لو نظـرنا الى الحجـاج وهم يطوفون حول البيت الحرام، وسألناهم من أي البلاد هم، لوجدنا انهم قد اجتمعوا من كل بلد، قرب او بعد. ولو اخذنا مثلا الف حاج كعينة، لوجدنا ان كل واحد من هؤلاء ربما هو من منطقة تختلف عن مناطق الاخرين. وهذا يزيد ايمان الامة بنفسها وبقيمها وبكتابها وبرسولها، وبالتالي بالله سبحانه وتعالى.
لذلك جاء في الحديث الشريف عن الامام الصادق عليه السلام انه اذا الكعبة اهملت، فلا يُنظرون. أي ان الامة الاسلامية كلها ستدمر وتزول. فبقاء الامة ببقاء الناس حول الكعبة.
لقد جعل الله سبحانه الكعبة هـدى ورحمـة وبركـة للامة الاسلامية جميعاً وفي كل منطقة من المناطق، حتى البعيدة منها. فالامة انما تعيش بالكعبة. لذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ أي قلنا لابراهيـم.. يا ابراهيـم هنا مكان البيـت﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ﴾ من هذا نستفيد، ان هناك علاقة بين بيت الله الحرام، وبين التوحيد في المجتمعات.
ثم قال ربنا عز وجل: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكّـَعِ السُّجُـودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ (الحج/26-27)
لقد جاء ابراهيم عليه السلام بزوجته هاجر وطفلـه الصغير اسماعيـل، وتركهم في تلك الارض القاحلة بين الجبال بأمر الله سبحانه وتعالى، والذي امره ايضاً بأن يذهب الى اعلى جبل قُبيس ويدعو الناس للحج..
وحينما قال ابراهيم: يا رب، لمن ادعو، فليس هنـاك احد في هذا الوادي، وبين هذه الجبال التي ليس فيها ماء ولا كلاء. جاءه الجواب: ان يا ابراهيم عليك الاداء وعلينا البلاع.
وهكذا صعد ابراهيم ذلك الصديق الى اعلى جبل قُبيس ونادى: ايها الناس، هلموا للحج.. وكما جاء فـي الحديـث عن أبي عبد الله الامام الصادق عليه السلام قال: " لمّا أمر الله عز وجل ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ببنيان البيت وتـمّ بناؤه أمره أن يصعد ركناً ثم ينادي في الناس: ألا هلمّ الحج، فلو نادى هلمّوا الى الحج لم يحجّ إلاّ من كان يومئذ إنسياً مخلوقاً، ولكن نادى هلمّ الحج، فلبّى الناس في اصلاب الرجال: لبيك داعي الله لبيك داعي الله، فمن لبّى عشراً حج عشراً، ومن لبّى خمساً حجّ خمساً، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك، ومن لبّى واحداً حج واحداً، ومن لم يلبّ لم يحج ".
لذلك ترى الناس حين يأتي موسم الحج ترى قلوبهم تتلهف للحج، واذا بالامور تتهيأ لبعضهم فيوفقون للحج، ولا تتهيأ للبعض الاخر فلا يتوفقون. وهذا التوفيق، انما جاء منذ ذلك اليوم.
بعد ذلك قال الله تعالى: ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾
ان الحج ليس مجرد عبادة فردية، وانما اضافة الى ذلك هي عبادة تتصل بالحياة وبتطوير الامم. فقد جعل الله سبحانه ارض مكة منطقة حرة اعطاها حرمة كاملة، هو سماها البيت الحرام الذي لا يحق للانسان فيه ان يتجاوز ويعتدي على أي شيء، حتى النملة اذا كانت على بدنه فلا يحق له ان يأخذها ويرميها على الارض، وانما عليه ان يضعها في مكان أمين، وحتى الطير لا يحق للحاج ان يكشه. لذلك تجد ان كل شيء هناك آمن.
وكما يقول الشاعر العربي قبل الاسلام النابغة الذبياني:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها***ركبـان مكـة بين العـين والسلــم
أي قسما برب الذي اعطى اماناً لهذه الطيور العائدة، التي يمسح على ظهرها المسافرون الى مكة، وهي بين تلك الاحطاب وتلك الشجيرات البرية التي تسمى بالعين والسلم.
البيت الحرام، والمسجد الحرام، المشعر الحرام، ماذا يعني ذلك ؟ انه يعني الحرية، بل اقصى انواع الحرية. فهناك يجوز للانسان ان يتحدث بكل صراحة، ولا يحق لاحد ان يعتدي على احد.
وبالرغم من ان هذه الآيات الكريمة لم تطبق بالصورة الكاملة، الا ان ما طبـق منها حتى الان في المسجد الحرام افادت الامة الاسلامية فائـدة كبـيرة.
ان الحج ينضح كل عام في الامة الاسلامية تياراً من الامل والايمان والتحدي للمشاكل الى ابعد الحدود. وهذا التيـار عليـنا ان نسزيد منه عبر تطهير انفسنا والذهاب الى الحج وقد ادينا كل الحقوق والواجبات التي علينا من قبل الله والناس، وخصوصاً حقوق الارحام. وبذلك نزداد في الحج طهراً ونقاءاً وايماناً بـإذن الله.
ثم ان علينـا ان نبرمج لحجنـا، فخـلال الايـام التي يقضيهـا الحـاج في ضيافة الرحمن عز وجل، علينا ان نستفيد من تلك الساعات بأقصى قدر ممكن من الاستفادة بذكر الله عز وجل، وبتلاوة القرآن. ففي الحديث الشريف: " من ختم القرآن في مكـة لم يمت حتى يرى رسول الله صلى الله عليه وآله ويرى منزله من الجنة ".
ثم الدعاء والتبتل لرب العزة، والدعاء لاخواننا المؤمنين، ولذرياتنا، ولقضاء حوائجنا لدنيا والآخرة، انه سميع مجيب وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
--------------------------------------------------------------------------------
* الحج ضيافة الله / محمد تقي مدرسي.