبحث بحثاً مسهباً في الحكومة الإسلاميّة عند تفسير قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران: 200).
وقد طرح (قده) في هذه البحوث الأسس الواقعيّة للحكومة الإسلاميّة، ولم يقتصر على ما ذكره في كتاب الميزان، بل ألّف رسالةً باللغة الفارسيّة في ذلك المضمار، وطُبعت تحت عنوان «مرجعيت وروحانيت».
بعض كتبه ومؤلفاته:
- الميزان في تفسير القرآن.
- أصول الفلسفة.
- تعاليق الأسفار.
- بداية الحكمة.
- نهاية الحكمة.
- تعليقة على الكفاية.
- الرسائل التوحيديّة: وهي رسائل أربع بالنحو التالي: رسالة التوحيد، رسالة الأسماء، رسالة الأفعال، رسالة الوسائط.
- الرسائل السبع: مجموعة تحتوى على رسائل فلسفيّة: البرهان، المغالطة، التركيب، التحليل، الاعتباريات، المنامات والنبوات، القوة والعقل.
من تلاميذه:
الشيخ مرتضى المطهري، السيد محمّد البهشتي، السيد موسى الصدر، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، السيد جلال الدين الآشتياني، السيد محمد حسين الطهراني، السيد عزّ الدين الزنجاني، السيد محمد باقر الأبطحي، السيد محمد علي الأبطحي، الشيخ حسين النوري، السيد مهدي الروحاني، الشيخ حسن زاده الآملي، الشيخ عبد اللّه جوادي الآملي، الشيخ جعفر السبحاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: الشيخ جعفر السبحاني: تذكرة الأعيان، ص 431 - 457. (بتصرف).