هِشامُ بن الحَكَمِ الكِندِي البغدادي أحد كبار الشيعة الإمامية ومن وجوه أصحاب الإمامين الصادق والكاظمعليهما السلام في القرن الثاني الهجري، وأحد متكلمي الشيعة وبطائنهم الذي فتق الكلام في الإمامة وهذب المذهب وسهل طريق الحجاج فيه.
أثنى عليه وامتدح مكانته العلمية علماء الشيعة والكثير من علماء العامّة. وعُدّ من الملازمين ليحيى بن خالد البرمكيّ؛ إذ كان دائم الحضور في مجالس المناظرة التي يعقدها هذا الوزير في بغداد، وكان القيّم بمجالس نظره وكلامه. وقد حظي بهبات كثيرة وجوائز سنيّة من هارون الرشيد تكشف عن عظم مكانته العلمية.
نبذة عن حياته
يكنى هشام بن الحكم بأبي محمد وقيل بأبي الحكم،[1] ومن الصعب معرفة السنة التي ولد فيها هشام على التحقيق، إلا أنّ القرائن الحافّة ومناظراته وكلمات المترجمين له تحصر ولادته في بدايات القرن الثاني للهجرة،[2] وقد اتفق مترجموه على أنّه من الموالي. ويبدو من بعض النصوص أنّه عربي الأصل ينتمي لقبيلة خزاعة العربية، [3]، وربّما يؤيد ذلك الأسماء التي يحملها هو وأبوه وأخوه محمد. واختلفوا فيمن ينتسب إليه بالولاء، فهل هو مولى لشيبان أو لكندة؟؛ ولكن يمكن رفع التنافي بين النسبتين والجمع بينهما، وذلك لأنّه ينسب إلى كندة بالولاء وإلى شيبان بالسكن حيث كان قد اختار السكن في جوار تلك القبيلة.[4] ويشهد لذلك وصف ابن النديم له بالقول: هشام بن الحكم البغدادي الكندي مولى بني شَيبان. حيث وصفه بالكندي والشيباني في آن واحد.[5] ونقل الكشي عن الفضل بن شاذان أنّ هشام بن الحكم كان كوفي الأصل ولد ونشأ في واسط[6] ونقل الكشي عن الفضل بن شاذان- أيضاً- أنّه شاهد دار هشام في واسط. وكان يمتهن التجارة ويعيش منها، ومركز تجارته بغداد، ومنزله منها في محلة الكرخ في قصر وضّاح[7] ويظهر أنّه كان يبيع الكرابيس.[8][9]
ويستفاد أنّه إمامي المذهب مما رواه عن أبيه عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس عن النبي صلی الله عليه وآله وسلم حول الخلفاء الإثني عشر.[10]
وتدل النصوص وكتب الرجاليين أنّ لهشام أخاً اسمه محمد بن الحكم، كان أحد رواة الحديث، يروي عنه ابن أبي عمير،[11] كما أن له ولداً يُدعى الحكم بن هشام بن الحكم الكندي سكن البصرة وكان مشهوراً بعلم الكلام، وله مجالس كلامية كثيرة تؤثر عنه. ولهشام بنت تُدعى فاطمة.[12]
الاتجاهات الفكرية والدينية
نُسب هشام لأكثر من إتجاه فكري وفرقة فكرية. والراصد لتاريخ حياته الفكرية والعلمية يمكنه توزيعها على ثلاث مراحل[13] مهمة، هي:
المرحلة الأولى: لقد عدّه البعض من أصحاب الملحد الدهري أبي شاكر الديصاني[14] مستندين في ذلك إلى رواية منسوبة إلى الإمام الرضا عليه السلام جاء فيها: ذكر الرضا عليه السلام هشام بن إبراهيم العباسي، فقال: هو من غلمان أبي الحارث - يعني يونس بن عبد الرحمن -، وأبو الحارث من غلمان هشام]]، وهشام، من غلمان أبي شاكر، وأبو شاكر زنديق"[15] وقال بعض المتابعين لحياة هشام: إننا لا نعرف على وجه التحقيق شيئاً عن مبلغ تأثر هشام بأبي شاكر الديصاني، ولا عن مدى تجاوبه مع آرائه، ولا عن مقدار ما أخذ من تفكيره.
