مَن هو الشهيد الأوّل
هو الفقيه الشيخ محمّد بن مكّي جمال الدين العاملي الجزِّينيّ. وُلد عام 734 هجريّة في جزِّين، وهي قرية من قرى جبل عامل تقع جنوب جبل لبنان. ترعرع في بيت من بيوت العلم والدِّين، وتلقّى في قريته ـ وكانت يومذاك مركزاً فكريّاً إسلاميّاً ـ مبادئَ العلوم العربيّة والفقه.
فتح الشهيد الأوّل عينيه على مخالطة العلماء ومُجالستهم، وارتاد في ريعان شبابه الندوات العلميّة التي كانت تُعقد في أطراف جبل عامل، واشترك في حلقات الدرس التي شُكّلت في المدارس والمساجد والبيوت. وقد ساهم إلى ذلك في المحاورات العلميّة التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاّب، أو بين الطلاّب أنفسهم.. حتّى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافتُه الشخصيّة وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
رحلاته ودراسته
لم يكتفِ الشهيد الأوّل بثقافته التي تلقّاها في جِزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أُخرى في مراكز إسلاميّة لتلقّي المعارف الجديدة. فرحل إلى: الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس.. وهذه المدن كانت من أهمّ مراكز التوعية الدينيّة يومذاك، لا سيّما الحلّة التي تكرّر سفر الشهيد الأوّل إليها، حيث تلقّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال: فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحليّ.
ولم يمنعه انتماؤه المذهبيّ إلى أهل البيت عليهم السّلام من أن يتعرّف على الثقافة السنيّة بعد أن بلغ شأواً في المعارف، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواءٍ علميّة رحبة. ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقليّة في البلاد الإسلاميّة، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد.. ويكفي في ذلك قول أُستاذه فخر المحقّقين فيه: لقد استفدتُ من تلميذي محمّد بن مكّي أكثر ممّا استفاد مني. كما يكفي أنّ هذا الاستاذ كتب على ظهر كتاب «القواعد»: قرأ علَيّ مولانا العلاّمة.. محمّد بن مكّي ـ أدام الله أيّامه ـ من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزتُ له رواية جميع كتب والدي (أي العلاّمة الحليّ) قُدّس سرّه، وجميع ما صنّفه أصحابنا المتقدّمون رضي الله عنهم، عن والدي بالطرق المذكورة لها.
ودرس الشهيد الأوّل على: ابن معيّة، وعميد الدين، وضياء الدين من علماء الحلّة.. وعلى قطب الدين الرازي البُوَيهيّ. فتأثر بهم تأثّراً ظهر في منهجه وكتاباته.
آثاره الفاخرة
خلّف لنا الشهيد الأوّل مؤلّفات عديدة، أحصاها بعض الباحثين إلى اثنين وثلاثين كتاباً رغم مشاغله الكثيرة وسعة مشاريعه التي كان ينهض بها، من: نشر العقائد في الشام، وتعريف المذهب الشيعيّ إلى أقطاب المذاهب الإسلاميّة، وتأسيس معاهد فقهيّة، وتربية تلاميذ فضلاء.. إلى غير ذلك من الأنشطة الفكريّة والاجتماعيّة.
وإلى الفقه والأصول، عُرف الشهيد الأوّل باطّلاعه على حقول العلوم الأخرى ما يتّصل بالعلوم العقليّة كالرياضيّات. وكان دقيق النظر مستوعباً لمختلف المسائل، عميقاً في الدراسة والبحث، نابغاً موفّقاً، فقُدّر له أن يطوّر مناهج البحث الفقهيّ، ويزيد فيها وينقّح أُسسها وينظّم أبوابها ومسائلها، ويحيط بأحكامها وفروعها، ويصوغها صياغة جديدة، مرتقياً بتأليفاته إلى مستوى المرجعيّة.
