﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة/197)
تختصر الآية الكريمة أعلاه احكام الحج وفلسفته، كما تمنح الحاج بصيرة نافذة عن كيفية الحج، وبماذا يمكن أن يعود به، وكيف يتحول الحج بالنسبة إليه إلى نقطة تغيير ذاته في حياته، ليكون من قبل الحجّ وبعده نمطين من الشخصية؛ الاول: شخصيته قبل الوقوف بعرفة، والثاني: شخصيته بعد الوقوف بعرفة.
فمن الناس من يستفيد من هذه النقطة الاساسية فيعود بزاد عظيم ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ ، ومنهم من يقتصر الاستفادة القليلة.
ولاريب إن أعمال ومواقف الحجّ كلّها فوائد تعود على الحاجّ، وفي الحديث المروي عن مولانا الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام جاء: " أعظم الناس ذنباً من طاف بهذا البيت -مشيراً الى البيت العتيق- ووقف هذا الموقف -مشيراً الى الوقوف بوادي عرفة- ثم ظنّ أن الله لم يغفر له ذنبه، فهو أعظم الناس ذنـباً".
بمعنى أن الانسان يجب أن يكون على يقين خالص بأن الله قد محا كل ذنوبه وخطاياه اذا وقف في عرفات؛ الموقف الذي هو بمثابة الأوج في سلسلة أعمال الحجّ وأحكامه. فهو بحق ولادة جديدة لإنسان، حيث تتجدد روحه وإيمانه ونظرته الى حقائق الحياة وحقائق الآخرة.
ولكن نجد بعض من يعود من الحجّ، يعود الى ما كان عليه قبل ذلك بداعي ما اعتاد عليه من سلوكيات غير صالحة، بالاضافة الى احتمال هذه الفريضة الربانية على غير محملها، والاخلاص الذي ينبغي أداؤها فيها.
فالفرق شاسع للغاية بين من لا يتزود من الحج بشيء، وبين من يتزود بالتقوى. وعلى كل حال فالجميع يسمى عائداً.
إن الهدف الأكبر من أداء فريضة الحج توضحه الآية الكريمة بجلاء كامل. فهي بعد أن تشير الى أن الحجّ في أشهر معلومات، وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة، تؤكد الآية مرة أخرى بأن من أحرم للحج، عليه الالتزام بمجموعة من التعاليم تنتهي الى الولادة الجديدة، التي هي الهدف من فريضة الحجّ. وهذه التعاليم هي: نبذ الرفث، نبذ الفسوق، ونبذ الجدال خلال الحجّ.
﴿ فَلا رَفَثَ ﴾ فكل ما يتصل بالجنس والشهوة يجب أن يتهاوى وأن يبتعد الحاجّ عنه، حتى قال الفقهاء: من ثبوت الاحرام يجدر بالحاج ان يمتنع حتى عن أن يكون شاهداً في عقد الزواج. فوجوب التخلص، ولو لفترة محدودة عن جاذبية الشهوات، أمر لابد من الالتزام به.
﴿ وَلا فُسُوقَ ﴾ وللفسوق تفسيرات عديدة، ولكنّ التفسير الاشمل هو كل ما يخرج الانسان عن جادة الصواب. أي ضرورة الالتزام بهجرة الذنوب؛ الصغائر منها والكبائر. بمعنى أن في الحجّ برنامج عمل متكامل لتربية وتزكية الحاج بصورة مباشرة. فكل ذنب من الذنوب له عقاب مباشر، وقد يصل بعض انواع العقاب الى بطلان الحجّ من الاساس، وذلك إذا تمادى الحاج في ارتكابها. هذا فضلاً عن مسألة قبول الله لها أو عدم قبوله.
ويبدو ان النموذج الأشمل للفسوق في الحج هو التلبس -اعتقاداً وسلوكاً- بكل ما من شأنه التمييز الطبقي أو العرقي أو غير ذلك بين انسان وآخر. بمعنى أنّ الحجّ فريضة المساواة بين الناس أمام خالقهم، لايتفاضل أحد على أحد، ولايتفاخر أحد على أحد، والمحرمون جميعهم يحرمون بملابس ذات نوع وشكل وطريقة واحدة، ولا حق لأحد أن يبتدع شيئاً من عنده إلا ما قررته الشريعة.
إنّ الحجّ فريضة العقيدة والعمل؛ الفريضة التي تقوّم المعتقد والسلوك في آن واحد. وفي هذه الفريضة لابد للإنسان من التؤكد قولاً وفعلاً بان كرامته ومجده وشرفه وقيمته لاتكون فيما يمتلك، أو الى أي شعب أو عشيرة ينتمي، أو في مستوى علاقته الاجتماعية أو في منصبه، أو في أي شيء من مشتقات هذه الامور الزوائل. بل إن كرامة المرء لها خصوصية ذاتية. إذ الانسان أكرم من الممتلكات والاقارب والعلاقات والمنصب.. ولنفترض أنه إذا كان يعيش في مكان مجرد، لا مال له ولا إمكانات ولا علاقات.. فهل يعني أنه لا قيمة فيه أو لديه؟!
الاسلام جـاء ليعيد الناس الى هذه الحقيقة الأصلية، وقد أكدت الآيات القرآنية الكثيرة بانّ الشريف هو الانسان؛ وأن المكرّم هو الانسان وليس ما يحيط به. فشرف الدرّة بالدرّة، وليس بالخرقة التي تلفّها...