لكن وجدنا لدى هشام اتجاهاً مادياً قويّاً، فقد نسب إليه القول بجسمية أكثر الأعراض، كالألوان والطعوم والروائح، ونسب إليه القول بقسمة الجزء أبداً، والقول بأنّ الله تعالى جسم، وغير ذلك. وهذه الآراء تنسب إلى الرواقيين من فلاسفة اليونان، ومن الممكن أن يكون لهؤلاء الرواقيين أثر في تفكير هشام، جاءه عن طريق الدياصنة الذين كانوا منتشرين في العراق، ومن دعاتها وزعمائها أبو شاكر الديصاني أُستاذ هشام. ومن العادة أن تلمح آراء الأستاذ في آراء تلميذه[16] إلا أن تلك الشواهد على ديصانية هشام لا يمكن الركون إليها والاستناد إليها، وبتعبير آخر هي شواهد غير قائمة وذلك:
- أن الرواية ضعيفة ولا أقل من كونها مرسلة.
- أنّه من غير الصحيح الانتقال من القول بكون أبي شاكر الديصاني دهرياً إلى وسم هشام بالدهرية؛ إذ لا تلازم بين الإثنين.
- أنّ مجرّد التشابه بين آراء الرجلين لا تكشف عن تبيعة الثاني للأوّل في جميع ما يذهب إليه ويكون نسخة متوافقة معه تماماً[17]
المرحلة الثانية: وعدّه ابن النديم في مّن اعتنق مذهب الجهم بن صفوان، حيث قال: كان أوّلاً من أصحاب الجهم بن صفوان. فهشام حسب هذا الرأي الذي أورده عبد الله نعمة- من دعاة الجهمية ناظر إلى طريقتها، كان متحمساً إليها. ثم قال نعمة: ونحن لا نعرف مبلغ تأثير الجهمية في تفكير هشام. نعم، وجدنا بين بعض آرائه وبين بعض آراء الجهمية شبهاً كاملاً.[18]
المرحلة الثالثة: ذهب أصحاب هذا الإتجاه إلى القول بأنّ هشاماً انتقل إلى القول بالإمامة بالدلائل والنظر، ودان بمذهب الشيعة الإمامية، وتبع الإمام الصادق عليه السلام فانقطع إليه. ولهشام في شأن انتقاله إلى مذهب الإمامية واتباعه للإمام الصادق عليه السلام قصة طريفة يرويها الكشي عن عمر بن يزيد الكوفي السابري.[19]
شخصية هشام بن الحكم في الروايات
وردت في حق هشام عدّة روايات بين مادحة وذامة.
الروايات المادحة
أمّا الروايات المادحة فقد رويت عن كل من الإمام الصادق والكاظم والرضا والجواد عليهم السلام، وقد وصفه الأئمة عليهم السلام بقولهم: رائد حقنا، وسائق قولنا، المؤيد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أثره تبعنا، ومن خالفه وألحد فيه فقد عادانا وألحد فينا[20]، وإنه كان عبداً ناصحاً، وأوذي من قبل أصحابه حسداً منهم له،[21] وهو ناصرنا بقلبه ولسانه ويده [22]، وقال له الإمام الصادقعليه السلام: "يا هشام لا تزال مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك".[23]
الروايات الذامة
أما الروايات الذامة: فقد روي أنّه تسبب في حبس وشهادة الإمام الكاظم عليه السلام، ومفادها أنّ الإمام عليه السلام أمر هشام بن الحكم بالإمساك عن الكلام: فأمسك هشام ابن الحكم عن الكلام شهراً لم يتكلم، ثم تكلم فأتاه عبد الرحمن بن الحجاج، فقال له: سبحان الله، يا أبا محمد تكلمت وقد نهيت عن الكلام، قال: مثلي لا ينهى عن الكلام، قال أبو يحيى: فلما كان من قابل أتاه عبدالرحمن بن الحجاج، فقال له: يا هشام قال لك- أي الإمام- أيسرك أن تشرك في دم امرئ مسلم؟ قال: لا، قال: وكيف تشرك في دمي، فإن سكت وإلا فهو الذبح، فما سكت حتى كان من أمره ما كان صلى الله عليه وآله.[24]
ردّ الروايات الذامة
نوقشت الرواية بعِدّة وجوه، منها:
الوجه الأوّل: إنّ النهي كان وجّه إليه في زمن المهدي العباسي ثم أُبيح له الكلام، فقد روي أن أبا الحسن الكاظم عليه السلام بعث إليه فقال له: كف هذه الأيام عن الكلام فإن الأمر شديد. قال هشام: فكففت عن الكلام حتى مات المهدي وسكن الأمر، فهذا الأمر الذي كان من أمره وانتهائي، ثم أذن له عليه السلام بالكلام[25]
الوجه الثاني: إنّ النهي لم يكن موجهاً إلى هشام من أوّل الأمر، ولذلك قال: "مثلي لا ينهى عن الكلام"،[26] وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلامأنّه خاطب هشام بن الحكم بقوله: "مثلك فليكلم الناس"[27] يضاف إلى ذلك لو صحّت تلك الرواية لما ترحم عليه كل من الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام[28] نعم، وردت في حقه روايات أخرى ذامة ولكنها كلها ضعيفة السند إلا رواية واحدة صحيحة السند. لكنّها- كما قال السيد الخوئي في ترجمته لهشام: لا تقاوم الروايات الكثيرة وفيها الصحاح، التي قد دلّت على جلالة هشام بن الحكم وعظمته، على أن مضمون الرواية باطل في نفسه، فإنما علمنا من الخارج أنّ سبب قتل موسى بن جعفر عليهما السلاملم يكن مناظرات هشام، بل مناظراته إنما سببت الإضرار بنفس هشام، بل إن هشاماً قد امتنع عن الكلام حينما نهاه الإمام عليه السلام عن ذلك[29]
الوجه الثالث: وهناك وجه آخر للرد مفادهز لو صحت الروايات الذامة فيمكن حملها على التقية للحفاظ على سلامة هشام من القتل نظير ما صدر من الإمام في ذم زرارة بن أعين.[30]
مكانته العلمية
كان هشام من أبرز الشخصيات العلمية في عصره ومن أشهر أعلام الشيعة ومتكلميهم في القرن الثاني للهجرى. حتى أنّ علي بن إسماعيل- الذي كان هو الآخر في سجن هارون الرشيد- قال عندما سمع بأنّ السلطة تتعقب هشام بن الحكم: إنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما يمضي من العلم إن قتل! يعني إن قتل هشام يمضي معه العلم ويموت بموته، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون على ما يمضي معه من العلم ويفوت بفواته إن قتل أو مات، فلقد كان عضدنا وشيخنا وأُستاذنا. وذلك لأن علي بن إسماعيل الميثمي كان تلميذ هشام بن الحكم وخريجه.[31]
ولم يقتصر الأمر على ثناء أعلام الإمامية عليه، بل أثنى عليه أعلام السنّة أيضا، وكان من الملازمين ليحيى بن خالد البرمكيّ؛ إذ كان دائم الحضور في مجالس المناظرة التي يعقدها هذا الوزير في بغداد، وكان القيّم بمجالس نظره وكلامه. وقد حظي بهبات كثيرة وجوائز سنيّة من هارون الرشيد تدل على عظم مكانته العلمية[32]
ويدل على شخصيته العلمية الواسعه ما رووه من أنّ ملك الصفد كتب إلى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلمه الدين فدعا يحيى بن خالد يعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم لذاك إلا رجلان ببابك: هشام بن الحكم، وضرار[33]
وكان متضلعاً بالكثير من علوم زمانه وله مصنفات ومؤلفات كثيرة حتى وصفه ابن النديم بقوله: من متكلمي الشيعة ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب والنظر... وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب[34]
وقد شكك الشهرستاني في نسبة بعض التُهم إليه وقال: هذا هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته على المعتزلة فإن الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ودون ما يظهره من التشبيه[35]
وقال أحمد أمين المصري: أكبر شخصية شيعية في علم الكلام... وكان مجادلاً قوي الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة، تدل على حضور بديهته وقوّة حجّته.