أما أهمّ آثاره فهي:
1. اللُّمعة الدمشقيّة: وهي رسالة فقهيّة، جمع فيها أبواب الفقه ولخّص فيها أحكامه ومسائله. وقد ألفّها في سبعة أيّام ولم يَحضُره من المصادر الفقهيّة غير كرّاس (المختصر النافع) للمحقّق الحليّ، وهذا يدلّ على إلمامه الواسع وإحاطته بدقائق المسائل وجزئيّاتها. كتبها جواباً على رسالة حاكم خراسان عليّ بن مؤيّد، وقد طلب منه القدوم إليه ليكون المرجعَ الدينيّ بخراسان. ولمّا كانت الأجواء لا تسمح له بمغادرة دمشق اعتذر له عن المجيء، معوِّضاً عن ذلك برسالة فقهيّة يجمع له فيها أبواب الفقه باختصار، لتكون مرجعاً هناك فيما يَعرِض للناس من المسائل.
وكان الشهيد الأوّل يومَها تحت المُراقبة في بيته من قبل السلطة، فدفع رسالته (اللُّمعة الدمشقيّة) إلى الشيخ محمّد الآويّ وزير حاكم خراسان، وأوصاه بالإسراع بها إلى الحاكم وكتمانِ الأمر.
وقد احتلّت (اللمعة) القمّة من بين النصوص الفقهيّة، إذ جمعت الإيجاز والاختصار إلى بداعة التعبير، وضمّت إلى ذلك منهجاً جميلاً للأبواب والأحكام والمسائل بشكل منتظم. وحاول الشهيد الأوّل في كتابه هذا تغيير الصياغة المألوفة، والإجادة في سبك العبارات، في جمل مختصرة، وأفكارٍ واضحة، ومصطلحات دقيقة لم يُعهَد مثلها في المتقدّمين. حتّى أصبح هذا الكتاب موردَ اهتمام العلماء، فسكبوا عليه جهودَهم شرحاً وبياناً، ومنهم الشهيد الثاني زين الدين الجبعيّ العامليّ الذي كتب (الروضة البهيّة في شرح اللُّمعة الدمشقيّة).
2. الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة: شُرح وعُلّق عليه، رغم أنّ الشهيد الأوّل لم يُتمّه حيث أدركته الشهادة.
3. النَّفليّة: تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة.
4. الألفيّة: تشتمل على ألف واجب في الصلاة.
5. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة.
6. غاية المراد في شرح نُكت الإرشاد: في الفقه، شرَحَ فيه نصوص العلاّمة الحلّي.
7. البيان.
8. أربعون حديثاً: أكثرها في العبادات.
9. القواعد والفوائد: يضمّ ما يقرب من 300 قاعدة فقهية، عدا الفوائد والتنبيهات.
10. خلاصة الاعتبار في الحجّ والاعتمار.
11. أحكام الأموات: من الوصيّة إلى الزيارة.
12. مجموعة: بثلاث مجلّدات..
إلى كثير من المقالات والرسائل والأجوبة والحواشي والشروح والإجازات، فاتحاً فيها أبواباً جديدة للباحثين بعده، وسادّاً فجواتٍ كبيرة في البحث الفقهيّ من حيث المنهج والاستدلال.
قيل فيه
للوقوف على المنزلة العلميّة للشهيد الأوّل.. يحسن بنا الاطّلاع على ما قاله العلماء الأعلام فيه. فكلماتهم حجّة على العوام، وكاشفة عن مقام هذا الرجل الذي بذل عمره في الجهاد العلميّ حتّى قُتل مظلوماً.
• قال الشهيد الثاني: شيخنا المحقّق، النِّحرير المدقّق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، محمّد بن مكّي أعلى الله درجته، كما شرّف خاتمته.
• وقال فيه المحقّق الكَرَكيّ: فقيه أهلِ البيت في زمانه، علَم الفقهاء، قدوة المحقّقين والمدقّقين.