﴿وَلاَ جِدَالَ } إن الانسان الذي يغفل عن حقيقة الوجود وعن حقيقة نفسه تجده مستميتاً في الذبّ والدفاع عن نفسه، ﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ (الكهف/54) وهذه هي الإشكاليـة.
إذن؛ فالحاج يقصد بيت الله ليتطهّر؛ ليس فقط من الذنوب، وإنما من تلك الجذور العميقة الضالة في عمقه، تلك الجذور التي تتفرع عنها الذنوب. فالمذنب يذنب بشهواته المادية أو بعصبياته وجدله ومفاخرته ومباهاته واستحقاره للآخرين.. جاء الحاج ليتطهّر منها في لحظات التجلي الربانية، اللحظات التي يتعرف فيها الانسان الى حقيقة نفسه المجردة العاجزة، فيزداد معرفة بربّه. وصدق الحديث الشريف القائل: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".
ولحظات التجلّي هذه تضرب في عمق الإنسان الحاج الصادق والراغب الى الله تبارك وتعالى؛ فتراه يحنّ الى أداء الحجّ مرات ومرات. فقد أشرق نور الرب على قلبه وأحسّ بالاطمئنان والسكينة واللّذة الروحية التي لا لذّة فوقها رغم الصعوبات والمتاعب الجسدية التي لاقاها أثناء أدائه مناسك الحجّ. فتراه مرة أخرى يبحث ويفتّش عن تلمس تلك اللّذة من جديد.
إن من كرم الله سبحانه وتعالى علينا أنه يرينا آياته إيماناً ويقيناً كما أراها لنبيه موسى بن عمران عليه السلام فخرّ صعقاً. والتفاوت يقترن بمستوى الايمان والمنزلة. والمقدار البسيط الذي يرينا الله تبارك وتعالى إياه يثبت لنا ويدفعنا نحو التكامل والاتصال بمقام تلقي النور الأقدس.
وبعد ذلك يقول الله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه ُاللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾.
والخير الذي يمكن للانسان ان يفعله أثناء الحجّ بوجه خاص؛ الاخلاص لله سبحانه وتعالى، ووعي الاهداف الأصلية لأنواع المناسك والإتيان بها.
والتزوّد الذي يأمر الله تعالى به، هو التزوّد بالتقوى. والتقوى عبارة عن حالة نفسية لا تنمو بالمال ولا بالدروس ولا بالمحاضرات، بل التقوى ملكة نفسية ينميها المرء من خلال تجارب عملية تترك في ذاته آثاراً ايجابية عميقة.
إن القرآن الكريم خاطب الناس خطاباً مباشراً دعاهم الى التزوّد من التقوى اثناء ادائهم مناسك الحجّ، والمهم في الانسان الحاج أن يسعى الى الحصول على التقوى، مهما كانت درجة هذا الحصول والتزوّد والطموح. ومن يحصل على هذه الملكة النورانية، هو الذي يتلمس السعادة ويذهب الى الله عز وجلّ بقلب سليم.
وهنا تجدر الاشارة الى ان أمام الانسان رحلة شاقة ووعرة في حياته، لا يعلم مداها بأي حال من الاحوال. فقد تقصر وقد تطول، وهو يجهل موعد مواجهته لملك الموت المفاجئة. ولكن بين هذا وذاك كان الله تبارك وتعالى قد أطلعه كل الإطلاع على إن الأمر المهم في حياته هو أن يمارس ارادته في التصدي لوساوس الشيطان الرجيم الذي لا ينفك عن محاصرته والتغرير به، حتى ولو كان على جبل عرفات..
فلحظة واحدة يرجع فيها الانسان الى نفسه، ليعلن فيها عزمه على التغيير والمسير نحو نور الله. فالرب تبارك وتعالى لا يطلب من المؤمن غير إشارة بسيطة ليقترب منه، ويفتح أمامه أبواب الرحمة والسعادة الأبدية. وما هذه المصائب والبلايا التي تواجه الانسان في عمره إلا صعقات لإيقاضه من غفلته وتنبيهه عما هو فيه ليتوب ويعمل صالحاً فيما ترك.
ولا نبالغ ان قلنا: ان فريضة الحجّ انما هي محطة لاستراحة الحاج من ذنوبه، ومركز مثير لإيقاف الدوامة الشيطانية الهوجاء التي تعصف به. فهـي محطة جديرة باحترام الانسان كي لا تفقد قيمتها بانشغالـه بمسائـل
ثانويـة وتافهـة.
إن قصد الهدف الاسمى من الحجّ بتجرد، والتوجه الى لبّ المسألة ، هو المرآة الناصعة التي ينعكس فيها قولـه تعالـى: ﴿ وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَاب ﴾.
فليس كل انسان ينخرط في عداد من سماهم القرآن الكريم ﴿أُوْلِي الأَلْبَاب﴾ بل هي تسمية تصدق على الذين يستهدفون عمق القضايا والمفاهيم فحسب. أما اولئك الذين يقنعون بالظاهر من الامور، فحري بهم العيش على السطح، أو يكتفوا من البحر بزبده.
نسأل الله سبحانه أن يجمعنا وإياكم على الهدى، ويزيّننا بالتقوى، وان نتخذ من الحج مناسبة لولادة التاريخيـة الجديـدة1.
1- الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.