بل توسع هشام في الخوض في أكثر من مجال علمي، حتى حينما دار الحديث عن العشق والحبّ أدلى بدلوه قائلاً - وفق رواية المسعودي-: العشق حِبَالةٌ نَصَبَهَا الدهر فلا يصيد بها إلا أهل التخالص في النوائب، فإذا عَلِقَ المحب في شبكتها ونشب في أثنائها فأبعد به أن يقوم سليماً أو يتخلص وشيكاً، ولا يكون إلا من اعتدال الصورة، وتكافؤ في الطريقة، وملاءمة في الهمة، له مقتل في صميم الكبد، ومهجة القلب، يعقد اللسان الفصيح، ويترك المالك مملوكاً والسيد خَوَلاً حتى يخضع لعبد عبده[36]
بل، ذهب البعض إلى أن هشاماّ كان ذا اتجاه نقدي للفلاسفة وله طعون ودحض لنظرياتهم، ومن الطبيعي أن ذلك يستلزم معرفة الرجل بتلك النظريات والرؤى التي يطروحونها ليوجه إليها سهام نقده بموضوعية وإتقان[37]
وكان لهشام يد طولى في العلوم. وتعبر رسالة الألفاظ التي تعد أول رسالة كتبت- حسب بعض التفسيرات- في مجال علم أصول الفقه[38] دليلاً على رصده لعلوم لم تبتكر بعد، ومن النظريات الأصولية التي خاض فيها وأشار إليها: حجّية الخبر المتواتر، الاستصحاب والإجماع.[39]
الهوامش
1 المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 294.
2 نعمة، هشام بن الحكم، ص42-43. صفايي، هشام بن الحكم، ص 10-11.
3 الصدر، تأسيس الشيعة، ص 360. نعمة، هشام بن الحكم، ص 40-41.
4 المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 301.
5 ابن النديم، الفهرست، ص 224.
6 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 255.
7 النجاشي، رجال النجاشي، ص 433.
8 الكِرْبَاسُ : ثوبٌ غليظٌ من القطن
9 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 437.
10 الطبرسي، أعلام الورى بأعلام الهدى، ص371.
11 المامقاني، تنقيح المقال، ص109.
12 النجاشي، رجال النجاشي، ص136.
13 ابن نعمة، هشام بن الحكم رائد الحركة الكلامية، ص 55.
14الخياط، الانتصار، ص40-41. الملطي الشافعي، التنبيه والرّد على أهل الأهواء والبدع، ص 31.
15 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 278.
16 نعمة، هشام بن الحكم، ص 56-58.
17 أسعدي، هشام بن الحكم، ص 28.
18 نعمة، هشام بن الحكم، ص 58.
19 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 60-61.
20 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 278. ابن شهر آشوب، معالم العلماء، ص 128.
21 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 270.
22 الكليني، الكافي، ج 1، ص 172. المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 294.
23 الشريف المرتضى، الشافي في الأمة، ج 1، ص 85.
24 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص270-271؛ المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 298.
25 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 265-266-269-270.
26 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 270-271.
27 الكليني، الكافي، ج 1، ص 173.
28 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 270-278. المامقاني، تنقيح المقال، ج3، ص297-298.
29 المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 298.
30 المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 298. أسعدي، هشام بن الحكم، ص 35-43.
31 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 263. المجلسي، بحار الأنوار، ج 48، ص 193. المامقاني، تنقيح المقال، ج 3، ص 296.
32 المفيد، الفصول المختارة، ص 9-10. ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص 329.
33 الراغب الأصفهاني، محاضرات الأدباء، ج 1، ص 37-38.
34 ابن النديم، الفهرست، ص 223.
35 الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 311.
36 المسعودي، مروج الذهب، ج 4، ص 238-239.
37 الطوسي، اختيار معرفة الرجال، ص 258-263. الشوشتري، مجالس المؤمنين، ج 1، ص 369-370.
38 الطوسي، الفهرست، ص355-356. الصدر، تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، ص360-361.
39 الخياط، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد، ص 139-