• وكتب الحُرّ العامليّ في (أمَلُ الأمِل): كان عالماً ماهراً، فقيهاً محدِّثاً محقّقاً متبحّراً، جامعاً لفنون العقليّات والنقليات، زاهداً عابداً، شاعراً أديباً منشئاً.
• وقال الميرزا النوريّ في (مستدرك الوسائل): جامع فنون الفضائل، وحاوي صنوف المعالي، وصاحب النفس الزكيّة.
مكانته الاجتماعيّة
كان بيت الشهيد الأوّل ندوةً عامرة لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة وعلماء دمشق والأقطار المجاورة.. الذين كانوا يتردّدون على دمشق، فكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس.
ولمكانته الاجتماعيّة أصبح الشهيد الأوّل موضع حفاوة الطبقات المختلفة، مكتسباً شعبيةً واسعة، حتّى استطاع أن يتجاوز بنفوذه الروحيّ حدود الشام، فانشدّ إليه الملوك والحكّام من الأطراف، منهم عليّ بن مؤيد ملك خراسان. وكان الشيخ على اتّصال بهم، مستغلاًّ ذلك لغاياته الإصلاحيّة.. نعرف ذلك من إقناعه الحكومة في وقتها أن تحارب (اليالوش) الذي ادّعى النبوّة.
وقد سعى من خلال علاقاته الواسعة ومكانته في الأوساط العلميّة لأن ينجز مهّامَ كبيرة في مجال الإصلاح والتوجيه وتوحيد الكلمة والضرب على أيدي العابثين المغرضين، فأخمد ثورة اليالوش، وقلّص الخلافات الطائفيّة. فوافقه أناس وعارضه آخرون، فكان أن استدعاه حاكم خراسان فيما اعتقله حاكم دمشق واغتاله فيما بعد؛ لأن حكومة (بيدمر) بدمشق كانت تخشاه وتحسب له حسابه، إذ هي حكومة ضعيفة، فحاولت أن تتخلّص من الشهيد الأوّل وتقضيَ عليه، حيث ترى فيه مذهباً مُندِّداً بالانحراف والضلال.
وكان الشهيد الأوّل يَلقى أذىً متواصلاً مريراً خلال أعماله، ولكنّ الذي كان يعانيه لم يُثنهِ عن أن يُحدِث نهضةً في عالم الفقه وغيره من العلوم، وأن يفتح في جبل عامل أوّل مدرسة فقهيّة هي (مدرسة جزّين)، فأصبحت طليعة النشاط الثقافيّ الشيعيّ هناك. وقد قُدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكّرين الإسلاميّين فيما بعد.
وأخيراً الشهادة
العاملون المؤسِّسون قلّة في كلّ زمان، لكنّهم رغم قلّتهم أقوياء.. وعلى أيديهم يتمّ بناء التاريخ وتقرير مكانة الأمم. وكان من هؤلاء العاملين الشهيد الأوّل، صاحب الهمّة العالية والنفس المهذَّبة. فقد كانت حياته حلقاتٍ متّصلةً من الجهاد العلميّ والاجتماعيّ، لم يهدأ حتّى ختمها بالشهادة خاتمةً مشرّفة أدرجته في سجلّ الشامخين. وأصحاب الدماء الغيورة هم أهل العزائم والهمم، وهم المقبلون على التضحيات من أجل المبادئ الحقّة بعد مكابدةٍ من أذى الحاسدين والمنحرفين الحاقدين.. ومنهم ابن جَماعة، وهو من خدمة البلاط ومَن يسيل لعابهم للدرهم والدينار ومظاهر الترف والفخامة في القضاء والفُتيا والخطابة وإمامة المساجد.
