الشيخ علي سائلي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد الله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
عليه نتوكل وعنده مفاتح القلوب
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا ومولانا أبى القاسم محمد (ص) الطيبين الطاهرين المعصومين المكرّمين المظلومين
الشخصيات العظيمة والمرموقة والكبيرة لا يُعرفون في عصرهم وفي زمانهم، هؤلاء الجبال لا يُمكن رؤيتها عن قُرب , نحن بحاجة إلى أن نبتعد من الجبال كثيراً حتى نضع الجبال في كامل العين .
إن الشخصيات المرموقة هكذا لا يُمكن أن نعرفهم في عصرهم بل يجب أن يمر عليهم تاريخ طويل , طبعاً تتذكرون كلام الشهيد مطهري حين قال:
إن السيد الطباطبائي يُعرف بعد مرور مئة سنة وبعد مضي مئة سنة يُعرف كتاب «تفسير الميزان» فإذا كان السيد الطباطبائي يُعرف بعد مئة سنة فكم نحتاج إلى أن يمر على شخصية الإمام الخميني من الزمان ومن التاريخ حتى نعرف ماذا أنجز الإمام الخميني؟
الإبتكارات العرفانية
لهذه الشخصية إبداعات وابتكارات ووجهات نظر ورؤى في علم الفقه وأصول الفقه والفلسفة وتفسير القرآن الكريم وحتى العرفان والآن لا يسمح الوقت في الدخول بكل هذه التفاصيل ولكن أتحدث باختصار، فأقول:
للإمام الخميني إبداعات وابتكارات حتى في العرفان بحيث لا مثيل لتلك الابتكارات والإبداعات على ما اعرف وعلى ما وصلت إلي من معلومات
وأنا لا أبالغ في هذا الموضوع، حتى في مجال إبداعات الإمام في العرفان فأنا لا أستطيع أن ادخل إلى العرفان ككل ولكن أود أن اختار جزءاً بسيطاً فقط على أن ندخل أكثر في مناسبة أخرى ,
قبل أن أشير إلى إنجازات الإمام في ساحة العرفان احتاج إلى استحضار مقدمتين صغيرتين:
أما الأولى: نحن نعتقد من خلال القرآن الكريم أن للأمة بما هي أمة وان للمجتمع بما انه مجتمع شخصية كما أن لكل إنسان كانسان شخصية ونفسية وروحية يتحدث القرآن عن هذا الموضوع في عدة آيات مثلاً يقول القرآن « كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ » الله سبحانه وتعالى في بعض الآيات يتحدث عن الشخص وأحياناً يتحدث عن الأمة « كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ » يعني للأمة بما أنها أمة عمل خاص وفي آية أخرى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ» كأنه يتحدث عن أن لكل إنسان اجل وفي سورة الحج يقول الله:«لكل أمة جعلنا منسكاً» وفي سورة غافر يقول الله: «وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ» وفي سورة الجاثية يقول الله: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا» إذن موضوع كل هذه الآيات هو المجتمع والأمة بما هو مجتمع.
أما المقدمة الثانية: فان الجزء الرئيسي في العرفان هو العرفان العملي يعني السير والسلوك يعني حركة الإنسان في منازل السير والسلوك فمثلاً المنزل الأول اليقظة يدخل السالك إلى منزل اليقظة ثم ينتقل إلى منزل التوبة ثم إلى منزل التطهير ثم إلى الذكر هكذا يجب على كل سالك أن يسافر سفراً روحانياً في أربعة أسفار:
السفر الأول من الخلق إلى الحق والسفر الثاني من الحق إلى الحق بالحق والسفر الثالث من الحق إلى الخلق بالحق أما السفر الرابع من الخلق إلى الخلق بالحق
فالعارف لا بد أن يسافر بها وإلا لا يكون عارفاً طبعاً دخول السالك في كل منزل يختلف عن دخول الإنسان إلى غرفته يُمكن أن يدخل الإنسان إلى غرفته ثم يخرج من دون أي تغيير أما السالك عندما يدخل إلى منزل من منازل السلوك يتغير ويتحول بحيث يصبح من سنخ المنزل السالك الذي يدخل إلى منزل التوبة فان كينونته تتحول وتتغير وتكون مصداقاً كاملاً للتوبة، وهكذا بالنسبة إلى التطهير والذكر ومنزل العشق...
بعد دخول السالك إلى هذه المنازل تظهر تدريجياً تغيرات في كيانه يتغير ويتحول إلى وجود آخر طبعاً هذا يحتاج إلى تفاصيل , اترك هذه التفاصيل و أشير إلى بعض الحالات الخاصة.
يقول جناب ابن سينا في كتاب «الإشارات والتنبيهات» فيذكر أمرين: العارف شجاعٌ فكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت وهو جوادٌ (سخي) فكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل.
الوصف الأول للعارف انه شخص شجاع ثم يقول ابن سينا:
وكيف لا؟ انظروا كيف يطرح ابن سينا هذا السؤال !
لا يقول كيف يكون العارف شجاعاً بل كيف لا يكون العارف شجاعاً لان شجاعة العارف أمر طبيعي يجب أن يكون العارف شجاعاً…
وإذا وجدتم أو رأيتم عارفاً ليس شجاعاً في هذا المجال يُطرح السؤال لماذا لا يكون شجاعاً؟
ولذلك يقول وكيف لا؟.
الإمام (قده) والأسفار
إن أول شخص استطاع أن يعطي هذا السفر وهذا العرفان وبنقله من ساحة الشخص إلى ساحة المجتمع بحيث يسافر الشعب والمجتمع بحسب المقدمة الأولى هو الإمام قدس سره، الإمام اخذ من القرآن أن للمجتمع روح وشخصية وفي ظل هذه المعرفة استطاع وأدرك الإمام انه يجب أن يعطي الشعب هذا السير والسلوك وينقله من الحالة الشخصية إلى المجتمع والى الساحة.
فبدأ بالسفر سافر من الخلق إلى الحق هل تعرفون أحدا من العرفاء تمكن من نفخ روح العرفان العملي في الشعب وبدل أن يسافر شخصياً سفراً روحياً جعل الشعب يسافر من الخلق إلى الحق ومن الحق إلى آخر الأسفار الأربعة ولذلك بعد فترة ظهرت تلك الحالات العرفانية التي تحدثنا عنها واشرنا إليها في مجال العرفان الشخصي , حيث ذكرت أمرين : الشجاعة والجود والسخاء.
فظهرت هذه الحالات في الشعب الإيراني فأنا لا أتحدث عن شخص بل عن أمة تجسدت فيها روح العرفان فقامت في وجه الولايات المتحدة الأمريكية منذ 27 سنة وهذا ليس مزاحاً بل قدم هذا الشعب كثير من التضحيات وظهرت حالات أخرى مثل حالة الجود والسخاء بالرغم من حاجته إلى أمواله في الداخل ومع ذلك لم ينسى الشعب الفلسطيني طول هذه الفترة الطويلة حتى بعد نجاح حركة حماس في فلسطين قال الشعب الإيراني انه مستعد .
فلا تحللوا هذه الأمور كأمور استثنائية وبطريق الصدفة ولكن هذا الشعب كبُر ونضج وأصبح شاباً وقوياً والمهم انه شعبٌ مؤمن وعارفٌ . المهم أن الشعب والأمة بل شخصية الأمة أصبحت عارفة , هذا هو المهم ...
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.