وابن جماعة هذا كان يعاني من ذلّة نفسه حتّى أصبحت عقدةً فيه أفرزها بالتنكيل إلى درجةٍ هابه فيها الناس. ومِن جهتها قدّمت له الحكومات الجائرة مناصب كبيرة ليغاليَ في التملّق لها والخضوع أمام مؤامراتها. وقد رأى الشهيدَ الأوّل يستميل قلوب الناس ويحظى بمكانة علميّة واجتماعيّة مرموقة، فضاق عليه ذلك. ثمّ كان أن اجتمع ابن جماعة به في بيته واختلف معه في مسائل، وكان يحضر المجلسَ جمعٌ كبير من الفقهاء والأعيان، فشق عليه أن يردّ عليه الشهيد الأوّل ويُفحمه بمحضرٍ مهيب، فحاول استعمال أُسلوب الإهانة فلم ينفعه. ولهذا السبب وغيره وشِى به إلى الملك (بيدمر) فأمر بسلسلة إجراءات تنتهي إلى قتله. فكانت الخطوة الأولى نحو الهدف الخبيث هي حبسَ الشهيد الأوّل وإخفاءه عن الناس لتنقطع صِلاته بهم. فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجّ الناس خاف (بيدمر) ثورتهم وهجومهم على السجن لانقاذ الشهيد الأول أو الاستيلاء على الحكم، فحاول التعجيل بقتل هذا العالم وإراحة نفسه منه. وكانت الخطّة أن قدّم (يوسف بن يحيى) أحدُ أتْباع (اليالوش) محضراً شنّع فيه على الشهيد الأوّل، ناسباً إليه أقاويل باطلة شهد عليها سبعون من أتباع اليالوش وألفٌ من أتباع ابن جماعة. فقُدّم الملفّ إلى قاضي بيروت أو صيدا، قَدّمَ ذلك ابنُ جماعة مهدِّداً القاضي بالعزل إن لم يحكم على الشهيد الأوّل بالقتل.
وحاول الشهيد الأول الدفاع عن نفسه بحجج معقولة، إلاّ أنّه لم يُستمع له، فقُدّم وقتل رضوان الله عليه. ثمّ لم تشتفِ القلوبُ المريضة بهذا حتّى طمعت بإهانة الرجل بعد شهادته، فقد أُمِر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس، وأحاطته جماعات من الجلاوزة لئلاّ يقوم المعارضون للسلطة بإنزال جثمانه ودفنه. ومع كلّ هذا لم يَجد هؤلاء الأوباش في ذلك شفاءً لغليلهم، حتّى أمروا برجم الجسد بالحجارة، فرجمه جلاوزة (بيدمر) و (ابن جماعة). ولم يُطفئ حتّى هذا كلّه نار النفوس الحاقدة، فأمروا بحرق الجثمان. لكنّ الشهيد الأوّل مضى بمآثر كبيرة غرّاء، وأعمال جليلة وأيادٍ بيضاء، في مضمار الفقه والشريعة.. خلّدته وثبّتت اسمَه في سجلّ المجاهدين العاملين في خدمة الإسلام. وأبقى لنا الشهيد الأوّل ذِكراً جميلاً وخلُقاً صالحاً، وتراثاً يُفتخَر به ويُنتفَع منه. وكانت شهادته في التاسع من جمادى الثانية 786 هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المختاري، رضا، الشهيد الأول حياته وآثاره، لا.ط، نشر الحوزة العلمية، قم المقدسة
هو الفقيه الشيخ محمّد بن مكّي جمال الدين العاملي الجزِّينيّ. وُلد عام 734 هجريّة في جزِّين، وهي قرية من قرى جبل عامل تقع جنوب جبل لبنان. ترعرع في بيت من بيوت العلم والدِّين، وتلقّى في قريته ـ وكانت يومذاك مركزاً فكريّاً إسلاميّاً ـ مبادئَ العلوم العربيّة والفقه.
فتح الشهيد الأوّل عينيه على مخالطة العلماء ومُجالستهم، وارتاد في ريعان شبابه الندوات العلميّة التي كانت تُعقد في أطراف جبل عامل، واشترك في حلقات الدرس التي شُكّلت في المدارس والمساجد والبيوت. وقد ساهم إلى ذلك في المحاورات العلميّة التي كانت تدور بين الأساتذة والطلاّب، أو بين الطلاّب أنفسهم.. حتّى كان له فيما بعد آراؤه في مسائل الفقه والفكر والأدب، أعانته على ذلك ثقافتُه الشخصيّة وقريحته الفيّاضة وبيئته النشطة.
رحلاته ودراسته
لم يكتفِ الشهيد الأوّل بثقافته التي تلقّاها في جِزّين، بل راح يتطلّع إلى آفاق أُخرى في مراكز إسلاميّة لتلقّي المعارف الجديدة. فرحل إلى: الحلّة وكربلاء وبغداد، ومكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، والشام والقدس.. وهذه المدن كانت من أهمّ مراكز التوعية الدينيّة يومذاك، لا سيّما الحلّة التي تكرّر سفر الشهيد الأوّل إليها، حيث تلقّى العلوم فيها على يد كبار شيوخها المرموقين، أمثال: فخر المحقّقين ابن العلاّمة الحليّ.
ولم يمنعه انتماؤه المذهبيّ إلى أهل البيت عليهم السّلام من أن يتعرّف على الثقافة السنيّة بعد أن بلغ شأواً في المعارف، فاطّلع وناظر وحاجج في أجواءٍ علميّة رحبة. ونظر في ألوان مختلفة من الفكر، وارتاد مختلف مراكز الحركة العقليّة في البلاد الإسلاميّة، وجالس العلماء والأساتذة، فاستفاد وأفاد.. ويكفي في ذلك قول أُستاذه فخر المحقّقين فيه: لقد استفدتُ من تلميذي محمّد بن مكّي أكثر ممّا استفاد مني. كما يكفي أنّ هذا الاستاذ كتب على ظهر كتاب «القواعد»: قرأ علَيّ مولانا العلاّمة.. محمّد بن مكّي ـ أدام الله أيّامه ـ من هذا الكتاب مشكلاته، وأجزتُ له رواية جميع كتب والدي (أي العلاّمة الحليّ) قُدّس سرّه، وجميع ما صنّفه أصحابنا المتقدّمون رضي الله عنهم، عن والدي بالطرق المذكورة لها.
ودرس الشهيد الأوّل على: ابن معيّة، وعميد الدين، وضياء الدين من علماء الحلّة.. وعلى قطب الدين الرازي البُوَيهيّ. فتأثر بهم تأثّراً ظهر في منهجه وكتاباته.
آثاره الفاخرة
خلّف لنا الشهيد الأوّل مؤلّفات عديدة، أحصاها بعض الباحثين إلى اثنين وثلاثين كتاباً رغم مشاغله الكثيرة وسعة مشاريعه التي كان ينهض بها، من: نشر العقائد في الشام، وتعريف المذهب الشيعيّ إلى أقطاب المذاهب الإسلاميّة، وتأسيس معاهد فقهيّة، وتربية تلاميذ فضلاء.. إلى غير ذلك من الأنشطة الفكريّة والاجتماعيّة.
وإلى الفقه والأصول، عُرف الشهيد الأوّل باطّلاعه على حقول العلوم الأخرى ما يتّصل بالعلوم العقليّة كالرياضيّات. وكان دقيق النظر مستوعباً لمختلف المسائل، عميقاً في الدراسة والبحث، نابغاً موفّقاً، فقُدّر له أن يطوّر مناهج البحث الفقهيّ، ويزيد فيها وينقّح أُسسها وينظّم أبوابها ومسائلها، ويحيط بأحكامها وفروعها، ويصوغها صياغة جديدة، مرتقياً بتأليفاته إلى مستوى المرجعيّة.
أما أهمّ آثاره فهي:
1. اللُّمعة الدمشقيّة: وهي رسالة فقهيّة، جمع فيها أبواب الفقه ولخّص فيها أحكامه ومسائله. وقد ألفّها في سبعة أيّام ولم يَحضُره من المصادر الفقهيّة غير كرّاس (المختصر النافع) للمحقّق الحليّ، وهذا يدلّ على إلمامه الواسع وإحاطته بدقائق المسائل وجزئيّاتها. كتبها جواباً على رسالة حاكم خراسان عليّ بن مؤيّد، وقد طلب منه القدوم إليه ليكون المرجعَ الدينيّ بخراسان. ولمّا كانت الأجواء لا تسمح له بمغادرة دمشق اعتذر له عن المجيء، معوِّضاً عن ذلك برسالة فقهيّة يجمع له فيها أبواب الفقه باختصار، لتكون مرجعاً هناك فيما يَعرِض للناس من المسائل.
وكان الشهيد الأوّل يومَها تحت المُراقبة في بيته من قبل السلطة، فدفع رسالته (اللُّمعة الدمشقيّة) إلى الشيخ محمّد الآويّ وزير حاكم خراسان، وأوصاه بالإسراع بها إلى الحاكم وكتمانِ الأمر.
وقد احتلّت (اللمعة) القمّة من بين النصوص الفقهيّة، إذ جمعت الإيجاز والاختصار إلى بداعة التعبير، وضمّت إلى ذلك منهجاً جميلاً للأبواب والأحكام والمسائل بشكل منتظم. وحاول الشهيد الأوّل في كتابه هذا تغيير الصياغة المألوفة، والإجادة في سبك العبارات، في جمل مختصرة، وأفكارٍ واضحة، ومصطلحات دقيقة لم يُعهَد مثلها في المتقدّمين. حتّى أصبح هذا الكتاب موردَ اهتمام العلماء، فسكبوا عليه جهودَهم شرحاً وبياناً، ومنهم الشهيد الثاني زين الدين الجبعيّ العامليّ الذي كتب (الروضة البهيّة في شرح اللُّمعة الدمشقيّة).
2. الدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة: شُرح وعُلّق عليه، رغم أنّ الشهيد الأوّل لم يُتمّه حيث أدركته الشهادة.
3. النَّفليّة: تشتمل على ثلاثة آلاف نافلة في الصلاة.
4. الألفيّة: تشتمل على ألف واجب في الصلاة.
5. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة.
6. غاية المراد في شرح نُكت الإرشاد: في الفقه، شرَحَ فيه نصوص العلاّمة الحلّي.
7. البيان.
8. أربعون حديثاً: أكثرها في العبادات.
9. القواعد والفوائد: يضمّ ما يقرب من 300 قاعدة فقهية، عدا الفوائد والتنبيهات.
10. خلاصة الاعتبار في الحجّ والاعتمار.
11. أحكام الأموات: من الوصيّة إلى الزيارة.
12. مجموعة: بثلاث مجلّدات..
إلى كثير من المقالات والرسائل والأجوبة والحواشي والشروح والإجازات، فاتحاً فيها أبواباً جديدة للباحثين بعده، وسادّاً فجواتٍ كبيرة في البحث الفقهيّ من حيث المنهج والاستدلال.
قيل فيه
للوقوف على المنزلة العلميّة للشهيد الأوّل.. يحسن بنا الاطّلاع على ما قاله العلماء الأعلام فيه. فكلماتهم حجّة على العوام، وكاشفة عن مقام هذا الرجل الذي بذل عمره في الجهاد العلميّ حتّى قُتل مظلوماً.
• قال الشهيد الثاني: شيخنا المحقّق، النِّحرير المدقّق، الجامع بين منقبة العلم والسعادة، ومرتبة العمل والشهادة، محمّد بن مكّي أعلى الله درجته، كما شرّف خاتمته.
• وقال فيه المحقّق الكَرَكيّ: فقيه أهلِ البيت في زمانه، علَم الفقهاء، قدوة المحقّقين والمدقّقين.
• وكتب الحُرّ العامليّ في (أمَلُ الأمِل): كان عالماً ماهراً، فقيهاً محدِّثاً محقّقاً متبحّراً، جامعاً لفنون العقليّات والنقليات، زاهداً عابداً، شاعراً أديباً منشئاً.
• وقال الميرزا النوريّ في (مستدرك الوسائل): جامع فنون الفضائل، وحاوي صنوف المعالي، وصاحب النفس الزكيّة.
مكانته الاجتماعيّة
كان بيت الشهيد الأوّل ندوةً عامرة لأصحاب الفضل والأدب وطلاّب المعرفة وعلماء دمشق والأقطار المجاورة.. الذين كانوا يتردّدون على دمشق، فكان بيته لا يخلو من الزائرين وأصحاب الحاجات، إذ أصبح ملجأهم كما أصبح ملجأ العلماء في التدريس.
ولمكانته الاجتماعيّة أصبح الشهيد الأوّل موضع حفاوة الطبقات المختلفة، مكتسباً شعبيةً واسعة، حتّى استطاع أن يتجاوز بنفوذه الروحيّ حدود الشام، فانشدّ إليه الملوك والحكّام من الأطراف، منهم عليّ بن مؤيد ملك خراسان. وكان الشيخ على اتّصال بهم، مستغلاًّ ذلك لغاياته الإصلاحيّة.. نعرف ذلك من إقناعه الحكومة في وقتها أن تحارب (اليالوش) الذي ادّعى النبوّة.
وقد سعى من خلال علاقاته الواسعة ومكانته في الأوساط العلميّة لأن ينجز مهّامَ كبيرة في مجال الإصلاح والتوجيه وتوحيد الكلمة والضرب على أيدي العابثين المغرضين، فأخمد ثورة اليالوش، وقلّص الخلافات الطائفيّة. فوافقه أناس وعارضه آخرون، فكان أن استدعاه حاكم خراسان فيما اعتقله حاكم دمشق واغتاله فيما بعد؛ لأن حكومة (بيدمر) بدمشق كانت تخشاه وتحسب له حسابه، إذ هي حكومة ضعيفة، فحاولت أن تتخلّص من الشهيد الأوّل وتقضيَ عليه، حيث ترى فيه مذهباً مُندِّداً بالانحراف والضلال.
وكان الشهيد الأوّل يَلقى أذىً متواصلاً مريراً خلال أعماله، ولكنّ الذي كان يعانيه لم يُثنهِ عن أن يُحدِث نهضةً في عالم الفقه وغيره من العلوم، وأن يفتح في جبل عامل أوّل مدرسة فقهيّة هي (مدرسة جزّين)، فأصبحت طليعة النشاط الثقافيّ الشيعيّ هناك. وقد قُدّر لهذه المدرسة أن تخرّج عدداً كبيراً من الفقهاء والمفكّرين الإسلاميّين فيما بعد.
وأخيراً الشهادة
العاملون المؤسِّسون قلّة في كلّ زمان، لكنّهم رغم قلّتهم أقوياء.. وعلى أيديهم يتمّ بناء التاريخ وتقرير مكانة الأمم. وكان من هؤلاء العاملين الشهيد الأوّل، صاحب الهمّة العالية والنفس المهذَّبة. فقد كانت حياته حلقاتٍ متّصلةً من الجهاد العلميّ والاجتماعيّ، لم يهدأ حتّى ختمها بالشهادة خاتمةً مشرّفة أدرجته في سجلّ الشامخين. وأصحاب الدماء الغيورة هم أهل العزائم والهمم، وهم المقبلون على التضحيات من أجل المبادئ الحقّة بعد مكابدةٍ من أذى الحاسدين والمنحرفين الحاقدين.. ومنهم ابن جَماعة، وهو من خدمة البلاط ومَن يسيل لعابهم للدرهم والدينار ومظاهر الترف والفخامة في القضاء والفُتيا والخطابة وإمامة المساجد.
وابن جماعة هذا كان يعاني من ذلّة نفسه حتّى أصبحت عقدةً فيه أفرزها بالتنكيل إلى درجةٍ هابه فيها الناس. ومِن جهتها قدّمت له الحكومات الجائرة مناصب كبيرة ليغاليَ في التملّق لها والخضوع أمام مؤامراتها. وقد رأى الشهيدَ الأوّل يستميل قلوب الناس ويحظى بمكانة علميّة واجتماعيّة مرموقة، فضاق عليه ذلك. ثمّ كان أن اجتمع ابن جماعة به في بيته واختلف معه في مسائل، وكان يحضر المجلسَ جمعٌ كبير من الفقهاء والأعيان، فشق عليه أن يردّ عليه الشهيد الأوّل ويُفحمه بمحضرٍ مهيب، فحاول استعمال أُسلوب الإهانة فلم ينفعه. ولهذا السبب وغيره وشِى به إلى الملك (بيدمر) فأمر بسلسلة إجراءات تنتهي إلى قتله. فكانت الخطوة الأولى نحو الهدف الخبيث هي حبسَ الشهيد الأوّل وإخفاءه عن الناس لتنقطع صِلاته بهم. فسُجن في قلعة دمشق سنة كاملة، فلمّا ضجّ الناس خاف (بيدمر) ثورتهم وهجومهم على السجن لانقاذ الشهيد الأول أو الاستيلاء على الحكم، فحاول التعجيل بقتل هذا العالم وإراحة نفسه منه. وكانت الخطّة أن قدّم (يوسف بن يحيى) أحدُ أتْباع (اليالوش) محضراً شنّع فيه على الشهيد الأوّل، ناسباً إليه أقاويل باطلة شهد عليها سبعون من أتباع اليالوش وألفٌ من أتباع ابن جماعة. فقُدّم الملفّ إلى قاضي بيروت أو صيدا، قَدّمَ ذلك ابنُ جماعة مهدِّداً القاضي بالعزل إن لم يحكم على الشهيد الأوّل بالقتل.
وحاول الشهيد الأول الدفاع عن نفسه بحجج معقولة، إلاّ أنّه لم يُستمع له، فقُدّم وقتل رضوان الله عليه. ثمّ لم تشتفِ القلوبُ المريضة بهذا حتّى طمعت بإهانة الرجل بعد شهادته، فقد أُمِر به أن يُصلب وهو مقتول على مرأىً من الناس، وأحاطته جماعات من الجلاوزة لئلاّ يقوم المعارضون للسلطة بإنزال جثمانه ودفنه. ومع كلّ هذا لم يَجد هؤلاء الأوباش في ذلك شفاءً لغليلهم، حتّى أمروا برجم الجسد بالحجارة، فرجمه جلاوزة (بيدمر) و (ابن جماعة). ولم يُطفئ حتّى هذا كلّه نار النفوس الحاقدة، فأمروا بحرق الجثمان. لكنّ الشهيد الأوّل مضى بمآثر كبيرة غرّاء، وأعمال جليلة وأيادٍ بيضاء، في مضمار الفقه والشريعة.. خلّدته وثبّتت اسمَه في سجلّ المجاهدين العاملين في خدمة الإسلام. وأبقى لنا الشهيد الأوّل ذِكراً جميلاً وخلُقاً صالحاً، وتراثاً يُفتخَر به ويُنتفَع منه. وكانت شهادته في التاسع من جمادى الثانية 786 هـ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: المختاري، رضا، الشهيد الأول حياته وآثاره، لا.ط، نشر الحوزة العلمية، قم المقدسة